قال الحافظ المنذري رحمه الله:
[ وعن أنس بن مالك رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اللهم أحيني مسكينا وأمتني مسكينا واحشرني في زمرة المساكين يوم القيامة) رواه الترمذي .
وعن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أتاني الليلة آت أو أتاني الليلة ربي) وذكر الحديث، إلى أن قال: (قال: يا محمد ! قلت لبيك وسعديك، فقال: إذا صليت قل: اللهم إني أسألك فعل الخيرات وترك المنكرات، وحب المساكين، وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضني إليك غير مفتون) رواه الترمذي وحسنه.
وعن أبي ذر رضي الله عنه، قال: (أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم بخصال من الخير، أوصاني ألا أنظر إلى من هو فوقي، وأنظر إلى من هو دوني، وأوصاني بحب المساكين، والدنو منهم، وأوصاني أن أصل رحمي وإن أدبرت) رواه الطبراني وابن حبان في صحيحه ].
هذه الأحاديث في كتاب التوبة والزهد للحافظ المنذري رحمه الله من كتابه الترغيب والترهيب، وفيها الترغيب في الفقر، وأن ينبغي للإنسان إذا منعه الله عز وجل من المال أن لا يحزن لذلك ولا يؤمل في الدنيا ولكن عليه أن يرضى بما هو فيه.
وذكرنا في حديث سابق أن المعنى ليس هو أن يطلب الإنسان من ربه أن يفقره، ولكن المعنى: أنه إذا أعطاه مالاً فليؤد حق الله عز وجل في النعم، ويصبر لأمر الله سبحانه ولا يتضجر من ذلك، وإذا افتقر الإنسان فليعمل كما عمل النبي صلى الله عليه وسلم في ما ورد أنه كان يتعوذ بالله من الكفر والفقر.
فالأحاديث في جملتها فيها أمر للفقير بأن يصبر على ما هو فيه، وفي الحديث أيضاً مواساة للفقير، وإخبار بما له عند الله سبحانه من فضل ومنزلة، وأن على المسلم أن يحب الفقراء من المسلمين، ويعلم أن لهم فضلاً في الدنيا وفي الآخرة.
ففي الدنيا هم الضعفاء، وهم أهل إجابة الدعاء.
وفي الآخرة يشفعون في دخول الجنة لمن كان يعطف عليهم ويعطيهم في الدنيا، ومن كان يقربهم، فعلى المسلم أن يحب الفقراء؛ لفضلهم عند الله، ولأن الله يحبهم، ولشفاعتهم عند الله.
ومن الأحاديث التي جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الدعاء أنه كان يقول: (اللهم أحيني مسكيناً، وأمتني مسكينا، واحشرني في زمرة المساكين).
والمعنى هنا: أنه لا يطلب الفقر صلى الله عليه وسلم، ولكنه يطلب قوتا على القدر والكفاية والحاجة.
فالمسكين: هو الواجد لأقل من حاجته، وكأن النبي صلى الله عليه وسلم يطلب ما يكون عليه المسكين، وهذا من حسن التواضع عنده صلى الله عليه وسلم، كأنه يقول: اجعلني مع المساكين، قريباً منهم، واجعلني معهم في الدنيا، وليس المعنى: أفقرني، بل هو كان يتعوذ بالله من الفقر.
فقال: (أحيني مسكيناً) أي: مع هؤلاء، وارزقني أخلاق المساكين، من المسكنة والتواضع للخلق.
وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أتاني الليلة ربي) وفي رواية: (رأيت ربي في أحسن صورة...)، في حديث طويل، وفي آخر الحديث أن الله سبحانه تبارك وتعالى أوصى النبي صلوات الله وسلامه عليه، (فقال: يا محمد ! قال: قلت لبيك وسعديك، فقال: إذا صليت قل: اللهم إني أسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضني إليك غير مفتون).
وفي رواية أخرى: (وحب المساكين، وأن تغفر لي وترحمني، وتتوب علي، وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضني إليك غير مفتون).
هذا النبي صلوات الله وسلامه عليه الذي عصمه الله سبحانه، ومع ذلك يوصيه ربه أن يدعو بهذا الدعاء، فنحن أولى أن ندعو بهذا الدعاء، أما هو فقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.
إذاً: بعد كل صلاة يستحب للمسلم أن يدعو بهذا الدعاء، ويقول: اللهم إني أسألك فعل الخيرات، يعني: جميع الخيرات، كأن اللام هنا للجنس، أي: جنس الخيرات، فكل خير اجعلني أفعله وأعني عليه.
وترك المنكرات، ولام المنكرات للجنس أي: جميع المنكرات، فيقول: اجعلني أترك جميع المنكرات ولا أقع فيها.
(وحب المساكين): وهذا الشاهد من الحديث، وهو أنه يدعو ربه سبحانه أن يحبب إليه المساكين، فالإنسان المؤمن عندما يرزقه الله سبحانه وتعالى حب المساكين، يجعل في قلبه رحمة، ويجعل في خلقه التواضع، ويجعله ذليلاً على المؤمنين، عزيزاً على الكافرين، فكان يطلب حب المساكين، ليحبهم ويحبوه، فينتفع المسلم بذلك، ليكون متواضعاً، والمتواضع يرفعه الله عز وجل.
والمستكبر المتعالي لا بد أن يذله وأن يقصمه الله سبحانه وتعالى، فليسأل المؤمن ربه حب المساكين.
قال صلى الله عليه وسلم: (وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضني إليك غير مفتون)، وقد علم من حاله صلى الله عليه وسلم أن الله سبحانه وتعالى قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ولكنه يريد أن يعلمنا كيف ندعو عقب الصلاة.
وقد قال رسول الله في فضله: (ما أظلت الخضراء، ولا أقلت الغبراء، من ذي لهجة أصدق من
وقد كان أبو ذر يُشبَّه بين الصحابة بالمسيح عيسى بن مريم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.
قال أبو ذر: (أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم بخصال من الخير، أوصاني: ألا أنظر إلى من هو فوقي، وأن أنظر إلى من هو دوني).
فوصية النبي صلى الله عليه وسلم أن لا تنظر إلى من هو أعلى منك، ولكن انظر إلى من هو دونك، فإذا كنت على درجة معينة من الغنى فلتنظر إلى من هو دونك؛ لأنك لو نظرت إلى من فوقك من أصحاب فضول الأموال وغير ذلك، فسترى ما أنت فيه قليلا، فتحتقر النعمة التي أنت فيها.
وكذلك كثير من الناس تقول له: احمد الله، فيقول لك: على ماذا ؟! ولا حول ولا قوة إلا بالله؛ لأنه ينظر إلى من هو فوقه، ونسي أن الله أعطاه صحة، وأن الله سبحانه أطعمه وسقاه، وأن الله كفاه وآواه، وأن الله رزقه وكساه، ينسى هذا كله؛ لأنه ينظر إلى من هو أعلى منه، فيقول: عند الناس أكثر مما عندي، وفلان لديه مائتا ألف، فلان لديه مليون، ونحن لدينا ماذا؟ فإذا به يستقل نعمة الله سبحانه وتعالى عليه.
فالنبي صلى الله عليه وسلم يوصيه أن انظر إلى من هو دونك، ومن هو أقل منك، فإذا نظرت إلى الفقير يبيت ولا يجد ما يأكل، وأنا أبيت شبعاناً، فأنا أفضل منه والحمد الله، فالنظر إلى من هو دونك يجعلك تشكر الله سبحانه وتعالى.
كذلك إذا نظرت إلى الإنسان المريض وأنت في صحة وعافية، فإنك ستقول: الحمد الله الذي عافني مما ابتلاه به، وفضلني عليه وعلى كثير ممن خلق من عباده تفضيلا.
قال أبو ذر رضي الله عنه: وأوصاني بحب المساكين، والدنو منهم، أي: التقرب من المساكين.
قال: وأن أصل رحمي وإن أدبرت، أي: أوصاني أن أصل أرحامي وإن كانوا يبتعدون عني.
يعني: أن هؤلاء كانوا من فقراء الصحابة، فكانوا جالسين في نفر، فمر أبو سفيان قبل إسلامه، فقالوا: والله ما أخذت سيوف الله من عنق عدو الله مأخذها؛ لأنهم يتذكرون ما عمل فيهم أبو سفيان في يوم أحد، وقد كان هو شيخ قريش، وهو الذي يجمع على النبي صلى الله عليه وسلم الأعداء، فقال هؤلاء الصحابة: إنه يستحق أن تقطع رقبته في يوم من الأيام، ولكن أراد الله به الرحمة فرحمه وأسلم بعد ذلك، وحسن إسلامه رضي الله تبارك وتعالى عنه.
ولكنهم قالوا هذا القول لكثرة ما عانوا منه ومن أمثاله في أيام كفرهم، فـأبو بكر الصديق الذي يطمع أن يتألف هذا الرجل وأن يدخله في دين الله سبحانه، لما سمعهم يقولون هذا الكلام قال لهؤلاء: (أتقولون هذا لشيخ قريش وسيدهم).
أي: إن أبا بكر يطمع أن يسلم أبو سفيان ، فلذلك لا يحب أن يضايقه أحد بكلمة تؤذيه فينفره عن دين الله سبحانه، فقال لهؤلاء الصحابة الأفاضل: (أتقولون هذا لشيخ قريش وسيدهم، فلما قال ذلك وأتى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا
فهذا أبو بكر الصديق الذي قال الله عنه: ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ [التوبة:40] والذي أنفق ماله كله في سبيل الله سبحانه، والذي واسى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهاجر معه، فصفاته عظيمة، وأفعاله وخيراته كثيرة، ويكفي أنه أول العشرة المبشرين بالجنة الذين ذكرهم النبي صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك يقول له النبي صلى الله عليه وسلم: (إن كنت أغضبت هؤلاء فقد أغضبت ربك)، وفيه بيان أن الإنسان المؤمن لا يستكبر على فقراء المؤمنين المتواضعين، ولا يتعالى عليهم ولا يؤذيهم ولا يغضبهم ولا يبتعد عنهم، بل يحبهم ويتقرب منهم؛ لعلهم ينفعونه في الدنيا بدعواتهم الطيبة، وفي الآخرة بشفاعتهم.
وذلك لأن الإنسان عندما يكون فقيراً ضعيفاً يكون متواضعاً، ويشعر أن كل الناس أحسن منه، فيتواضع معهم، والناس ينظرون إليه على أنه ضعيف، فهو في نفسه يقول: أنا ضعيف، وهو عند الناس كذلك، وأمثال هذا هم أكثر أهل الجنة.
وقوله: (لو أقسم على الله لأبره)، أي: أن هذا الذي ينظر إليه الناس أنه ضعيف لو أقسم على الله لأبره، يعني: أنه لو دعا ربه سبحانه: يا رب! أقسمت عليك بك أن افعل لي كذا وكذا، فيفعل الله عز وجل ما يطلبه هذا الإنسان الفقير.
فلا تحتقر فقيراً أبدا، فإنك لا تدري لعل قوته في دعائه، وقوته في استجارته بربه سبحانه واستغاثته به.
ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة الأقوياء: (وهل تنصرون إلا بضعفائكم)، أي: أن النصر ليس بقوتكم أنتم، ولكن بدعوة هؤلاء الضعفاء وإن كنا مأمورين بإعداد القوة.
إذاً: أهل الجنة هم الضعفاء من المؤمنين.
أما أهل النار فقد قال صلى الله عليه وسلم: (ألا أخبركم بأهل النار، كل عتل جواظ مستكبر).
العتل: الإنسان الجافي، الذي لا يسمع النصيحة ولا يقبلها، بل يتعالى ويستكبر، تقول: اتق الله، فيقول لك: اتق الله أنت مالك ومالي، فلا يرضى ولا يستمع للنصيحة.
فالنبي صلى الله عليه وسلم بين أن كل عتل غليظ جافٍ، وقلبه قاسٍ، فهو من أهل النار.
والجواظ: الضخم، إنسان ضخم، ومختال، ومتعال على الخلق، فهذا الإنسان يرى أن عنده مالاً فهو جموع منوع، يستكبر على الخلق، وينظر إليهم بازدراء، فأمثال هذا هم أهل النار، مع أنه في الدنيا طويل وعريض وسمين وثقيل، ولكنه لا يزن عند الله جناح بعوضة، فيوم القيامة ليس له أي قيمة، ويحشر هؤلاء الجبارون المستكبرون كأمثال الذر يدخلهم الله ناراً تلظى، نسأل الله العفو والعافية.
وفي حديث آخر أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أهل النار وأهل الجنة، فقال لـسراقة بن مالك بن جعشم : (يا
والجواظ هو: الإنسان الأكول الشروب الكفور الجموع المنوع، فأهل النار من صفاتهم أنهم أغنياء، وعندهم أكل وشرب، وعندهم صحة، وعندهم بدن، ولهم قوة ورياسة، ويستكبرون على الخلق، ولا يقبلون نصح الخلق، فهؤلاء هم من أهل النار.
فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم (أن أهل الجنة هم الضعفاء المغلوبون)، لذلك يجب على المؤمن إذا صادق أحداً أن لا يترك أهل الجنة وهم الفقراء والمساكين، بل عليه أن يرحمهم ويحبهم ويتقرب منهم؛ لعلهم ينفعونه في الدنيا والآخرة.
نسأل الله عز وجل العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر