اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
سبق الحديث في كتاب التوحيد عن باب الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وقول الله عز وجل: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [يوسف:108] .
هذا الحديث العظيم يعلم النبي صلى الله عليه وسلم فيه معاذاً رضي الله عنه ما الذي يصنعه عندما يأتي قوماً من أهل الكتاب. فالباب هنا معقود للدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله، أو لما يدعى الكافر إلى توحيد الله سبحانه وتبارك وتعالى.
فبين النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث لـمعاذ التركيب المنطقي في الدعوة، وما الذي يبدأ به، ثم بماذا يثني، ثم بماذا يثلث، فأول ما يبدأ به في الدعوة إلى الله الدعوة إلى لا إله إلا الله، ففي الحديث هنا: (فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله -وفي رواية-: إلى أن يوحدوا الله)، وهو نفس معنى أن تدعوهم إلى أن يقولوا: لا إله إلا الله، تدعوهم إلى توحيد الألوهية.
فإذا هم أطاعوا لذلك فابدأ بالمرحلة الثانية وهي أن تدعوهم إلى الصلاة التي افترضها الله عز وجل عليهم، وبين لهم ماهي هذه الصلاة.
إن شهادة أن لا إله إلا الله هي أول ما يجب على المسلم أن يتعلمه، وأن يعرف معناها ومقتضى هذه الكلمة، فمعنى لا إله إلا الله: لا معبود حق إلا الله.
وأهل الجاهلية لما فهموا هذا المعنى رفضوا الإسلام، فلما قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: (قولوا لا إله إلا الله)؛ علموا أن هذه الكلمة معناها: لا خالق إلا الله، ولا رازق إلا الله، هم يعرفون ذلك وهم مؤمنون بأن الله هو الذي يخلق ويرزق وينفع ويضر، كذلك العبادة لا بد أن يوجهوها إليه وحده لا شريك له. هذا الذي رفضه المشركون عصبية وجاهلية وحسداً للنبي صلى الله عليه وسلم.
أن كل واحد من أهل الجاهلية كان عنده صنم خاص به يعبده إذا كان من أشراف الناس، فإذا كنت ستأمرنا أن نترك هذه الأصنام، وأن نعبد إلهاً واحداً، وتقول: إنك رسول هذا الإله، ونحن سنتبعك، وستصير الرئيس فينا، وتأمرنا افعلوا كذا ولا تفعلوا كذا فلا، فلذلك لما قال: (قولوا كلمة واحدة أضمن لكم بها الجنة، قالوا: نقول ما تشاء عشر مائة، ما هي الكلمة التي تريد؟ قال، قولوا: لا إله إلا الله، قالوا: أما هذه فلا)، رفضوا أن يقولوا لا إله إلا الله لأنهم فهموا المعنى. فهناك فرق بين أن تقول: لا رب إلا الله، لا خالق إلا الله، وبين أن تقول: لا إله إلا الله، فمعنى لا إله إلا الله: أنا لن أعبد إلا إلهاً واحداً، ولن أتوجه بالعبادة في هذا الدين إلا إلى الإله المستحق للعبادة، ولن أصلي إلا لله، ولن أدعو إلا إلى الله.. سأصوم لله.. سأحج لله.. لن أشرك به شيئاً في عبادتي.
فأهل الجاهلية فهموا هذا المعنى، ولما أرسل النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً إلى أهل اليمن كانوا عرباً وسيفهمون هذا المعنى، فقال: (فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله) فإذا أقروا بذلك واستجابوا فاطلب منهم الشيء الثاني وهو الصلوات الخمس التي فرضها الله عز وجل على عباده.
فالعلم بمعنى شروط لا إله إلا الله من مقتضى لا إله إلا الله، ولا بد لزاماً أن توجه عبادتك كلها إلى الله وحده لا شريك له. وهذا هو مقتضى: لا رب إلا الله.
ومعنى الربوبية: أن تقر بأن الله رب كل شيء وهو الذي خلقه ورزقه ورباه ويملكه ويقدر عليه، وكل شيء تحت سلطانه وحكمه سبحانه وتبارك وتعالى، والإقرار بهذا الشيء لا يدخل الإنسان في الإسلام؛ لأنك تقول: الله يفعل، ولكن الإسلام يقول لك: وأنت ما الذي تفعل؟ فعلى المسلم أن يقول: لا إله إلا الله، مقراً بأنه هو وحده الذي يستحق العبادة، متوجهاً إليه بهذه العبادة.
فتكون لا إله إلا الله معناها: إقرار بأنه وحده سبحانه المستحق للعبادة.
فالعلم من أول شروط لا إله إلا الله، فيقول الله عز وجل: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ [محمد:19] .
إذاً: القبول هو قبول ما عند الله عز وجل حتى ولو عصى، ولا ينافي هذا أن في قلبه قبولاً.
إن العلم يزيد المسلم محبة لله ورسوله ولدين رب العالمين، ولذلك يقول الله عز وجل: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [الزمر:9] وفرق بين من يدعو بلا علم، وبين من درس وترقى ووصل إلى درجة من العلم عرف بها جمال هذا الدين، وجلال ربه سبحانه، ورحمة الرسول صلوات الله وسلامه عليه، فيزداد محبة لهذا الدين.
ومن المحبة لدين الله وشرعه سبحانه أن يقدمه على غيره، ولا يرضى بديلاً عنه أبداً.
هذه شروط لا إله إلا الله التي ينبغي على المسلم أنه يعمل بمقتضاها، ولا يشترط مجرد حفظها أو عدها وسردها، ولكن على الأقل أن يكون عمل هذا الإنسان وحاله موافقاً لهذه الشروط لهذه الكلمة.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: قد علم بالاضطرار من دين الرسول صلى الله عليه وسلم واتفقت عليه الأمة: أن أصل الإسلام وأول ما يؤمر به الخلق شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبذلك يصير الكافر مسلماً، والعدو ولياً، والمباح دمه وماله معصوم الدم والمال، ثم إن كان ذلك من قلبه فقد دخل في الإيمان، وإن قاله بلسانه دون قلبه فهو في ظاهر الإسلام. يعني: الذي يتكلم بهذه الكلمة إما أنه صادق من قلبه وإما أنه ينطق بها بلسانه لعصمة الدم، فالأول مؤمن صادق الإيمان، والثاني منافق نفعته هذه الكلمة في الدنيا فعصمت دمه وماله، وأمره إلى الله سبحانه تبارك وتعالى.
وقوله: (إن هم أطاعوا لذلك) يعني: استجابوا ودخلوا في الدين بقول لا إله إلا الله (فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة) . الصلوات الخمس فرضت على النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة المعراج، ولشرف الصلاة فرضت في السماء، فالصلاة ترفع العبد إلى ربه سبحانه تبارك وتعالى، وهي صلة بين العبد وربه، لذا لم يفرضها على النبي صلى الله عليه وسلم في الأرض وإنما رفعه إلى السماء وفرضها عليه فيها تشريفاً له ولأمته، وبياناً لأهمية هذه الصلاة العظيمة.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة -وهي الزكاة- تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم) .
فالزكاة فريضة من فرائض الإسلام، لذا كانت الثالثة بعد لا إله إلا الله وبعد الصلاة، وهذا فيه دليل على أن الزكاة أوجب الأركان بعد كلمة التوحيد وبعد الصلاة.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فإن هم أطاعوك لذلك فإياك وكرائم أموالهم) يحذره النبي صلى الله عليه وسلم أن يأخذ كرائم الأموال في الزكاة.
فعامل الصدقة إذا جاء ليأخذ زكاة أموال الناس الظاهرة من بهيمة الأنعام ونحوها فإنه يقسمها أثلاثاً، ثلث هو أفضل الأنعام التي عند صاحبها، وثلث هو أردأها، وثلث هو الوسط؛ فيأخذ الزكاة من الوسط وليس من خيارها
أو رديئها ويعطي للفقراء ما لا ينتفعون به، فخير الأمور أوساطها.
قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (إياك وكرائم أموالهم)، يعني: لا تأخذ أفضل الأشياء التي عندهم، ولكن خذ من وسط الأموال.
إذا كان هذا معاذ وهو سلطان العلماء والسابق للعلماء يوم القيامة فغيره أولى أن يتقي دعوة المظلوم، معاذ من رآه أحبه رضي الله تبارك وتعالى عنه، فقد حبيباً للناس قد جعل الله في قلبه المحبة للناس، وجعل في قلوب الناس محبة له، وما كان معاذ ليظلم الناس وقد أرسله النبي صلى الله عليه وسلم ليعلمهم الإسلام، وبذلك يعلم النبي صلى الله عليه وسلم كل إنسان يتولى أمور الناس أن يحذر من الظلم، (الظلم ظلمات يوم القيامة)، ولذلك قال في الحديث: (واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب). أي مظلوم سواء كان فاجراً أو كافراً فدعوته مستجابة عند الله سبحانه، ولذلك جاء في الحديث: (اتقوا دعوة المظلوم فإنها تصعد إلى السماء كأنها شرار)، رواه الحاكم عن ابن عمر وصححه الشيخ الألباني .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اتقوا دعوة المظلوم، فإنها تحمل على الغمام -أي: السحاب- وترفع إلى السماء، فيقول الله جل جلاله: وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين) .
إذاً: على الإنسان المؤمن أن يتقي الله سبحانه تبارك وتعالى فلا يظلم أحداً من الخلق.
إذا لم يوجد من يجمع من الناس الزكاة وجب عليهم أن يخرجوها ولا عذر لأحد في ذلك.
يقول: وفي الحديث أنه يكفي إخراج الزكاة في صنف واحد كما هو مذهب مالك وأحمد، أما مذهب الشافعي فلا بد من قسمة الزكاة بين الأصناف التي ذكرها الله سبحانه وتعالى، هذا إذا وجدت الأصناف جميعها فلا بد من قسمتها بينهم، ولكن إن لم توجد فما وجد منها وزع.
وفي الحديث: أنه لا يجوز دفعها إلى غني ولا إلى كافر غير المؤلف.
كذلك: ترد هذه الزكاة على الفقراء فلا تعطى لغني إلا أن يكون مؤلفاً يتألف على الإسلام فيجوز أن يعطى من الزكاة ولو كان غنياً.
واختلف العلماء في مسألة إخراج زكاة المال عن اليتيم، فإذا ورث صبي صغير عن أبيه أموالاً فهل الولي يخرج الزكاة؟ الراجح أنه يلزمه أن يخرج زكاة المال كل سنة؛ لأن الزكاة تتعلق بالمال ولم ينظر الشارع لكون هذا يتيماً أو ليس يتيماً فتؤخذ منه، وإن كان هناك خلاف بين الجمهور وبين الأحناف في ذلك، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية : تجب الزكاة في مال اليتامى عند مالك والليث والشافعي وأحمد وأبي ثور ، وهو مروي عن عمر وعائشة وعلي وابن عمر وجابر رضي الله عنهم، وصح عن عمر رضي الله عنه أنه قال: ابتغوا في أموال اليتامى لا تأكلها الصدقة. المعنى: إذا كان اليتيم وارثاً له مال فتاجروا بماله حتى لا تأكله الزكاة، هذا المال وهو واقف ينقص حتى ينتهي، فقال لهم عمر رضي الله عنه: اتجروا فيها بحيث يزيد مال الصبي ولا ينقص.
وفي الحديث: أنه يحرم على عامل الزكاة أخذ كرائم المال، ويحرم على صاحب المال إخراج شرار المال، ولكن الوسط من المال.
الغريب وهو رواية فرد واحد عن مثله، وبعده؟ العزيز وهما اثنين في طبقة واحدة. وبعده المشهور وهم ثلاثة في طبقة واحدة، كل هذا تحت حديث الآحاد. والنبي صلى الله عليه وسلم أرسل إلى اليمن واحداً وهو معاذ بن جبل رضي الله عنه، فأمره أن يبلغ، ومطلوب منهم أن يصدقوه رضي الله عنه، ففيه قبول خبر الواحد في الأحكام الفقهية وفي العقائد ؛ لأن معاذاً واحد وذهب إليهم يدعوهم إلى لا إله إلا الله، إذاً: حديث الآحاد يؤخذ به في العقائد كما يؤخذ به في الفقه.
وفيه أيضاً: بعث الإمام العمال لجباية الزكاة، وأنه يعظ عماله وولاته، وكل من يتعامل مع الناس لا بد لمن يشغله أن يعظه ويعلمه أن يتقي الله عز وجل في الناس: لا تأخذ أموال الناس باطلاً. احذر أن تظلم الناس فإن دعوة المظلوم ليس بينها وبين الله عز وجل حجاب.
الحديث ذكر أشياء هامة والباقي يأتي بالتبع، فعلى ذلك لم يذكر له الصيام أو الحج، فإذا جاء وقت الصيام سيذكر لهم معاذ الصيام الذي عليهم، فإذا قبلوا هذه الأشياء وهي الأهم الصلاة -عبادة بدنية- والزكاة -عبادة مالية- فإن غيرها أسهل في القبول، فعلى ذلك لم يذكرها في هذا الحديث اكتفاء بما ذكر صلى الله عليه وسلم، وعندما يحين الوقت فسوف يأمرهم معاذ بأمر الله عز وجل في ذلك.
يقول شيخ الإسلام : إن العلماء أجابوا عن ذلك بجوابين: الأول: أن ذلك بحسب نزول الفرائض، وأول ما فرض الله الشهادتين ثم الصلاة. يعني: كما أن الله سبحانه تبارك وتعالى تدرج مع المسلمين فبدأ بالتوحيد وعلمهم العقائد، ثم أمرهم بالصلاة، وفي العام الثاني من الهجرة النبي صلى الله عليه وسلم فرض عليهم الصيام والزكاة فعلى ذلك بدأ بالفرائض بحسب نزولها. هذا قول.
الثاني: أنه كان يذكر في كل مقام ما يناسبه، وهذا صحيح؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر له ما يناسب المقام، فهو ذاهب إليهم ليدعوهم إلى الدين كله، وهو من أعلم الناس بشهادة النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أعلم المسلمين بالحلال والحرام، كما قال: (أعلمكم بالحلال والحرام معاذ)، فأرسل معاذاً ليعلمهم مما علمه الله عز وجل، ولكن بين له أهم الأشياء الواجبة لله تبارك وتعالى وهي إفراده بالعبادة، ثم الواجب البدني وأهمه الصلاة، ثم الواجب المالي وهو دفع الزكاة، وغير ذلك فهو إما عبادة بدنية وإما عبادة مالية أو بدنية ومالية.
كانت خيبر سنة سبعة من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، ففي يوم خيبر قال النبي صلى الله عليه وسلم للمسلمين: (لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله)، كونه يقول: سنعطي الراية لمن هذه صفته فكل المسلمين يتمنون ذلك: (فبات الناس يدوكون ليلتهم) باتوا يخوضون فيمن سيستلم الراية غداً، وكل منهم يتمنى أن يكون هذا الذي يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، قال: (فبات الناس يدوكون ليلتهم أيهم يعطاها. فلما أصبحوا غدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يرجو أن يعطاها).
نلاحظ أن النبي صلى الله عليه وسلم ما كان يولي أحداً يطلب الولاية، عادة النبي صلى الله عليه وسلم في المسلمين أن الذي يطلب ولاية أنه ما كان يعطيه، وكان يقول: (إنا لا نولي هذا الأمر من طلبه)، لكن المسلمين كانوا يطلبونها في تلك الليلة خاصة لينالوا شرف قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ويحبه الله ورسوله)، رجاء أن يكون هذا الشخص يحبه الله ورسوله.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أين
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام)، يعني: لا تقاتلهم مباشرة، ولكن ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه، (فو الله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم).
فالنبي صلى الله عليه وسلم يبين أن الهداية إلى دين الله سبحانه والاهتداء أفضل من القتال والجهاد، وأن هؤلاء لو يهديهم الله طائعين أفضل من أن تكرههم بالجهاد في سبيل الله عز وجل، حتى لو كان رجلاً واحداً يهديه الله عز وجل على يديك.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم في رواية: (إني دافع اللواء إلى رجل يحبه الله ورسوله) واللواء هو العلم الذي يذهب به في القتال، فهنا كان للنبي صلى الله عليه وسلم راية ولواءً، وكأن أحدهما أكبر من الآخر.
يقول شيخ الإسلام : (ليس هذا الوصف مختصاً بـعلي ولا بالأئمة؛ فإن الله ورسوله يحبان كل مؤمن تقي يحب الله ورسوله)، يعني: بعض الناس يأخذ من قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لأعطين الراية غداً لرجل يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله) ويقصرها على علي فقط، فيقول شيخ الإسلام : إن الأمر ليس محصوراً في علي فقط، ولكن في هذا اليوم ذكر له النبي صلى الله عليه وسلم ذلك تمييزاً وتفضيلاً، ولكن ليس معناه أنه فقط هو الذي يحبه الله دون سائر المؤمنين، وقد قال الله عز وجل: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [آل عمران:31]، إذاً: كل من يطع الله يحبه الله سبحانه بدلالة هذه الآية.
لما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث أن هذا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، وأعطى الراية لـعلي رضي الله عنه، وبصق في عينه عليه الصلاة والسلام، ودعا له فبرئ، وفي رواية أخرى يقول علي : فما رمدت ولا صدعت منذ دفع النبي صلى الله عليه وسلم إلي الراية. يعني: من هذا اليوم لم يصب علي رضي الله عنه برمد ولا صداع بعدما تفل النبي صلى الله عليه وسلم في عينيه ودعا له.
ثم قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم ثم ادعهم إلى الإسلام) . الإسلام هو: الاستسلام لله سبحانه تبارك وتعالى والخضوع لله والعبودية له وحده. لذلك فالإنسان المسلم لا بد أن يتأمل هذه الكلمة، فلا يعصي الله ويقول: أنا مسلم لله سبحانه أي: مسلم نفسي مذعن لأمر الله، مطيع مستسلم له، فذلك ينافي أن يعصيه وأن يستكبر على الله سبحانه تبارك وتعالى. فالإسلام استسلام كامل لله سبحانه تبارك وتعالى، ولذلك جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن الإسلام قال: (الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت). الإسلام أعمال ظاهرة تفيد استسلاماً وانقياداً لله سبحانه تبارك وتعالى.
يقول شيخ الإسلام رحمه الله: ودين الإسلام الذي ارتضاه الله وبعث به رسله هو الاستلام له وحده، فأصله في القلب، والخضوع له وحده بعبادته وحده دون ما سواه، فمن عبد الله وعبد معه إلهاً آخر لم يكن مسلماً. فهذا لم يستسلم لله، فلا بد وأن تكون العبادة خالصة للرب وحده لا شريك له.
ومن استكبر عن عبادته لم يكن مسلماً، والأصل: أن الإسلام هو استسلام بالقلب، وعمل القلب يعبر عنه اللسان بقول لا إله إلا الله، أما الإيمان فأصله: تصديق القلب وإقراره ومعرفته، فهو من باب القول القلبي المتضمن عمل القلب.
في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (فو الله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم) حمر: جمع أحمر، وبهيمة الأنعام عند العرب أفضلها وأنفسها وأغلاها عندهم النوع الأحمر من الإبل ونحوها، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: إذا هدى الله عز وجل بك رجلاً واحداً هذا أفضل من أن تجمع أنفس وأغلى وأعلى الأموال.
يذكر الله عز وجل هؤلاء الذين عبدوا المسيح من دون الله، وعبدوا عزيراً من دون الله، وعبدوا أصناماً وملائكة وجاناً من دون الله واتخذوهم آلهة، فيقول: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ [الإسراء:57] أصلها: هؤلاء الذين يدعونهم ويؤلهونهم يتبرءون من عبادتهم، وهم يتقربون إلى الله بكافة وجوه الخير، عبدوا المسيح والمسيح عبد لله وتقرب إلى الله سبحانه، وعبدوا عزيراً وعزير يعبد الله ويتقرب إليه، ويرجو إليه الوسيلة. وعبدوا الملائكة من دون الله والملائكة تعبد الله سبحانه وتبتغي إليه الوسيلة -يعني: تفعل الخيرات تبتغي رضاه سبحانه تبارك وتعالى- وعبدوا الجان من دون الله وأسلم الجان فعبدوا الله وتبرءوا من هؤلاء وظل هؤلاء على عبادتهم الباطلة.
وقوله تعالى: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ [الإسراء:57]، يبتغون كل وسيلة تقربهم من الله سبحانه تبارك وتعالى، ويعبدون الله بكافة وجوه العبادة.
وقوله: أَيُّهُمْ أَقْرَبُ [الإسراء:57] يعني: يتسابقون من منهم أقرب إلى الله؟ وكل من الجن والملائكة والرسل يبتغي إلى الله الوسيلة، ويبتغي أن يكون مقرباً عند الله سبحانه وتعالى.
قال تعالى: وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا [الإسراء:57]، الدعاء وذكر الله عز وجل له مقامات ثلاثة كما يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: مقام الحب لله سبحانه والتوسل إليه: يحبون الله فيتوسلون إليه بأعمال صالحة حتى يقربهم إليه، فهنا الحب ابتغاء التقرب إلى الله سبحانه تبارك وتعالى والتوسل إلى ذلك بالأعمال الصالحة.
مقام آخر وهو الرجاء: رجاء ما عند الله من ثواب، مقام ثالث وهو: أنهم يخافون العقاب، قال: وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا [الإسراء:57] فشروط العبادة: أنك تحب الله سبحانه الذي تتقرب إليه وتخافه وترجوه، والرجاء فيما عنده، والخوف مما عنده سبحانه.
إذا كانت هذه صفات الأنبياء والرسل والأولياء والمقربين من الملائكة إلى الله تبارك وتعالى الكل يخافون ويحبون ويرجون، إذاً العبادة لا تكون إلا بكمال الحب لله سبحانه، وبكمال الخوف والذل بين يديه، وبكمال الرجاء فيما عنده سبحانه تبارك وتعالى، كما في المسند عن بهز بن حكيم ، عن أبيه، عن جده: أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: والله يا رسول الله! ما أتيتك إلا بعدما حلفت عدد أصابعي هذه ألا آتيك.
كان الكفرة يحذرون الناس من الذهاب للنبي صلى الله عليه وسلم، فكان أحدهم حتى يمنع نفسه من الذهاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم يحلف على ذلك عدة أيمان، فيكي بهز هنا أنه عد على أصابع يده أنه لن يذهب للنبي صلى الله عليه وسلم ومع ذلك ذهب، والله عز وجل يهدي من يشاء.
يقول: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم حين أتيته فقلت: والله ما أتيتك حتى حلفت أكثر من عدد أولاء ألا آتيك ولا آتي دينك، وجمع بهز بين كفيه -يعني حلف بعدد أصابعه العشرة أنه لن يدخل في هذا الدين- قال: وقد جئت أمراً لا أعقل شيئاً إلا ما علمني الله تبارك وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم يعني: من يهدي الله فلا مضل له، أراد الله به الهداية مع أنه حلف هذه الأيمان، ومع ذلك ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاهتدى ودخل في هذا الدين.
يقول: إني سائلك بوجه الله -يعني: أسألك وأغلظ عليك في اليمين- بعثك الله إلينا؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (بالإسلام. قال: قلت: وما آيات الإسلام؟)، أي: ما هي العلامات والآيات التي فيها الإسلام. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أن تقول: أسلمت وجهي لله وتخليت) . هذه رواية، وفي الرواية الأخرى: (أن تسلم قلبك وأن توجه وجهك إلى الله) .
الإسلام: أن تسلم قلبك لخالقك سبحانه تبارك وتعالى، وتوجه وجهك وتستقيم على هذا الدين، فلا تتوجه ولا تلتفت عنه إلى غيره سبحانه.
فقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أن تقول: أسلمت وجهي لله وتخليت). هذه هي كلمة لا إله إلا الله، هذه الكلمة المعنى الذي فيها هو: أسلمت لله، وجهت وجهي لله، آمنت بالله، وتخليت عن غيره من الآلهة، أي: تركت جميع الآلهة والأنداد من دون الله سبحانه وتعالى. فتقول: لا إله إلا الله يعني: تركت جميع الآلهة فلا أعبد إلا إلهاً واحداً.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أن تقول: أسلمت وجهي لله وتخليت، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، كل مسلم على مسلم محرم). يعلمه النبي صلى الله عليه وسلم هذا الدين العظيم، وأن المسلم أخ للمسلم لا يخذله، لا يتركه، (المسلم للمسلم كالبنيان يشد بعضه بعضاً). فقال صلى الله عليه وسلم بعدما ذكر التوحيد والصلاة، والزكاة: (كل مسلم على مسلم محرم، أخوان نصيران، لا يقبل الله من مشرك أشرك بعدما أسلم عملاً، وتفارق المشركين إلى المسلمين). يعني: إذا أسلمت فاترك ديار الشرك وائت دار الإسلام وعش مع المسلمين لتعبد الله تعالى بينهم، ولا تكثر سواد المشركين.
قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث نفسه: (ما لي أمسك بحجزكم عن النار؟) يعني: العجيب من أمرهم وأمره صلى الله عليه وسلم أنه خائف عليهم ويمسك بحجزهم، والحجزة هي موضع ربط الحزام -يعني: كأنه مسكهم من المكان الذي لا يفلتون منه- ومع ذلك يتفلتون بشركهم وبمعاصيهم فيقعون في النار فيعذبهم، أنا أدلكم على الخير، وأحذركم من الشر، وآخذ بحجزكم حتى أبعدكم عن النار، ومع ذلك أنتم تصرون على ذلك.
يقول: (ما لي أمسك بحجزكم عن النار، ألا إن ربي عز وجل داعي وإنه سائلي) أي: الله داعي النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة وسائله، ثم قال صلى الله عليه وسلم: (فليبلغ الشاهد منكم الغائب، ثم إنكم مدعوون مفدمة أفواهكم بالفدام) . هذا مما علمه النبي صلى الله عليه وسلم لـمعاوية بن حيدة القشيري ومعنى: إنكم مدعوون أي: بين يدي الله عز وجل ليسألكم.
والفدام: الرباط الذي يوضع على فم السقاء أو الإناء حتى لا ينسكب ما بداخله.
و(مفدمة أفواهكم) يعني: مغلق على (أفواهكم) يوم القيامة حتى تنطق جوارحكم.
قال: (ثم إن أول ما يبين عن أحدكم لفخذه وكفه)، أي: أن أول ما ينطق فخذ الإنسان وكفه، الفخذ ينبئ ويخبر أنه عمل كذا وكذا، ووقع في الحرام بكذا وكذا، وكف الإنسان أخذ مالاً حراماً، وسفك دماً حراماً، وتعاطى حراماً بكذا وكذا، فينطق هؤلاء ولسانه لا ينطق.
قال: قلت: (يا نبي الله! هذا ديننا؟ قال: هذا دينكم، وأينما تحسن يكفك) أي: في أي مكان وكيفما أحسنت يكفيك إحسانك عند الله عز وجل.
كذلك دين الإسلام دين عظيم كبير واسع له علامات وهي الصلاة والزكاة والصوم.. ومنائر كهذه التي تعرف بها الطريق، يقول: (إن للإسلام صوى ومنائر كمنار الطريق، من ذلك: أن تعبد الله ولا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة) ، هذه علامات الإسلام، وهي علامات تدل على أن هذا الإنسان قد قبل دين الله سبحانه ورضي بأن يوحد الله سبحانه وتعالى، ومن ذلك أن يقيم الصلاة، ويؤتي الزكاة، ويصوم رمضان، قال: (والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر). الحديث حديث حسن أو صحيح.
وهناك رواية أخرى هي أجمع من هذه الروايات عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن للإسلام صوى ومناراً كمنار الطريق، منها: أن تؤمن بالله ولا تشرك به شيئاً، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن تسلم على أهلك إذا دخلت) هذا من علامات الإسلام، ومنها: أن تسلم إذا دخلت بيتك بتحية الإسلام لا تستبدلها.
قال: (وأن تسلم على القوم إذا مررت بهم، فمن ترك من ذلك شيئاً فقد ترك سهماً من الإسلام)، ليس المعنى: أنه كفر بترك هذه الأشياء ولكن ترك سهماً، لأنه عصى، أما من الأشياء التي قوام الدين فيها كالتوحيد فمن تركه فقد كفر وخرج من الدين، قال: (ومن تركهن كلهن فقد ولى الإسلام ظهره).
أي: من ترك التوحيد والصلاة وكل ما في الإسلام فقد ولى الإسلام ظهره.
إذاً: قول الله سبحانه: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ [الإسراء:57] معناه: أن أولئك الصالحين أو الملائكة أو الأنبياء والرسل الذين تدعونهم من دون الله سبحانه وتعالى هم يعبدون الله ولا يشركون به شيئاً، ويبتغون إلى الله الوسيلة أيهم أقرب، ويتسارعون إلى الله عز وجل في الخيرات، ويرجون رحمته ويخافون عذابه إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا [الإسراء:57]، فالواجب على المسلم أن يعبد الله سبحانه بكمال الحب وكمال الخوف وكمال الرجاء.
سيدنا إبراهيم إمام الحنفاء صلوات الله وسلامه عليه وأبو الأنبياء عليه الصلاة والسلام، قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ [الزخرف:26] أي: إنني أبرأ إلى الله عز وجل من شرككم، وكانوا يعبدون الأصنام من دون الله سبحانه، فدعاهم إلى الله تعالى فلما عصوا وأصروا على ما هم فيه تبرأ منهم ومن عبادتهم الباطلة، وقال: إِنَّنِي بَرَاءٌ [الزخرف:26] أي: بريء منكم ومما تعبدون من دون الله، ولكن أعبد إلهاً واحداً، قال: إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ [الزخرف:27].
إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان واحداً يدعو إلى الله سبحانه تبارك وتعالى، ولذلك لما قال للملك عن زوجته: إنها أختي. قال: وليس على وجه الأرض مسلم غيري وغيرك. يعني: في هذا المكان الذي هو فيه، وإن كان لوط في مكان آخر عليه الصلاة والسلام وهو مسلم لله، ولكن الغرض أن الذين يعبدون الله عز وجل كانوا قلة في زمن إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام. فقال متبرئاً من هؤلاء الكفرة الذين يعبدون غير الله: أنا بريء مما تعبدون، ما نظر إلى ضعفه وقوتهم.. إلى عددهم وهو وحده، لا ولكن تبرأ من هؤلاء وأتى ربه سبحانه بقلب سليم، فجعله الله إمام الحنفاء، وأبا الأنبياء على نبينا وعليهم الصلاة والسلام.
هنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام في بلده العراق يدعو إلى الله أهله الذين عبدوا أصناماً من دون الله سبحانه، ثم هاجر إلى الشام فوجدهم يعبدون النجوم والكواكب من دون الله، فدعا هؤلاء ودعا هؤلاء والجميع لم يستجب له وهو مصر على دعوته، متبرئاً مما هم فيه من باطل.
تدبر كيف عبر الخليل عليه الصلاة والسلام عن هذه الكلمة الطيبة بمعناها الذي دلت عليه: إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي [الزخرف:26-27] هو نفسه معنى كلمة لا إله إلا الله، يعني: كل ما تعبدونه آلهة باطلة لا أعبدها إلا إلهاً واحداً هو الله، هذا مقتضى لا إله إلا الله.
وقال الله سبحانه تبارك وتعالى: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ [التوبة:31]، هؤلاء عبدوا الشمس والقمر، وعبدوا النجوم والكواكب والأصنام من دون الله، وأولئك اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله، كما في حديث عدي بن حاتم قال: (انطلق إلى النبي صلى الله عليه وسلم فتلا عليه النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية. قال: يا رسول الله! إنا لسنا نعبدهم. قال: أليس يحلون لكم ما حرم الله فتحلونه، ويحرمون ما أحل الله فتحرمونه؟ قال: بلى. قال النبي صلى الله عليه وسلم: فتلك عبادتهم) .
الحديث رواه الترمذي بلفظ قريب من هذا اللفظ وفيه: (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب).
كان عدي نصرانياً عليه صليب من ذهب، وكان السبب في ذهابه أنه كان هارباً من النبي صلى الله عليه وسلم، وجاءت سرية من عند النبي صلى الله عليه وسلم وفيهم خالد بن الوليد رضي الله عنه وأسروا قومه، ومن ضمن هؤلاء عمته، فلما ذهبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم نظر إليها وهي أسيرة عنده فلم يعرفها، فأشار عليها علي أن تذكر للنبي صلى الله عليه وسلم أنها أخت حاتم الطائي لعل النبي صلى الله عليه وسلم يرحمها، فقد كان أخوها له كرم في الناس مشهور، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحب الكرم، فهذه المرأة لما قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: إنه هلك الوافد وغاب الوالد ... إلخ، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: (من وافدك؟ قالت:
وكان عدي هارباً إلى الشام من النبي صلى الله عليه وسلم وكره مقامه في الشام، وكان كارهاً لمجيء النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن كان أشد كراهة لما وجده في الشام، فرجع وذهب للنبي صلى الله عليه وسلم وهو لابس صليب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا
فإذا قال: الأحبار والرهبان هذا حلال يحلونه، أو هذا حرام يحرمونه. قال: (وإذا حرموا عليهم شيئاً حرموه) والحديث حسن.
وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم بين معنى من معاني العبادة: أن الإنسان يتبع إنساناً يشرع له غير ما شرع الله سبحانه، الله يقول هذا حلال ويقول آخر وهذا حرام، فيتبعه الناس على ذلك، مع أنهم يعرفون أن الله حرم ذلك أو أحل ذلك، فيخالفون ربهم اتباعاً لقادتهم ولمن هم معهم، فهذا كفر بالله سبحانه، وهذه عبادة غير الله مع الله اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [التوبة:31].
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر