تكلمنا في الحديث السابق عن بعض شروط وجوب الحج، فمن الشروط التي ذكرها أهل العلم: الإسلام، والبلوغ، والعقل، والحرية، والاستطاعة. وهذه الشروط اتفقوا عليها، فلا يجب الحج على إنسان إلا أن يكون مسلماً، عاقلاً، بالغاً، حراً، مستطيعاً، ووقفنا عند الشرط الخامس: وهو الاستطاعة، وذكرنا شرطين آخرين اختلف فيهما العلماء وهما السادس والسابع: أمان الطريق، وإمكان المسير.
فالاستطاعة شرط لوجوب الحج بإجماع المسلمين، فقد أجمع المسلمون على أن الاستطاعة شرط حتى يجب على الإنسان الحج، ودليله من القرآن: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل عمران:97]، فهذا الشرط متفق عليه وأجمع العلماء عليه؛ لأن الله سبحانه قيد الحج به.
الاستطاعة نوعان: استطاعة بالنفس، واستطاعة بالغير، والمستطيع بنفسه هو الذي يخرج ليحج بنفسه، وفيه شروط سنذكرها.
وأما الاستطاعة بالغير فهو الذي لا يقدر على الحج لأنه معذور، كأن يكون مريضاً مرضاً مزمناً لا يقدر على الحج معه ولا على الركوب، لكن قد يجد من يستنيبه ليحج عنه، وهذه هي الاستطاعة بالغير.
ويشترط في وجود الزاد والماء أن يكون بثمن المثل، فإذا كان سينزل في مكان أثناء الطريق وسيمكث فيه فترة طويلة، والماء في هذا المكان صعب وجوده، أو يوجد ولكن يبيعونه بثمن غال جداً لا يقدر على مثله، فالحج لا يجب عليه؛ لأنه غير مستطيع.
وثمن المثل المعين في الماء والزاد هو القدر اللائق المناسب في ذلك الزمان والمكان، فإن وجدهما بثمن المثل لزمه تحصيلهما والحج، سواء كانت الأسعار غالية أو رخيصة، طالما أنه قادر على ذلك في هذا المكان وفي هذا الزمان.
وإذا كان لا يجد ما يصرفه في الزاد والماء لكنه كسوب يكتسب ما يكفيه من نفقة، فالراجح أنه لا يلزمه الحج تعويلاً على الكسب.
ولو فرضنا أنه وجد ثمن التذكرة التي سيسافر بها للحج، ووجد التأشيرة، ولكنه سينزل في مكان ما وليس لديه عمل يعمله، وفرضنا أنه كسوب في بلده، يستطيع أن ينزل في مكان ويعمل، ولكن ما يدرينا هل سيعمل هناك ليكسب مالاً ويأتي بما يقدر عليه أم أنه لا يعمل؟ فإذا كان على هذه الحال فإنه يدخل في كونه ليس مستطيعاً.
أما الناذر فيستحب له الحج، ولا يجب عليه؛ لأنه لا يجد ما يصل به إلى هناك، وأما في الماضي فقد كان الإنسان يستطيع أن يمشي مسافات طويلة، أما الآن فيصعب على الإنسان أن يمشي من بلد إلى بلد، بل مستحيل أنه يمشي من بلد إلى بلد إلا إذا كان رحالة ولديه إذن خاص بالخروج من بلد إلى بلد على قدميه، أما الآن فالسفر من بلد إلى بلد لابد له من وسيلة حتى يسمح له بالخروج، وقد كنا من قبل نلزمه ونقول له: أنت قادر، وأنت قوي، وتستطيع أن تمشي من مصر إلى هناك على رجليك إذا لم يكن هناك مشقة شديدة، أما إذا كان في سفره مشقة شديدة جداً فلا تأمر الشريعة بذلك حتى يكون واجباً عليه، لكن إن فعل ذلك فالحج صحيح، والراجح أننا لا نقول له: أنت شاب ومتعود وقادر على المشي فلابد أن تمشي من مصر إلى هناك؛ لوجود المشقة الشديدة، فلا يلزمه ذلك.
وفي حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كفى بالمرء إثماً أن يحبس عمن يملك قوته)، وهذا الحديث رواه مسلم ، ورواه أبو داود بلفظ: (كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت) أي: كفاه إثماً أن يضيع من يلزمه أن يقيته ويعطيه قوته.
وهذا الحديث في نفقة من تلزمه النفقة من طعام وشراب، وكذلك الكسوة إن كانوا محتاجين إلى الكسوة، خاصة إذا دخل الشتاء وليس عندهم كسوة فلا يصرف المال في الحج ويتركهم بلا كسوة؛ حفاظاً على صحتهم.
مسألة: إن احتاج إلى مسكن أو كتب علم يحتاج إليها ونحوها وليس معه ما يفضل عن ذلك، فإنه لا يلزمه بيع ذلك المسكن ولا الكتب ولا الثياب ليحج، إلا أن يكون عنده ما يفضل عن ذلك، كأن يكون عنده بيتان: بيت يعيش فيه، والبيت الآخر مقفل ليس محتاجاً له في شيء، فهذا زائد عن حاجته، ويجوز له بيعه من أجل الحج.
وكذلك إنسان عنده كتب علم كثيرة يحتاج إلى بعضها وأكثرها لا يحتاج إليها، ولو باعها لصار معه نفقة للحج، فيلزم هذا الإنسان أن يفعل ذلك، لكن من كان عنده كتب علم كثيرة وهو يحتاج إليها؛ لأنه من طلبة العلم ويريد أن يصبح من العلماء، فلا يلزمه أن يبيع هذه الكتب في هذه الحالة.
وأما في الصورة الأولى: إذا كان يخشى على نفسه العنت فيجب عليه أن يتزوج بهذا المال، ثم بعد ذلك يحج إن وجد ما يتيسر له معه الحج.
وقد ذكر الإمام النووي في هذه المسألة أنه إذا كان واجداً للنفقة التي تمكنه من الحج فإنه يكون مستطيعاً، ثم يقول: صرح خلائق من الأصحاب أنه يلزمه الحج ويستقر في ذمته، ولكن له صرف هذا المال في النكاح وهو أفضل. فكأنه يريد أن يقول: إذا كان لا غنى له عن الزواج الآن ويخاف على نفسه العنت وعنده مال، فقد وجب عليه الحج، ولكن يصرف هذا المال في النكاح، ولأن الحج قد وجب فعليه أن يجمع المال بعد ذلك ويحج.
هذا قول من الأقوال، وقد عللوا لهذا القول بأن صرف المال في النكاح أفضل في هذه الحالة وإن كان ليس واجباً، ويبقى الحج في ذمته؛ لأن النكاح من الملاذ ولا يمنع وجوب الحج، لكن هذا القول فيه نظر؛ لأن هذا المال إما أن يصرفه في الحج وإما أن يصرفه في النكاح، فإن صرفه في النكاح فنقول له: أنت واجب عليك الحج؛ لكن لأنك خائف من العنت ومن الوقوع في الزنا والعياذ بالله، فقدم النكاح، فهنا أمامه واجبان: الحج واجب، والنكاح مع خوف العنت والوقوع في الزنا واجب، فإذا قلنا: اصرفه في النكاح لأنه واجب، فكيف سنقول: يجب عليه الواجب الآخر وهو الحج وهو لا يجد ما ينفق فيه؟! وينبني على هذه المسألة ما ذكره الإمام النووي عن خلائق من الشافعية: أنه إذا توفي هذا الإنسان صار الحج ديناً عليه، مع أنه ليس لديه مال الآن إذا توفي، لكن الراجح: أنه إذا أنفق هذا المال في النكاح الذي وجب عليه انتفى عنه وجوب الحج؛ لأنه صار غير مستطيع الآن، فلا يجب عليه الحج مع عدم الاستطاعة، فإن لم يخف العنت، ولم يخف الوقوع في الزنا قدم الحج؛ لأن النكاح في هذه الحالة تطوع والحج فريضة واجبة فيكون الحج هو الواجب.
فالتاجر إن كانت له بضاعة فلا نقول له: بع البضاعة التي عندك واصرف الثمن للحج؛ لأن عياله لا يجدون ما يأكلونه ولا يجد التاجر ما ينفق به عليهم، ولابد من وجود رأس مال معه ليستمر دكانه قدر ما يكفيه وعياله فقط فلا يفرط فيه، كأن يكون له رأس مال عشرة آلاف جنيه في كل شهر، ومع تشغيلها في التجارة يحصل له ما يكفيه هو وعياله، فلو قلنا له: بع التجارة كلها وخذ رأس المال هذا وحج به لصار مفلساً لا شيء معه، ولذلك نقول: ما زاد عن ذلك بعه واذهب لتحج.
وقوله: (وعرض تجارة)، يجوز أن تقول: عرَض وعرْض، لكن عرْض هي الأكثر فيها وهي بمعنى المتاع، والعرَض بمعنى العطاء وبمعنى الطمع ويأتي بمعنى المتاع أيضاً، ولذلك جاء في حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ليس الغنى عن كثرة العرَض) أي: بكثرة المتاع، لكن الغالب عند الفقهاء أن العرْض بمعنى: عروض التجارة.
إذاً: لا حرج عليك في ذلك، وقد كان الصحابة يتحرجون في ذلك؛ ولذلك يقول ابن عباس رضي الله عنهما: (كانت عكاظ ومجنة وذو المجاز أسواقاً في الجاهلية، فلما كان الإسلام فكأنهم تأثموا فيه، فنزلت: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ [البقرة:198] في مواسم الحج)، هكذا قرأها ابن عباس ، وكأنها قراءة تفسيرية أو أن زيادة: (في مواسم الحج) قراءة شاذة.
وقد رواه أبو داود عن ابن عباس وفيه: (أن الناس في أول الحج كانوا يتبايعون بمنى وعرفة وسوق ذي المجاز ومواسم الحج فخافوا البيع وهم حرم، فنزلت الآية: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ [البقرة:198]).
وروى أبو داود عن أبي أمامة التيمي قال: (كنت رجلاً أكري في هذا الوجه، وكان ناس يقولون لي: إنه ليس لك حج، فلقيت
وفي هذه الآية تتجلى رحمة الله عز وجل بعباده؛ فإن الإنسان الذي يحج يجوز له أثناء حجه أن يتاجر مع الناس ويؤدي المناسك وحجه صحيح، ولكن الذي يذهب متفرغاً للعبادة أفضل بكثير ممن يذهب للعبادة ويشتغل بالتجارة؛ لأن الانشغال بالتجارة يجعل التاجر يقصر كثيراً في أمور العبادة، في نوافلها، وفي الفرائض التي يأتي بها، وكما نرى في مواسم الحج فهناك تقصيرات وتفريطات ممن يتاجرون في الحج.
أما الشرط السادس: فهو أمن الطريق، فالإنسان الذي يريد الحج لابد أن يكون آمناً في طريقه، بحيث يخرج من بلده إلى مكة من غير أن يمنعه أحد في الطريق؛ فيشترط ألا يوجد في الطريق لصوص ولا قطاع طريق ولا أي عدو في الطريق.
واتفق جمهور العلماء على أن هذا الشرط من شروط وجوب الحج، لكن في مذهب أحمد الراجح أنه يلزمه الحج، وهناك قول آخر للإمام أحمد وهو قول جمهور العلماء أنه لا يلزمه؛ لأنه غير مستطيع حقيقة.
إذاً: يشترط لوجوب الحج أمن الطريق في ثلاثة أشياء: أن يكون آمناً على نفسه، وعلى ماله، وعلى عرضه، ولا يشترط الأمن الغالب في الحضر، بل الأمن في كل مكان بحسبه، فأما النفس فمن خاف عليها من سبع أو عدو كافر أو مسلم أو غير ذلك لم يلزمه الحج إن لم يجد طريقاً آمناً آخر، وكذلك المال، فلو خاف الحاج على ماله في الطريق من عدو أو غيره لم يلزمه الحج.
إذاً: لو امتنع محرم المرأة من الخروج معها إلا بأجرة لزمها أن تعطيه، فإما أن تكون حجة هذا المحرم التي سيحجها حج تطوع، أو أن وراءه عيالاً يحتاجون إلى نفقة وسيضيعهم بالذهاب مع المرأة للحج، فله أن يطلب أجرة.
وأما الإنسان المقطوع اليدين فإذا كان معتاداً في البلد على أنه يقضي حاجاته بنفسه، أو يجد من يذهب معه إلى الحج ولا مشقة عليه في ذلك، فإنه يلزمه الحج.
وكذلك مقطوع الرجلين إذا كانت له عجلة يركب عليها، والأمر يسير عليه وهو متعود على الحركة، ويخرج إلى العمل كل يوم على عجلته، ويجد من يقوده في الحج ويذهب معه، فإنه يلزمه الحج في هذه الحالة.
ولكن إذا اعترض هؤلاء المشقة الشديدة، وليسوا متعودين على هذا الشيء، كأن يكون الأعمى قعيداً في بيته لا يخرج، فإذا خرج أصابه خوف ورعب من الناس ولا يستطيع أن يمكث في مكان وحده، أو يجد مشقة شديدة في التجول أو الذهاب، فإذا وجدت المشقة الشديدة التي مثله لا يقدر عليها فهو غير مستطيع بنفسه، ففي هذه الحالة لا يلزمه أن يحج بنفسه وإنما يستأجر من يحج عنه.
إذاً: هناك فرق بين إنسان قادر على الخروج وقادر على أداء المناسك، وقادر على الركوب من غير مشقة، وبين إنسان يكون عليه في ذلك مشقة شديدة لا يقدر معها على عمل المناسك.
إذاً: هنا القائد في حق الأعمى كالمحرم في حق المرأة، فلو امتنع القائد من الخروج معه إلا بأجرة لزمه أن يعطيه إذا كان قادراً.
مذهب الإمام الشافعي في مسألة سفر المرأة للحج والعمرة بدون محرم أنه إذا وجدت المرأة نسوة ثقات فإنها تحج معهن إذا كانت تأمن على نفسها معهن، وهو قول في مذهب الإمام أحمد أيضاً، وهو قول الإمام مالك رحمه الله، وهذا في حجة الفريضة، أما غير الفريضة فلا يجوز لها أن تحج مع نسوة ثقات.
كذلك العمرة إذا كانت فريضة عند من يوجبها من هؤلاء، فالإمام الشافعي يوجب العمرة، وكذلك الإمام أحمد ، أما الإمام مالك وأبو حنيفة فإنهما لا يوجبان العمرة، فالذي يوجب العمرة يقول بجواز عمرتها مع نسوة ثقات.
إذاً: لا يجوز للمرأة أن تسافر لحج التطوع أو لسفر زيارة وتجارة ونحوهما مع نسوة ثقات أو امرأة ثقة؛ لأنه ليس بسفر واجب، وإنما في السفر الواجب فقط لها أن تحج مع نسوة ثقات.
وفي رواية لـمسلم : (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تسافر مسيرة ثلاث ليال إلا ومعها ذو محرم) .
وفي الصحيحين أيضاً عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر يوماً وليلة ليس معها ذو حرمة) .
جاء في حديث ابن عباس رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب وقال: لا يخلون رجل بامرأة، ولا تسافر امرأة إلا مع محرم، فقام رجل فقال: يا رسول الله! إن امرأتي خرجت حاجة، وإني اكتتبت في غزوة كذا، قال: فانطلق فحج مع امرأتك)، في هذا الحديث أنه يستحب للرجل أن يكون مع امرأته في الحج، وليس للزوج منع زوجته من حجة الإسلام كما قدمنا، فإن أرادت حج إسلام أو حج تطوع أو عمرة واستأذنت الزوج في خروجها للحج فأذن لها، وأتت بالتأشيرة ولبست إحرامها وخرجت محرمة فليس له أن يمنعها لا من حج فريضة ولا من حج تطوع، طالما أنه أذن لها وخرجت فأحرمت، ويلزمه تمكينها من إتمامه ولا يجوز له تحليلها؛ لأنه لا يجوز التحلل إلا إذا أرادت المرأة الخروج ثم توفي الزوج فيلزمها العدة، ولا يجوز لها أن تسافر، إلا إن كانت قد سافرت بالفعل، كأن تكون قد ركبت الطائرة، ويصعب عليها أن ترجع لتعتد فلها على ذلك أن تكمل سفرها.
إذاً: الاستطاعة بالنفس لها شروط وهي: أن يكون بدنه صحيحاً بحيث يقدر على الركوب، وأن يجد الزاد والراحلة، وأن يجد نفقة أهله، ويجد المسكن لهم، وليس عليه أجرة للدار، ولديه كتب علم وليس مضطراً أن يبيعها، فعلى ذلك يلزمه أن يحج.
وإمكان المسير من أجل إدراك الحج معتبر بما جرت به العادة، أما لو أمكنه المسير بأن يحمل على نفسه ويسير سيراً يجاوز العادة أو يعجز عن تحصيل آلة السفر لم يلزمه السعي؛ فإمكان المسير بحسب الإنسان وبحسب المكان الذي هو فيه، فمن الناس من يكون موجوداً في المدينة، ومنهم من يكون موجوداً في مكة، ومنهم من يكون موجوداً في مصر أو في مكان بعيد، وكل واحد له وقت في وصوله.
إذاً: يشترط أن يكون الطريق آمناً، وأن يكون من الممكن الوصول إلى عرفة قبل فوات الحج، وهذا عند الحنابلة من شروط لزوم السعي، أما عند الجمهور فإنها من شروط الاستطاعة، وهو الراجح؛ لأنه إن لم يتمكن من الوقوف بعرفة فاته الحج، فكيف نوجب عليه الحج وهو لم يتمكن من الوصول إلى عرفة؟!
روى البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن امرأة من خثعم قالت: يا رسول الله! إن فريضة الله في الحج أدركت أبي شيخاً كبيراً لا يثبت على الراحلة، أفأحج عنه؟ قال: نعم، قال: وذلك في حجة الوداع).
وهذا يعني: أن هذا لم ينسخ بشيء؛ حيث كان ذلك في آخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم، بعدما نزل قول الله سبحانه وتعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل عمران:97].
وعن أبي رزين العقيلي : (أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن أبي شيخ كبير لا يستطيع الحج ولا العمرة ولا الظعن؟ قال: حج عن أبيك واعتمر) فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يحج عن أبيه؛ لكونه ذكر أن أباه لا يقدر على الحج ولا على العمرة ولا على الظعن، أي: ركوب الراحلة.
والحج عبادة، والعبادة تحتاج إلى نية، وقضاء الدين معاملة ولا تحتاج إلى نية، فلو فرضنا أن واحداً عليه دين وذهبت وسددت عنه ذلك الدين، فالمطلوب أن يقضى الدين، ولا يحتاج إلى نية في الأداء سواء نوى صاحبه أو لم ينو، بخلاف الحج فإنه لو لم ينوه فإنه لا يأخذ أجر هذا الحج بغير نية منه؛ فلذلك لابد للإنسان الذي يحج عن المعضوب من إذنه.
والحج والعمرة عن الميت يجبان عند استقراره عليه، سواء أوصى به أو لم يوص؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (دين الله أحق بالقضاء) فالإنسان المتوفى إذا ترك مالاً وهو لم يحج فلابد أن يحج عنه.
والذي يحج عن الميت سواء كان قريباً له وارثاً أو غير وارث أو كان أجنبياً عنه وحج عنه كل ذلك يجزئه.
روى أبو داود عن ابن عباس : (أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يقول: لبيك عن
وفي لفظ للبيهقي وابن خزيمة أيضاً: (قال: فاجعل هذه عنك، ثم حج عن
فإن أحرم المرء عن غيره ولم يحج عن نفسه وقعت عن نفسه.
أما إن كان ضعيفاً لا يقوى على المشي أو يناله به ضرر ظاهر فحينها تشترط الراحلة للمكي حتى يجب الحج عليه.
نقول: كل من الاثنين فيه خير وله أجر، فالذي حج ماشياً على قدميه قد أتعب بدنه فله الأجر على تعب البدن، والذي ركب السيارة قد أنفق ماله فله الأجر على نفقة المال، والذي فعله النبي صلى الله عليه وسلم أنه حج راكباً، فبالركوب يتفرغ الإنسان للعبادة، وخاصة إذا كان سيركب متوجهاً إلى البيت ليطوف به، فإذا أتعب نفسه في الطريق ماشياً على رجليه ووصل إلى البيت وجد الطواف مزدحماً فيكون صعباً جداً عليه أن يطوف، وإذا أراد أن يسعى بين الصفا والمروة يجد نفسه غير قادر على السعي بين الصفا والمروة، وإذا استطاع ووقف على الصفا لم تبق عنده طاقة لأنه يقف ويدعو ويطيل في الدعاء؛ لأن المجهود البدني الذي بذله أثر على العبادة التي يتعبد بها لله سبحانه وتعالى.
إذاً: فكلا الأمرين جائز، وإن كان الأفضل أن يستريح حتى يؤدي المناسك والأدعية في محلها على أفضل ما يكون، والذي فعله النبي صلى الله عليه وسلم كما ذكرنا أنه حج راكباً، وهذا أعون على المناسك والدعاء وسائر العبادات.
الأول: أن يكون المطيع ممن يصح منه فرض حجة الإسلام، وذلك بأن يكون مسلماً بالغاً عاقلاً حراً.
الثاني: أن يكون المطيع قد حج عن نفسه حجة الإسلام، فإن لم يكن قد حج عن نفسه تنقلب هذه إليه، وأن يكون ليس عليه حجة واجبة عن قضاء أو نذر.
الثالث: أن يكون موثوقاً بوفائه وطاعته؛ لأنه يمكن أن يقول لفلان: أتحج عني؟ فيقول: نعم أحج عنك، فيأخذ المال ويهرب ولا يحج عنه.
الرابع: ألا يكون معضوباً، فإذا كان الإنسان الذي يريد أن يحج عن هذا المعضوب معضوباً آخر فهو لا يقدر على ذلك.
وكذلك لو بذل المال للمعضوب أبوه فهو كبذل الولد، فلو أن المعضوب ضعيف لا يقدر على الحج فقال له أبوه: أنا أحج عنك، فهل صارت الحجة فريضة على الابن؟ الراجح في هذه المسألة: أن الحجة لا تصير على الابن فريضة، وإن كان الأب قد فعل ذلك فهذا حسن.
أما المعضوب فتلزمه الاستنابة، سواء طرأ العضب بعد الوجوب أو بلغ معضوباً واجداً للمال، فإذا كان عنده مال وهو معضوب فيلزمه أن يستنيب عنه أو أن يؤجر على ما سنفصل.
وإذا طلب الوالد المعضوب العاجز عن الاستئجار من الولد أن يحج عنه استحب للولد إجابته إن كان قادراً، ولا تلزمه إجابته، لكن لا يجب على الوالد المعضوب أن يطلب من ولده أن يحج عنه؛ لأن الحج فيه مشقة شديدة جداً، ولأن الابن قد يرضى وقد لا يرضى، لكن كونه يطلب من ولده أن يخدمه فإنه فرض على الولد أن يخدم أباه.
إذاً: إذا طلب الوالد المعضوب العاجز عن الاستئجار من الولد أن يحج عنه استحب للولد إجابته، ولا تلزمه إجابته، ولا يلزم الوالد الحج؛ لأنه ليس على الوالد في امتناع الولد من الحج ضرر، بخلاف ما إذا طلب الأب من الابن أن يعطيه طعاماً أو نفقة فإن عليه ضرراً في عدم تنفيذ ذلك، أما في الحج فإن الله يقول: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286] ؛ لأن الحج حق للشريعة، فإن عجز عنه الأب فلا إثم عليه في ذلك ولا يجب عليه.
القول الأول: أنه يلزمه أن يحج عن نفسه.
القول الثاني: لا يلزمه ذلك.
فالذين قالوا: يلزمه، قالوا: قد تبين أنه ليس معضوباً، أي: بان أنه كان واهماً في أنه معضوب، فزال هذا الوهم وصار الآن قادراً.
والذين قالوا: لا يلزمه -وهو القول الأقوى- قالوا: حين جعل غيره يحج عنه كان معضوباً، وكان اليقين عند نفسه أنه لا شفاء له، والأطباء قرروا أنه لا يقدر، ففعل ما وجب عليه، فإذا فعل ما وجب عليه فإما أنه أدى الفريضة المسقطة عنه هذا الواجب، وإما أن تكون غير مسقطة عنه، فلو كانت غير مسقطة لما وجب ابتداءً على أحد من المعضوبين أن يطلب من يحجج عنه؛ لاحتمال أنه إذا صار صحيحاً بعد ذلك فلا يسقط عنه، والشريعة لم تقل ذلك، فلم يبق إلا أن يقال: إنه طالما استيقن في نفسه وغلب الظن أنه لا شفاء لهذا المرض الذي هو فيه، فأحج عن نفسه ثم شفاه الله عز وجل بعد ذلك لم يلزمه شيء؛ فقد سقط عنه الفرض على الراجح من كلام أهل العلم.
والعلماء الذين قالوا: إنه يلزمه هم: الشافعي والأحناف وابن المنذر ، وذهب غيرهم من العلماء إلى أنه لا يلزمه، ورجحه ابن قدامة في المغني.
القول الأول: وهو قول الإمام الشافعي وغيره: أن الحج واجب على التراخي؛ وحجتهم في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل عليه في الحديبية: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [البقرة:196] قالوا: ففي الحديبية أوجب عليه الحج، ومع ذلك لم يحج النبي صلى الله عليه وسلم إلا في العام العاشر.
القول الثاني: ذهب الحنابلة والأحناف إلى أنه واجب على الفور؛ وحجتهم في ذلك: أن الحج وجب على النبي صلى الله عليه وسلم في سنة تسع، فكان اللازم أن يحج صلى الله عليه وسلم، ولكن وجد المانع من حجه صلوات الله وسلامه عليه في هذا العام؛ لأنه حتى سنة تسع كان المشركون يحجون البيت ويطوفون بالبيت وهم عراة، وما كان للنبي صلى الله عليه وسلم أن يحج في وسط هؤلاء المشركين وهو يلبي بالتوحيد صلوات الله وسلامه عليه؛ ولذلك وجد المانع من أن يحج في هذا العام، فأخر الحج إلى العام الذي يليه حتى أنذر هؤلاء وأذن فيهم: (أنه لا يطوف بالبيت عريان، ولا يحج بعد العام مشرك) ، فحج بعد ذلك في العام العاشر صلوات الله وسلامه عليه.
إذاً: الذين قالوا بأن الحج واجب على التراخي -وهم الشافعية- احتجوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم فرض عليه الحج بقوله تعالى: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة:196] في الحديبية في سنة ست، وهذا صحيح، وقالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر أربع عمر: عمرة الحديبية حيث ذهب ولم يطف بالبيت وكان ذلك سنة ست، واعتمر عمرة القضية في ذي القعدة من السنة التي تليها، ودخل صلى الله عليه وسلم مكة وكان قد بقي بينه وبين الحج أيام قليلة ومع ذلك لم يحج عليه الصلاة والسلام، واعتمر لما فتح مكة في العام الذي يليه فخرج إلى حنين ورجع من الجعرانة ثم اعتمر صلوات الله وسلامه عليه، وكان في ذي القعدة أيضاً، وكان بينه وبين الحج وقت قليل، ومع ذلك لم يحج عليه الصلاة والسلام، مع أن الله أمره وقال: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة:196].
لكن نقول: إن هذه الآية ليس فيها الامر بابتداء الحج، فلا حجة في كل ما ذكروه، والذي فعله النبي صلى الله عليه وسلم هناك لم يكن فرضاً عليه صلى الله عليه وسلم حتى هذا الوقت، إنما الفرض بعد ذلك لما كان في سنة تسع ونزل عليه قول الله تعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل عمران:97] وكونه لم يحج في سنة تسع لأن المشركين كانوا يطوفون بالبيت ويشركون بالله، وكان العراة يطوفون بالبيت، فما كان له صلى الله عليه وسلم أن يحج مع هؤلاء، فأرسل أبا بكر يحذرهم، فلما استتب الأمر ولم يبق أحد من هؤلاء يحج في العام الذي يليه ذهب صلى الله عليه وسلم وأذن في الناس، وحج عليه الصلاة والسلام.
أيضاً من الأدلة على أن الحج على الفور: ما جاء في الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من أراد الحج فليتعجل)، وفي رواية: (من أراد الحج فليتعجل؛ فإنه قد يمرض المريض وتضل الضالة وتعرض الحالة).
فعلى ذلك فالحج ركن من أركان الإسلام مثله مثل الصيام، فقد فرض في رمضان ولا يجوز تأخيره عن رمضان، فكذلك الحج فريضة عليك فرضها الله سبحانه، وقال الجمهور وهم الأحناف والمالكية والحنابلة: إن هذا الإنسان الذي وجب عليه الحج على التراخي لو أنه توفي قبل أن يحج فإنه يأثم؛ لأنه إذا كان الحج فريضة عليه على التراخي فإنه سوف يؤجله سنة وراء سنة حتى يموت فيأثم إذا لم يحج، وهل يعرف الإنسان متى سيموت حتى نقول: إنه على التراخي حتى وقت كذا، كذلك قد يكون الإنسان صحيحاً وقد يموت، وقد يكون به مرض ويعيش سنين طويلة، فعلى هذا فقول الجمهور في ذلك هو الأرجح والأصح؛ لحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (من أراد الحج فليتعجل؛ فإنه قد يمرض المريض وتضل الراحلة وتعرض الحاجة) .
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر