الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
أما بعد:
صفة الحج: يستحب للمحرم بالحج أن يدخل مكة قبل الوقوف بعرفات، وهذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وسائر السلف والخلف.
ويستحب إذا وصل إلى الحرم أن يستحضر في قلبه ما أمكنه من الخشوع والخضوع بظاهره وباطنه، ويتذكر جلالة الحرم ومزيته على غيره، ثم يأتي بمناسك العمرة على ما فصلناه في كتاب العمرة.
والمتوجه إلى الحج في أشهر الحج: إما أن ينوي أن يتمتع بالعمرة إلى الحج، أو ينوي الإفراد -إفراد الحج- أو ينوي القران بين العمرة والحج، فالمتوجه إلى هنالك يحرم من مكان الإحرام، ويلبي بما أراد أن يهل به: لبيك عمرة، أو لبيك حجة وعمرة، أو لبيك حجة، فيحرم بهذا النسك عن نفسه أو عن غيره، فيقول: لبيك عمرة عن فلان، أو لبيك عمرة ويقصد بها عن نفسه.
فيفعل أفعال العمرة إذا كان متمتعاً، والمتمتع سيصل إلى البيت فيطوف بالبيت ثم يسعى بين الصفا والمروة، ويتحلل بمناسك العمرة كما قدمنا قبل ذلك.
إذا انتهى المحرم من السعي بين الصفا والمروة، فإن كان معتمراً متمتعاً فليحلق رأسه أو يقصر، فإذا فعل ذلك صار حلالاً تحل له النساء وكل شيء كان يحرم عليه بالإحرام، سواء ساق هدياً أم لا، والقيد هنا: لا بد أن يسوق الهدي وينوي عمرة، بخلاف ما لو ساق الهدي ونوى حجاً ولبى بالحج: لبيك اللهم حجاً، فهنا لا يجوز له أن يفسخ إلى عمرة طالما أنه ساق معه الهدي ولبى بحجة مفردة، وإذا كان قارناً بين العمرة والحج، وساق معه الهدي فليس له أن يفسخ، إنما الذي يجوز له أن يفسخ الحج إلى عمرة هو الذي لم يسق الهدي.
كذلك من ساق الهدي ولبى بالعمرة، فهذا لم ينو أصلاً حجاً إنما نوى عمرة، فعلى ذلك بعدما ينتهي من مناسك العمرة له أن يتحلل.
إذاً: يجوز للمفرد والقارن اللذين لم يسوقا الهدي أن يفسخا الحج إلى عمرة، فيتحللان فيصيران متمتعين بالعمرة إلى الحج، والمفرد والقارن إذا لم يكن معهما الهدي سواء طافا بالبيت أو لم يطوفا، فالأفضل إذا كانا ينويان الفسخ فليكن قبل الطواف بالبيت.
وإذا أراد أن يعتمر ما بين عمرته وحجته فالراجح أنه يجوز له ذلك، فلو فرضنا أنه قدم بعمرة في شهر شوال مثلاً، ثم اعتمر ونوى أن يمكث حتى الحج، وبعدما مكث أسبوعاً أو أسبوعين أو ثلاثة أسابيع أحب أن يعتمر، فالراجح أن له أن يعتمر إذا طال شعره بحيث إنه يمكن أن يقصر منه، أو يمكن أن يحلق شعره، فيجوز له أن يعتمر مرة أو أكثر على الراجح في ذلك.
إذاً: في يوم التروية الجميع يخرج؛ الذي لم يكن محرماً سيحرم الآن، والذي كان محرماً أصلاً ويفك إحرامه سيهل ويقول: لبيك حجاً ويتوجه إلى منى.
كذلك من أتى إلى مكة من الغرباء وغيرهم يحرمون في هذا اليوم، ويستحب أن يقول عند إحرامه: اللهم حجة لا رياء فيها ولا سمعة، فقد قال النبي صلوات الله وسلامه عليه: (اللهم حجة لا رياء فيها ولا سمعة، لبيك اللهم لبيك، ومحلي حيث حبستني، لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك).
وروى ابن ماجة عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (حج النبي صلى الله عليه وسلم على رحل رث وقطيفة تساوي أربعة دراهم أو لا تساوي، ثم قال: اللهم حجة لا رياء فيها ولا سمعة).
وهذا الحديث فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أهل على هذه الصورة، وفيها تواضعه عليه الصلاة والسلام، وهو تواضع عظيم جداً، وهو رسول الله عليه الصلاة والسلام، ومع ذلك حج على رحل رث، والرحل: هو الجهاز الذي يوضع على ظهر البعير ليجلس عليه صاحب البعير، والرث بمعنى: قديم بالٍ خلق، فلم يكن شيئاً جديداً، بل كان قديماً بالياً، وحج صلى الله عليه وسلم وهو يقول: (اللهم حجة لا رياء فيها ولا سمعة).
وهذا الرحل الموضوع على ظهر البعير كان ثمنه يساوي أربعة دراهم أو لا يساوي، هذا ثمن الرحل الذي كان على ظهر بعير أو ناقة النبي صلى الله عليه وسلم!
وفي الصحيحين عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (أن تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك).
والاشتراط دليله ما جاء في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: (دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على
وروى الشافعي عن سويد بن غفلة قال: قال لي عمر بن الخطاب رضي الله عنه: يا أبا أمية ! حج واشترط، فإن لك ما اشترطت، ولله عليك ما اشترطت.
إذاً: الذي يحج ويشترط فله ما اشترط، كما جاء في الحديث.
ودليل الأربعة الأيام فعل النبي صلى الله عليه وسلم، ولذا قلنا: إن الاحتياط في ذلك الأخذ بما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أقام في مكان وقصر الصلاة، فاعتبر أن له حكم المسافر.
والنبي صلى الله عليه وسلم لما قدم مكة مكث بها، فقدم لصبح رابعة، إذاً: صبح اليوم الرابع كان في مكة، فمكث الرابع والخامس والسادس والسابع، والثامن سيخرج إلى منى، فمكث أربعة أيام ينتظر يوم التروية حتى يخرج إلى منى، فهو لم يكن في خلال هذه الفترة ينوي أن يذهب إلى أي مكان آخر عليه الصلاة والسلام.
وهنا كان يقصر عليه الصلاة والسلام وهو في مكة، فدل على أن الأربعة الأيام إذا مكثها المسافر في مكان سفره وليس في مكان إقامته فله أن يقصر فيها.
فخرج صلى الله عليه وسلم من مكة وتوجه إلى منى، وهناك قصر الصلاة، ثم خرج من منى وتوجه إلى عرفات وقصر الصلاة، وفي المزدلفة صلى العشاء قصراً، ثم رجع صلى الله عليه وسلم إلى منى فكان في تحركه صلى الله عليه وسلم يقصر من الصلاة، وجمع في عرفات والمزدلفة كما قدمنا.
إذاً: لو أن إنساناً سافر إلى الحج في أول ذي القعدة مثلاً؛ فسيبقى أمامه على يوم التروية فترة طويلة، فإذا مكث في مكة فليتم الصلاة، وليحرص أن يصلي مع الإمام، وسواء كان سيمكث فترة بسيطة أو طويلة فليحرص على الصلاة مع الجماعة، وإذا صلى مع الجماعة فيلزمه الإتمام مع الإمام، فلا يصح أن يصلي الإمام ويتم وهذا يقصر خلفه.
فإذا مكث فترة طويلة أو قصيرة وصلى مع الإمام فيلزمه الإتمام، لكن إذا كان ينوي أقل من أربعة أيام وأدركته الصلاة وهو وحده مثلاً، أو في جماعة وقد فاتته الصلاة مع الإمام، فله أن يقصر الصلاة؛ لأنه رجع بحكم المسافر، هذا إذا كان سفره أو مكثه في مكة أقل من أربعة أيام.
وإذا خرج الحجاج إلى منى في يوم التروية فلهم القصر من حيث خرجوا؛ لأنهم أنشئوا سفراً تقصر فيه الصلاة، وإن كان سفراً قصيراً، فإن الذي سيخرج من مكة متوجهاً إلى منى فالمسافة ثلاثة أميال، حوالي ستة كيلو أو نحو ذلك، فهذا أقل ما يكون من مسافات السفر، وله القصر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قصر هنالك.
فيخرج من منى متوجهاً إلى عرفات أيضاً، والمسافة مثل هذا الحد حوالي ستة كيلو أو نحوها، وكذلك سيقصر في عرفات.
ويتوجه الحجيج إلى منى بعد صلاة الصبح من مكة بحيث يصلون الظهر في أول وقتها بمنى، ثم يصلون بها العصر والمغرب والعشاء كل صلاة في وقتها.
وفي منى أنت ذاهب للعبادة، فلا معنى للجمع بين الصلوات، ولم يجمع النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة في منى، فالماكث في منى متفرغ للعبادة، فيصلي كل صلاة على وقتها، ولكن يترخص بما ترخص به النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه قصر صلاة الظهر والعصر والعشاء فتترخص بما فعل صلوات الله وسلامه عليه.
وفي الصحيحين عن عبد العزيز بن رفيع قال: سألت أنس بن مالك : (أخبرني بشيء عقلته عن النبي صلى الله عليه وسلم: أين صلى الظهر يوم التروية؟ قال: بمنى، قلت: فأين صلى العصر يوم النفر؟ قال: بالأبطح) إذاً صلى النبي صلى الله عليه وسلم الظهر يوم التروية بمنى، فالسنة أن تخرج من مكة في يوم التروية في وقت يسمح لك أن تصل إلى منى عند وقت الظهر أو قبل ذلك بحيث تصلي الظهر في منى.
نفر النبي صلى الله عليه وسلم في يوم النفر الثاني، وهو آخر أيام العيد، وهو اليوم الرابع من أيام العيد، وصلى العصر بالأبطح الذي ذكر في الحديث السابق، واسمه المحصب، والمعرس، والبطحاء من هنالك على حدود مكة، فالنبي صلى الله عليه وسلم صلى هنالك صلاة العصر، وهذا المكان يكون أسمح في صلاة النبي صلوات الله وسلامه عليه.
والأصل أن كلمة (البطحاء) من انبطح الوادي واتسع، ويقال لها: المحصب والمعرس، وهي قريبة من مقبرة الحجون في مكة.
وروى أبو داود عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر يوم التروية والفجر يوم عرفة بمنى) يوم التروية يوم الثامن، فصلى الظهر في منى، ويوم عرفة صلى الفجر في منى، أي: أنه صلى الفجر وخرج من منى بحيث إنه كان في نمرة قبل صلاة الظهر، وهنالك خطب بالناس كما ذكرنا.
وروى مسلم عن جابر رضي الله عنه قال: (فلما كان يوم التروية توجهوا إلى منى فأهلوا بالحج، وركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، ثم مكث قليلاً حتى طلعت الشمس، وأمر بقبة من شعر تضرب له بنمرة، فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا تشك قريش إلا أنه واقف على المشعر الحرام كما كانت قريش تصنع في الجاهلية، فأجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى عرفة، فوجد القبة قد ضربت له بنمرة فنزل بها، حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء فرحلت له، فأتى بطن الوادي فخطب الناس).
إذاً: خطب النبي صلى الله عليه وسلم الناس خارج عرفة في نمرة، ونمرة ليست من عرفة، فهو نزل في عرنة، وخطب الناس في نمرة، والآن المسجد الذي هنالك -مسجد نمرة- الجزء الذي يخطب فيه الإمام هو من نمرة، وكأن المسجد جزءان: جزء منه من نمرة الذي هو مقدمة المسجد، وهنالك علامات موضوعة تبين للناس أن هذا الحد ليس من عرفة، والثلثان المتأخران في المسجد داخلان في عرفة.
إذاً: هذه عدد الأيام التي يكمل الحجاج فيها حجهم، ولكن يمكن أن تقل عن ذلك فتصير خمسة أيام مثلاً إذا نفر في يوم النفرة الأولى، وقد تقل عن ذلك أيضاً لو أنه ذهب يوم عرفة إلى عرفة، فتصير أربعة أيام مع النفرة الأولى، ولو أنه ذهب ليلة العيد قبل الفجر إلى عرفة فسيبقى يوم العيد، ويوم القر، وينفر في اليوم الثاني، فتكون يومين ونصفاً أو يومين وقليلاً، وهذا أقل ما يكون في أيام الحج.
جاء في الصحيحين عن محمد بن أبي بكر الثقفي قال: إنه سأل أنس بن مالك وهما غاديان من منى إلى عرفة: (كيف كنتم تصنعون في هذا اليوم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: كان يهل منها المهل فلا ينكر عليه، ويكبر المكبر منا فلا ينكر عليه).
الذين هم ذاهبون إلى عرفة منهم من يهل بالتوحيد، ومنهم من يلبي، ومنهم من يكبر، ولا أحد ينكر على أحد في ذلك.
وفي الخطبة يبين لهم الإمام كيفية الوقوف، وشرطه، وآدابه، والدفع من عرفات إلى مزدلفة.. وغير ذلك من المناسك التي بين أيديهم، ويحرضهم فيها على إكثار الدعاء والتهليل.. وغيرهما من الأذكار والتلبية في الموقف، ويخفف هذه الخطبة، أي: أن الخطبة بعرفة تكون خطبة خفيفة وليست طويلة جداً بحيث يشق على الناس، ولعله هناك يتعذر على الناس الوضوء، فإذا كانت الخطبة طويلة جداً فلعل أحدهم يحدث ولا يقدر على أن يصل إلى دورات المياه، فعلى ذلك تكون بحيث لا يشق على الناس ولا يطيل بهم.
وفي حديث جابر في حجة الوداع: (ثم أذن، ثم أقام فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر، ولم يصل بينهما شيئاً، ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى الموقف)، فبعدما خطب الناس في نمرة ركب صلى الله عليه وسلم وتوجه إلى الموقف بعرفة.
والسنة إذا فرغ من الخطبتين أو الخطبة أن ينزل فيصلي بالناس الظهر ثم العصر جامعاً بينهما، فالصلاة الآن صلاة جمع بين الظهر والعصر، فيجمعهما جمع تقديم ويقصرهما، وهذا من أدلة جواز جمع التقديم.
ويسر الإمام بالقراءة؛ لأنه لم ينقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الجهر، فلم يجهر في هذه الصلاة، وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم في هذا المكان بين الصلاتين بسبب النسك في هذا اليوم، وإلا فاليوم السابق لم يجمع صلى الله عليه وسلم فيه، وما يأتي من أيام بعد ذلك لم يجمع فيها النبي صلى الله عليه وسلم، إذاً كان الجمع في عرفة والمزدلفة بسبب النسك، حتى يكون هناك وقت طويل للدعاء ما بين صلاة الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء، فيكون هناك وقت طويل للمناسك والدعاء.
وهذا الجمع يجوز لكل أحد هناك سواء كان من أهل مكة أو عرفات أو المزدلفة، حتى أهل مكة فهم في عرفات سيصلون مع الإمام هذه الصلاة، ويجمعون فيها، وحتى لو كانوا ساكنين في عرفة نفسها فلهم أن يجمعوا أيضاً مع الإمام في ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بين الظهر والعصر بنمرة، وبين المغرب والعشاء بالمزدلفة، ومعهم حينئذ أهل مكة وغيرهم.
روى أبو داود عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (غدا رسول الله صلى الله عليه وسلم من منى حين صلى الصبح صبيحة يوم عرفة، حتى أتى عرفة فنزل بنمرة، وهي منزل الإمام الذي ينزل فيه بعرفة، حتى إذا كان عند صلاة الظهر راح رسول الله صلى الله عليه وسلم مهجراً) ووقت الهجير: قبل وقت الظهر، فذهب في الوقت الذي يشتد فيه الحر، ويطلق أيضاً على أنه ذهب مبكراً إليها، وهو وقت الهجير أيضاً، قال: (فجمع بين الظهر والعصر، ثم خطب الناس، ثم راح فوقف على الموقف من عرفة)، فيكون بعدما انتهى من الخطبة صلى الله عليه وسلم توجه إلى عرفة فوقف فيها.
والسنة الجمع بين الظهر والعصر في أول وقت الظهر مقصورتين، وهذا جمع تقديم، ولا يلزم المأمومين نية الجمع، والأفضل أن يكون الإنسان مستحضراً ذلك، ولكن هل يجب بحيث نقول: لا تصح الصلاة إلا بهذه النية؟ هذا أمر صعب، ولو كان هذا فرضاً لبين لهم النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يصلي ولقال: انووا الجمع، فلم يقل ذلك صلى الله عليه وسلم، وإنما صلى بهم الظهر، ثم أقام المؤذن فصلى بهم النبي صلى الله عليه وسلم العصر، فدل على أن نية الجمع ليست شرطاً لصحة الصلاة.
إذاً: لا يلزم المأمومين نية الجمع للمشقة في إعلام جميعهم؛ ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع هناك من غير أن ينادي بالجمع، ولا أخبرهم بأن نيته واجبة، وقد كان فيهم من هو قريب العهد بالإسلام، ومن لا يعلم وجوب هذه النية، فلو فاتت إنساناً الصلاة مع الإمام لجاز له الجمع والقصر في صلاته وحده.
بمعنى: لو فرضنا أنك لم تدرك الصلاة مع الإمام هنالك، وكثير من الحجاج لا يدركون الصلاة مع الإمام، والذي لا يدرك الصلاة يصلي في المكان الذي هو فيه، فله أن يصلي جماعة، وله أن يصلي منفرداً بحسب ما يتيسر له في ذلك، وإذا صلى فيصلي الظهر والعصر جمعاً وقصراً أيضاً على هذه الهيئة.
مسألة: لو أنه صلى الظهر فأتم، وصلى العصر فأتم، أو صلى الظهر على وقتها والعصر على وقتها هل تصح منه؟ نعم، صلاته صحيحة، ولكنه خالف سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فإن السنة أن يجمع بين الظهر والعصر، سواء تيسر له أن يصلي مع الإمام أو أنه لم يقدر على ذلك فصلى منفرداً أو في جماعة أخرى، فيصلي جمع تقديم الظهر والعصر ويقصر الصلاة.
ولو جمع بعض الناس قبل الإمام منفرداً أو في جماعة أخرى، أو صلى إحدى الصلاتين مع الإمام والأخرى منفرداً جمعاً وقصراً جاز، وكذلك القول في الجمع بين المغرب والعشاء في مزدلفة، ففي عرفة من الممكن أن تذهب فتصلي مع الإمام، وفي مزدلفة يصعب أن تصلي مع الإمام، فبحسب ما ينزل الحجاج يصلون في المكان الذي هم فيه، فتجدهم جماعات متفرقين، فهذه المجموعة يصلون هنا، وهؤلاء يصلون هنا، فعلى ذلك صلوا المغرب والعشاء في المزدلفة، وقبل ذلك صلوا الظهر والعصر في عرفة، بحسب ما يتيسر لهم.
وفي الصحيحين عن طارق بن شهاب عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أن رجلاً من اليهود قال له: يا أمير المؤمنين! آية في كتابكم تقرءونها لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيداً، فقال: أي آية؟ قال: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة:3]، فقال عمر رضي الله عنه: قد عرفنا ذلك اليوم والمكان الذي نزلت فيه على النبي صلى الله عليه وسلم، وهو قائم بعرفة يوم جمعة.
إذاً: يوم الجمعة هو يوم عيد أصلاً للمسلمين، ونزلت الآية في يوم عرفة وهو أعظم أيام السنة، فهذه الآية من أعظم الآيات التي أنزل الله سبحانه وتعالى وذكر الله فيها إتمام الدين وإكماله، فنزلت في يوم عرفة أعظم أيام العام وفي يوم جمعة وهو يوم عيد للمسلمين.
روى البخاري عن سالم بن عبد الله بن عمر قال: كتب عبد الملك إلى الحجاج : ألا يخالف ابن عمر في الحج، فجاء ابن عمر رضي الله عنه وأنا معه يوم عرفة حين زالت الشمس، فصاح عند سرادق الحجاج ، فخرج وعليه ملحفة معصفرة فقال: ما لك يا أبا عبد الرحمن ؟! قال: الرواح إن كنت تريد السنة، قال: هذه الساعة؟! قال: نعم، قال: فأنظرني حتى أفيض على رأسي ثم أخرج، فنزل حتى خرج الحجاج فسار بيني وبين أبي.
إذاً: هنا عبد الملك بن مروان أمر الحجاج بن يوسف أن يسمع لـعبد الله بن عمر ، ويتعلم منه سنة النبي صلى الله عليه وسلم في الحج.
يقول سالم بن عبد الله بن عمر : (فسار بيني وبين أبي) يعني: سالم يمشي مع أبيه والحجاج في الوسط بينهما، قال: فقلت -هذا سالم يقول وكان عالماً من العلماء رضي الله عنه-: إن كنت تريد السنة فاقصر الخطبة وعجل الوقوف، إذا كنت تريد سنة النبي صلى الله عليه وسلم اقصر الخطبة، وعجل الوقوف بعرفة، قال: فجعل ينظر إلى عبد الله ، فلما رأى ذلك عبد الله قال: صدق، يعني: فعلاً هذه هي سنة النبي صلى الله عليه وسلم، أن تقصر الخطبة وألا تطول، وأن تعجل الوقوف ولا تشق على الناس ولا تملهم.
إذاً: وقت الوقوف ما بين الزوال عند الظهر إلى طلوع الفجر الثاني ليوم النحر، فمن وقف بعرفات لحظة من هذا الوقت وهو من أهل الوقوف صح وقوفه، وأدرك بذلك الحج، ومن فاته هذا الزمان فقد فاته الحج.
هذا هو وقت الوقوف، وفيه خلاف بين الجمهور وبين الإمام أحمد رحمه الله، فالإمام أحمد مذهبه أن الوقوف من فجر يوم عرفة حتى طلوع الفجر من يوم العيد، فكأن الوقت سيشمل حوالي أربعة وعشرين ساعة، فمن وقف خلال هذا الوقت فحجه صحيح، والراجح هو قول الجمهور في هذه المسألة.
إذاً: وعليه فمن كان غير معذور، وتمكن من الوقوف فذهب في يوم عرفة بعد الفجر ووقف بعرفة ثم انصرف على ذلك مع قدرته على أن يقف بعد الزوال، فهذا خالف ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم وما فعله الخلفاء الراشدون من بعد النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا بخلاف المعذور، فنقول: لو أن إنساناً ذهب إلى عرفة من بعد الفجر ونيته أن يمكث في عرفة إلى غروب الشمس، ثم حدث له حادث فاضطروا أن يأخذوه وينقلوه إلى المستشفى فلا شيء عليه، فهنا نفرق بين المعذور وعدم المعذور على قول الإمام أحمد رحمه الله، أما غير المعذور فلابد أن يكون وقوفه بعد الزوال بعرفة، والأفضل أن يقف من حين يفرغ من صلاتي الظهر والعصر المجموعتين إلى أن تغرب الشمس، ثم يدفع عقب الغروب إلى مزدلفة، فلو وقف بعد الزوال ثم أفاض قبل الغروب فحجه صحيح، هذا الذي وقف بعد الزوال وأفاض بعد العصر مثلاً، فإن رجع إلى عرفة بحيث تغرب عليه الشمس هنالك ومكث جزءاً من الليل هنالك ثم أفاض إلى المزدلفة فلا شيء عليه، فإن لم يرجع إلى عرفة بحيث جاء وقت غروب الشمس أو وقت الليل ولم يكن هنالك فعليه دم.
والوقوف بعرفة ركن من أركان الحج؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الحج عرفة)، وجاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال في حديث: (وقد أتى عرفة قبل ذلك ليلاً أو نهاراً) فهنا نكر صلى الله عليه وسلم في سياق الإثبات، ومعناه: أقل قدر وقف بعرفات ليلاً أو نهاراً.
وهذا احتج به الإمام أحمد رحمه الله على أنه لو وقف بعرفة نهاراً في أي وقت بالنهار فحجه صحيح، وإن كان سيلزمه دم إذا لم يقف إلى أن تغرب الشمس هناك.
ولو لم يمكث أصلاً فيها، بل مر مسرعاً في طرف أو طريق من طرقها، أو كان نائماً على بعير فانتهى البعير إلى عرفات، فمر بها البعير ولم يستيقظ راكبه حتى فارقها، أو اجتازها في طلب غريم هارب بين يديه، أو بهيمة شاردة، أو غير ذلك مما هو في معناه، فيصح وقوفه في جميع هذه الصور ونحوها.
وهذه الصور ليس شرطاً أن تكون هي فقط، فقد يوجد غيرها، فلو أن إنساناً عاقلاً ليس مجنوناً ولا مغمى عليه وقف في عرفات ولو لحظة، وأدرك الوقت الذي هو وقت الوقوف، وبعد ذلك انطلق من هذا المكان، فله حجة كاملة، وحجته صحيحة.
لكن الخلاف في أنه لو أدرك هذا الجزء قبل وقت الزوال، والخلاف بين الحنابلة والجمهور:
فالجمهور على أنه لا يحسب له شيء، والحنابلة على أنه لو كان قبل وقت الزوال فقد أدرك جزءاً من النهار فتحسب له حجة.
وقد ذكرنا أن الأرجح في ذلك: أن هناك فرقاً بين المعذور وبين غيره، ويحسب له الوقوف بعرفة سواء عرف أن هذه عرفة أو لم يعرف، وقد كنت راكباً باصاً مع الناس ووصلوا إلى عرفة ووقفوا في الباص وهم لا يعرفون هذا المكان أنه عرفة، فهم وقفوا مع الناس، ومكثوا فترة طويلة لم يعرفوا أنها عرفة إلى أن انصرفوا منها، ووصل بهم الباص إلى عرفة بعد غروب الشمس، وصاحب الباص مر بعرفة وهو لا يعرف أنهم دخلوا ولا أنهم خرجوا، فهم قد أدركوا عرفة في هذا اليوم، سواء بنية أو بغير نية، طالما أنه دخل ومر بها فحجه صحيح.
إذاً نقول: من وقف بعرفة وهو من أهل الوقوف، وعقله حاضر، وليس مغمى عليه مثلاً، فإذا وقف بها وهو مغمى عليه أو مجنون أو سكران فلا يصح حجه؛ لذهاب عقله في ذلك، فلا بد من حضور عقله في وقت وقوفه بعرفة.
ولو تخلل الجنون بين الإحرام والوقوف، أو بينه وبين الطواف، أو بين الطواف والوقوف، وكان عاقلاً في حال فعله فلا يضر ذلك، كالإنسان الذي تأتيه نوبات صرع مثلاً، فإذا كان في عرفات قبل أن يصل إلى عرفات جاءته نوبات صرع، ولم يدر نهائياً إلى أن طلع الفجر وهو على هذه الحال، فلا حج لهذا الإنسان، لكن إن كان يفيق ويصرع، فهذا حجه صحيح طالما أنه أدرك ولو لحظات أو لحظة في عرفة، وهو من أهل الوقوف وعقله معه.
إذاً: السنة الوقوف في أي مكان في عرفة، خاصة الموقف الذي وقف فيه النبي صلى الله عليه وسلم، وجبل الرحمة ليس من السنة الصعود عليه، لكن لو صعد إنسان ووجد مكاناً فوق الجبل بحيث يكون بعيداً عن الناس فلن نقول له: إنه حرام عليه، ولكن لا تشق على نفسك؛ فإن الشمس شديدة الحرارة جداً والإنسان يمكن أن يتأذى بالمسير والصعود إلى الجبل، وإلى أن يصعد الجبل قد يظل ساعة أو ساعتين، وتضييع هذا الوقت في ترك الدعاء خسارة، وبعد أن تصعد يمكن أن تتعب وتنام بقية اليوم، وعلى ذلك فاجلس في المكان الأسهل عليك لتنتبه للدعاء في هذا اليوم.
وجبل الرحمة يقال له: ألال، وهذا اسم من أسمائه.
أما حد عرفات فقد قال الشافعي رحمه الله: هي ما جاوز وادي عرنة، ونحن قلنا: إن وادي عرنة بجوار عرفة، ونمرة أيضاً هنالك، فلا عرنة ولا نمرة من عرفات، يقول الإمام الشافعي : ما جاوز وادي عرنة إلى الجبال القابلة مما يلي بساتين ابن عامر، وقد وضعت الآن علامات حول أرض عرفة، ولا توجد البساتين التي يذكرها، ولكن هناك علامات تحدد مكان عرفة.
أحدهما: كونه في أرض عرفات وفي وقت الوقوف.
والثاني: كون الواقف أهلاً للعبادة كما قدمنا.
ولهذا يشترط لصحة الوقوف: أن تقف في عرفة، والثاني: أن يكون هذا الواقف أهلاً للعبادة، لا مجنوناً ولا مغمى عليه، ولا سكران.
وهناك فرق بين الذي يحج بإنسان مجنون، فالنية نية العاقل الذي يحج به كالذي يحج بالطفل الصغير، أو بين مجنون يكون وحده، أو من يجن، فإذا ذهب الإنسان لوحده وهناك ذهب عقله فوقف في عرفات وهو لا يدري ما عرفات، ولا يدري ما هي المناسك، فهذا لا حج له.
أحدها: أن يدخل أرض عرفات بعد صلاتي الظهر والعصر إن تيسر ذلك، وهنا لن يستطيع كل إنسان أن يأتي بجميع السنن مع الزحام الشديد، فعلى ذلك كل إنسان بحسب ما يتيسر له.
الثاني: سماع الخطبة أو الخطبتين، والجمع بين الصلاتين.
الثالث: تعجيل الوقوف عقب الصلاتين، فإذا أنهى صلاة الظهر والعصر فليعجل الوقوف، ويمكن للإنسان أن يقدر على ذلك، فيمكث في المسجد هنالك ويدعو الله عز وجل فترة طويلة إلى أن تنكسر حدة الشمس ثم يخرج ويقف في الخارج، حتى ولو مكث في المسجد الذي هو في الجزء من عرفة إلى غروب الشمس فلا شيء عليه، المهم أن يستغل وقته في الدعاء وذكر الله؛ لأن هذا أعظم أيام السنة.
الرابع: من السنة أن يكون مفطراً، سواء أطاق الصوم أم لا، وسواء ضعف به أم لا؛ لأن الفطر أعون له على الدعاء، وهذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم في هذا اليوم، إلا أن يكون عليه الهدي ولم يجده فصام ثلاثة أيام ويوم عرفة من ضمن الثلاثة الأيام، والأفضل أن يقدم الصيام قبل ذلك.
وفي حديث أم الفضل رضي الله عنها أنهم شكوا في صوم النبي صلى الله عليه وسلم يوم عرفة، فبعثت إليه بقدح من لبن فشربه عليه الصلاة والسلام، وهنا أرادت أن تعرف هل هو صائم صلى الله عليه وسلم في يوم عرفة أم ل، فأرسلت إليه بقدح من لبن، فشرب أمام الناس ليبين أنه ليس صائماً.
الخامس: أن يكون متطهراً؛ لأنه أكمل، فلو وقف وهو محدث أو جنب أو حائض أو نفساء أو عليه نجاسة أو انكشفت عورته صح وقوفه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم لـعائشة رضي الله عنها حين حاضت: (ما لك أنفست؟ قالت: نعم، قال: إن هذا أمر كتبه الله على بنات آدم، فاقضي ما يقضي الحاج، غير ألا تطوفي بالبيت).
إذاً: في الوقوف الإنسان سيذكر الله ويقرأ القرآن، والأفضل أن يكون على وضوء، ولكن لا يتهيأ الوضوء لكل إنسان، وأحياناً يصعب أن يتوضأ، وأن يمسك نفسه، والشريعة قد رخصت للإنسان في هذا اليوم، فيجمع الظهر والعصر؛ لأنه يصعب عليه أن يتوضأ للظهر ومن ثم ينتظر حتى العصر ويتوضأ مرة أخرى، فشرع له أن يجمع بين الصلوات في سائر هذا اليوم، ولو أنه كان متوضئاً في هذا الوقت ليذكر الله عز وجل على أكمل أحواله فهذا حسن، ولو لم يقدر فلا شيء عليه.
ولا تشترط الطهارة في شيء من أعمال الحج والعمرة إلا في الطواف وركعتي الطواف فقط.
السادس من السنن: أن يقف مستقبل الكعبة، فأفضل الهيئات أنك إذا أردت الدعاء تتوجه إلى الكعبة، وسواء توجهت إليها أو إلى غيرها فلا شيء عليك فالدعاء صحيح، ولكن أفضل الهيئات وأكملها ما كان في الصلاة.
السابع: أن يقف حاضر القلب فارغاً من الأمور الشاغلة عن الدعاء.
الثامن: إن كان يشق عليه الوقوف، أو كان يضعف به عن الدعاء، أو كان ممن يقتدى به ويحتاج الناس إلى ظهوره ليستفتى ويقتدى به فليفعل ما تيسر له، فقد ثبت في الصحيحين: (أن النبي صلى الله عليه وسلم وقف راكباً)، فسواء وقف على قدميه، أو ركب على ناقة، أو قعد في الباص أو في السيارة، أو جلس في المسجد، أو جلس على الأرض، كل هذا جائز، فإذا كان بعض وقته واقفاً يدعو الله كان أحسن.
التاسع: أن يحرص على الوقوف في موقف رسول الله صلى الله عليه وسلم بحسب الإمكان، وهو عند الصخرات في أسفل جبل الرحمة بحيث لا يؤذي ولا يتأذى.
العاشر: أن يكثر من الدعاء والتهليل والتلبية والاستغفار والتضرع، وقراءة القرآن، فهذه وظيفة هذا اليوم، ولا يقصر في ذلك، وهو لب الحج ومطلوبه.
يوم عرفة قال لنا النبي صلى الله عليه وسلم: (الحج عرفة)، ولذلك يحرص المؤمن على أن يكون هذا اليوم كله خاصاً لذكر الله سبحانه وتعالى، فيذكر الله عز وجل، ويحرص على أن ينام جيداً في الليلة السابقة، وهذا شيء يقصر فيه الكثيرون، فتجد الناس في ليلة عرفة ساهرين: تعال نشرب شاي.. تعال نتسامر.. تعال كذا، غداً عرفة ماذا سنعمل غداً؟! فيضيعوا الليل، ومهما نصحت الناس في هذا اليوم تجد أن الكثير يقصر فيه، فيكون صاحياً إلى أن يأتي يوم عرفة ويسمع الخطبة ثم ينام إلى غروب الشمس، فيضيع على نفسه شيئاً عظيماً في هذا اليوم، الذي هو يوم الدعاء؛ ولذلك احرص على أن تأخذ قسطاً من النوم والراحة ليلة عرفة حتى تنشغل بالدعاء يوم عرفة، فتدعو وأنت مستيقظ ومنتبه، وإذا دعوت ربك وأنت نائم فبدلاً من أن تدعو لنفسك تدعو عليها، فهنا تنتبه لهذا اليوم، ولا تشغل غيرك، فلا تشغل الناس في هذا اليوم.
وبعض الناس يحب أن يتعرف على الآخرين، ويستمر في الكلام ويحكي معهم في يوم عرفة، فيضيع هذا اليوم في ذلك، وإلى قبل الغروب بقليل يقول: تعال ندعو! فلابد أن تحرص على هذا اليوم من وقت الزوال إلى غروب الشمس، فتحرص فيه على الإكثار من ذكر الله سبحانه ما استطعت إلى ذلك سبيلاً.
لكن هل معناه: أنه يحرم أن تنام قليلاً مثلاً في اليوم نصف ساعة أو ساعة؟ نقول: لا يحرم، ولكن بقدر المستطاع الإنسان يستغل وقته، فهذا اليوم أعظم أيام السنة وأكثرها بركة.
ولا يتكلف السجع في الدعاء، فهو يوم تظهر فيه المسكنة والتواضع والخشوع، وليس وقتاً تظهر فيه البلاغة بين يدي الله عز وجل ولا الفصاحة، فتدعو ربك سبحانه وتعالى على أنك فقير إليه، ومحتاج إليه، والفقير عندما يسأل ويطلب لا يسجع في الكلام، ولا يترنم ولا يتغنى بالدعاء، ولكن الإنسان يدعو ربه كهيئة المسكين الفقير المتخشع المتذلل المحتاج إلى ربه سبحانه؛ فيكون أقرب إلى الإجابة.
ولا بأس بالدعاء المسجوع إذا كان محفوظاً، والإنسان لا بد أن يحفظ دعاء من أدعية النبي صلى الله عليه وسلم، مثل قوله: (اللهم إني أسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وأن تغفر لي وترحمني، وأن تتوب علي)، فلك أن تدعو بما قال النبي صلوات الله وسلامه عليه، حتى وإن كان الدعاء فيه سجع.
ولو أن الإنسان اصطحب معه مذكرة أو كتاباً فيه أدعية النبي صلى الله عليه وسلم كان أفضل، فتدعو بكل ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفي هذا اليوم تدعو لنفسك ولأهلك ولإخوانك، ولمن علمك، ولمن أهدى أو أسدى إليك جميلاً.
ويستحب أن يخفض صوته بالدعاء، ويكره الإفراط في رفع الصوت، واعلم أن الموقف مليء بالناس، فأنت عندما ترفع صوتك وتصرخ، والثاني يرفع صوته ويصرخ، والثالث لا ينتبه لما يقول من الدعاء، فهذا من الأخطاء التي يقع فيها الكثيرون من الحجاج، فكل يهتم بنفسه وغيره لا دخل له فيه، فلعل غيرك يتأذى بصوتك المرتفع، وفي هذا اليوم تجد كثيراً من الناس معهم مكبرات صوت، كل خيمة معهم مكبر يمسكه أحدهم ويدعو ويصرخ والناس يصرخون وراءه، والذين في الخيمة الثانية كذلك، والثالثة كذلك، فتكون الأدعية مختلطة، والذي يريد أن يدعو بشيء لا يعرف ما يقول؛ لأن الأصوات مزعجة ومختلطة.
فلذلك ينبغي للإنسان الذي يدعو حتى وإن كان في جماعة ويريد أن يعلمهم أو يدعو وهم يؤمنون فليكن على قدر ما يسمعهم فقط بدون مكبرات صوت، حتى لا تتداخل أصواتهم، ويزعج الناس بعضهم بعضاً.
فقد جاء في حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: (كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فكنا إذا أشرفنا على واد هللنا وكبرنا وارتفعت أصواتنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا أيها الناس! اربعوا على أنفسكم)، أي: ارفقوا بأنفسكم، (اربعوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصم ولا غائباً، إنه معكم إنه سميع قريب)، تبارك اسمه وتعالى جده سبحانه وتعالى.
ويستحب أن يكثر من التضرع والخشوع والتذلل والخضوع، وإظهار الضعف والافتقار، ويلح في الدعاء ولا يستبطئ الإجابة، بل يكون قوي الرجاء للإجابة؛ لحديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يستجاب لأحدكم ما لم يعجل، يقول: دعوت فلم يستجب لي)، فادع كثيراً وألح في الدعاء على ربك تبارك وتعالى، ويقيناً سوف يستجيب الله سبحانه لك: إما بأن يعطيك هذا الذي سألته، أو أنه يكف عنك من الشر بقدر ما سألت من الخير، أو أنه يدخر ذلك لك ليوم القيامة حسنات كأمثال الجبال، فكله خير من الله سبحانه، فادع وأنت واثق في إجابة الكريم سبحانه.
وعن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما على الأرض مسلم يدعو الله تعالى بدعوة إلا آتاه الله إياها، أو صرف عنه من السوء مثلها، ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم).
(ما على الأرض) أي: كل إنسان على وجه الأرض يدعو ربه سبحانه بهذا القيد، (ما على الأرض مسلم يدعو الله سبحانه بدعوة إلا آتاه الله إياها، أو صرف عنه من السوء مثلها)، بشرط: (ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم) لم يدع على أبيه، ولا على أمه، ولا على أخيه، ولا يدعو بإثم، أي: يطلب من الله عز وجل ما هو محرم ولا يجوز له أن يطلبه، فلا يسأل شيئاً فيه إثم، ولا يدعو بقطيعة رحم، فهذا الإنسان الذي أتى بالدعاء بشرطه يستجاب له.
ففرح الصحابي بذلك وقال للنبي صلى الله عليه وسلم: (إذاً نكثر)، طالما أن الأمر هكذا، والله يعطي لكل إنسان فنحن سندعو الله كثيراً، قال: (إذاً نكثر، قال: الله أكثر)، فمهما أكثرت أنت من الدعاء فالله يعطيك على ما تسأل الأكثر والأكثر بفضله وكرمه سبحانه.
وفي رواية أخرى قال: (وإما أن يدخر له في الآخرة)، فالإجابة على ثلاثة أنواع، قال: (إلا آتاه الله إياها، أو صرف عنه من السوء مثلها، وإما أن يدخرها له في الآخرة).
والدعاء له آداب، فتفتتح دعاءك بتحميد الله وتمجيده تبارك وتعالى وتسبيحه، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليكن لك عبرة في فاتحة الكتاب، فأنت تقرأ الفاتحة في كل صلاة من أجل أن تقول: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6]، فلا تقرأ مباشرة: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6]، وإنما تبدأ الفاتحة بالبسملة في سرك، وتحمد الله سبحانه، وتمجده وتثني عليه، وفي النهاية تقول: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5] ثم تطلب من الله سبحانه، فليكن ذلك لك موعظة فيما إذا دعوت الله سبحانه، فلتبدأ بذكره وبحمده وتبجيله وتمجيده والثناء عليه سبحانه، والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم سل ربك ما تريد.
فيفتتح دعاءه بالتحميد والتمجيد لله تعالى، والتسبيح، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويختم دعاءه بمثل ذلك، وليكن متطهراً متباعداً عن الحرام والشبهة في طعامه وشرابه ولباسه ومركوبه.. وغير ذلك مما معه، فإن هذه آداب الدعاء في جميع الدعوات.
وليحذر الإنسان من الحرام، فلا تأتي في يوم عرفة فتجد شيئاً مرمياً في الأرض فتأخذه، ولعل الإنسان يحدثه الشيطان: خذها ولن تجد لها أحداً فتكون لك بعد ذلك، فيأخذ شيئاً ليس من حقه أن يأخذه، فهنا احذر أن تأخذ من الناس أشياء ليست لك، فيجد إنسان مع آخر شراباً فيخطفه ويشربه في يوم عرفة، يمزح معه بذلك، والآخر غير راضٍ بذلك، ومن ثم سيرفع يده ويقول: يا رب! يا رب! ويجد إنساناً يأكل فيأخذ منه طعامه فيأكله ويتركه بغير طعام، ويدخل المسجد فيطأ الناس ويؤذيهم، ويضرب هذا، ويلكم هذا، ثم يجلس يدعو بعد ذلك!!
وتجد مجموعة آخرين مع بعض مولعين الشيشة والسجائر، ومعهم راديو يسمعون الموسيقى والأغاني! وقبل غروب الشمس يقول لك: تعال يا شيخ ادع لنا قليلاً من أجل أن ندعو معك، وهو يدعو وهم يؤمنون!
فهذا يوم عظيم، يوم العبودية لله والخشوع بين يديه سبحانه، فاحذر من الحرام في هذا اليوم وفي غيره.
وليكثر من التسبيح والتهليل والتكبير ونحوها من الأذكار، وأفضله ما رواه الترمذي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير).
فهذا من الأذكار التي تحرص عليها وتقولها كثيراً، وإذا كان خير ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم وخير ما قاله الأنبياء قبل النبي صلى الله عليه وسلم كلمة التوحيد (لا إله إلا الله)، فليكثر منها الحاج، وخاصة في هذا اليوم.
وليكثر من التلبية رافعاً بها صوته، ومن الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وينبغي أن يأتي بهذه الأذكار كلها، فاليوم طويل، والوقت واسع، فليقل شيئاً من الدعاء والذكر والتسبيح والتحميد والتهليل والتلبية والتكبير والاستغفار وغير ذلك.
ويدعو منفرداً وفي جماعة، وإذا كان يدعو وحده فهذا حسن، وإذا كنت في الدعاء سواء في يوم عرفة، أو وأنت تطوف بالبيت، أو وأنت على الصفا والمروة فلتخفض صوتك، فقد أسمعت من ناجيت، ودعوت ربك سبحانه وأسمعته.
فيدعو العبد لنفسه ولوالديه ولمشايخه وأقاربه وأصحابه وأصدقائه وأحبابه، وسائر من أحسن إليه، وسائر المسلمين، والإنسان الذي يدعو للمؤمنين الله عز وجل يثيبه على ذلك، وقد جاء في حديث للنبي صلى الله عليه وسلم: (من قال: اللهم اغفر لي وللمؤمنين أعطي بكل واحد منهم حسنة) فتدعو لنفسك وتقول: اللهم اغفر لي وللمؤمنين، وسوف تعطى على كل واحد منهم حسنة.
وكذلك دعاء المرء لأخيه بظهر الغيب يؤمن عليه الملك، ويقول: آمين، ولك بالمثل، فأنت إذا دعوت لأخيك دعا لك الملك فكان أعظم، فلذلك المؤمن يدعو لنفسه ولا ينسى إخوانه وأهله، فيدعو لإخوانه وأحبابه.
وينبغي أن يكرر الاستغفار والتلفظ بالتوبة من جميع المخالفات مع الندم بالقلب، فيتوب إلى الله عز وجل في هذا اليوم وغيره، ويكثر من البكاء مع الذكر والدعاء، فهناك تسكب العبرات، وتستقال العثرات، وترتجى الطلبات، وإنه لمجمع عظيم وموقف جسيم، فيجتمع فيه خيار عباد الله الصالحين، وأوليائه المخلصين، والخواص من المقربين، وهو أعظم مجامع الدنيا.
وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبداً من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة فيقول: ما أراد هؤلاء؟)، يوم عرفة أعظم الأيام التي يرتجى فيها العتق من النار، فهو أعظم يوم يعتق الله عز وجل فيه عباده من النار.
وليكثر من أعمال الخير في يوم عرفة وسائر أيام عشر ذي الحجة، فهي أيام عظيمة، ثبت في صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما العمل في أيام أفضل منها في هذه -يعني: الأيام العشر- قالوا: ولا الجهاد؟ قال: ولا الجهاد، إلا رجل خرج يخاطر بنفسه وماله فلم يرجع بشيء).
إذاً: يوم عرفة أعظم أيام العام، فالإنسان المؤمن يعرف فضل هذا اليوم وقدره، سواء كان في عرفة -وهذا أفضل ما يكون- أو في غيرها، فله أن يدعو ربه ويرجو عتقه من النار.
فالبعض منهم رأوا أن هذا لا بأس به، فجاء عن الحسن أنه قال: أول من عرف بالبصرة ابن عباس رضي الله عنهما، أي: أنه أول من أظهر ذلك في يوم عرفة، فكان يذهب إلى المسجد ويدعو ويجلس فيه لذكر الله سبحانه وتعالى.
وقال الإمام أحمد : أول من فعله ابن عباس وعمرو بن حريث ، وقال الحسن وبكر وثابت ومحمد بن واسع : كانوا يشهدون المسجد يوم عرفة، وقال الإمام أحمد : لا بأس به، إنما هو دعاء وذكر لله، فقيل له: تفعله أنت؟ يقال للإمام أحمد ولم ينكر على من يفعله: أتفعله أنت؟ قال: أما أنا فلا.
وروي عن يحيى بن معين : أنه حضر مع الناس عشية عرفة، وفي سنن البيهقي عن أبي عوانة قال: رأيت الحسن البصري يوم عرفة بعد العصر جلس فدعا وذكر الله عز وجل، فدخل الناس المسجد واجتمعوا.
وعن شعبة قال: سألت الحكم وحماداً عن اجتماع الناس يوم عرفة في المساجد؟ فقال: هو محدث.
وعن إبراهيم النخعي قال: هو محدث.
وعن الحسن قال: أول من صنع ذلك ابن عباس ، كأنه يصوب ذلك.
ففيه خلاف فكرهه جماعات منهم: نافع مولى ابن عمر ، وإبراهيم النخعي والحكم وحماد ومالك بن أنس رحمهم الله، واستحبه غيرهم.
والراجح: أنه إذا مكث في المسجد فيجوز في أي وقت من العام، وفي أي وقت من اليوم، ويوم عرفة هو من هذه الأيام، والإنسان يكون في المسجد محبوساً على طاعة الله طالما أنه لم يحدث حدثاً، فلم يكن في بيت الله عز وجل ليبتدع بدعة من البدع، فهو جالس للاعتكاف ولدعاء الله عز وجل، وقد فعل ذلك ابن عباس رضي الله عنه، ولا مانع من ذلك أن يرجو رحمة الله في هذا اليوم.
ووقت الوقوف بين زوال الشمس يوم عرفة وطلوع الفجر ليلة النحر، ولو وقف ببطن عرنة لم يصح وقوفه، والدليل على وقت الوقوف: ما جاء في حديث رواه أبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجة وأحمد من حديث عروة بن مضرس الطائي قال: (أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمزدلفة حين خرج إلى الصلاة، فقلت: يا رسول الله! إني جئت من جبل طيء، أكللت راحلتي، وأتعبت نفسي، والله ما تركت من حبل إلا وقفت عليه)، فالرجل جاء من جبل طيء وهو لا يدري أين يقف، والوقوف في عرفة له شرط معين، فيجلس على جبل معين ويقف في مكان معين، فلذلك الرجل مر بالجبال كلها، بحيث إنه لا يفوته شيء، قال: (ما تركت من حبل) يعني: مكاناً مرتفعاً (إلا وقفت عليه، فهل لي من حج؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من شهد صلاتنا هذه -يعني: صلاة الفجر في المزدلفة- ووقف معنا حتى ندفع، وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلاً أو نهاراً. فقد أتم حجه وقضى تفثه)، فقوله: (ووقف بعرفة قبل ذلك ليلاً أو نهاراً) هذه نكرة، فهو يدل على أنه لو وقف أقل الأوقات ليلاً أو نهاراً فقد تم وقوف هذا الإنسان، وصح حجه، وقضى تفثه.
وفيه بيان أن المعذور له أن يقف ولو جزءاً من الليل ولو لحظة قبل الفجر، وحجه صحيح، أما غير المعذور فلا بد من الوقوف من الظهر إلى غروب الشمس، وهذا الذي فعله النبي صلى الله عليه وسلم، أو بحسب ما يصل إلى هنالك، فتغرب عليه الشمس هنالك.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر