قال الإمام المنذري رحمه الله: [ الترهيب من الدين.
روى الطبراني عن ميمون الكردي عن أبيه رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (أيما رجل تزوج امرأة على ما قل من المهر أو كثر ليس في نفسه أن يؤدي إليها حقها خدعها، فمات ولم يؤد إليها حقها لقي الله يوم القيامة وهو زانٍ، وأيما رجل استدان ديناً لا يريد أن يؤدي إلى صاحبه حقه، خدعه حتى أخذ ماله، فمات ولم يؤد إليه دينه لقي الله وهو سارق).
وروى أبو داود عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد ضاد الله في أمره، ومن مات وعليه دين فليس ثَم دينار ولا درهم ولكنها الحسنات والسيئات، ومن خاصم في باطل وهو يعلم لم يزل في سخط الله حتى ينزع، ومن قال في مؤمن ما ليس فيه حبس في ردغة الخبال حتى يأتي بالمخرج مما قال).
إنسان يتزوج ويتفق مع المرأة أو مع أهلها على أنه سيدفع المهر كذا، وهو ينوي ألا يدفع، وينوي أن يخدع ولا يدفع شيئاً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس في نفسه أن يؤدي إليها حقها، خدعها فمات ولم يؤد إليها حقها لقي الله يوم القيامة وهو زان) والعياذ بالله!
فانظر إلى بشاعة هذه الجريمة التي يقع فيها الإنسان! وانظر إلى العقوبة التي يعاقب عليها تعرف مدى الجرم الذي أجرمه هذا الإنسان، فيتزوج وينوي الخديعة، والزواج آية من آيات الله سبحانه، قال تعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً [الروم:21].
فالزواج تظهر فيه آيات الله سبحانه من المودة والرحمة، فيؤدي الحق (إن أحق ما وفيتم به من الشروط ما استحللتم به الفروج) كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم.
فإذا كان الإنسان يتزوج وينوي الخداع أنه لا يدفع شيئاً، ويريد أن يتزوج المرأة ويدخل بها ثم بعد ذلك يطلقها ويضيع حقها، فهذا الإنسان يحشر يوم القيامة مع الزناة والعياذ بالله!
قال صلى الله عليه وسلم: (وأيما رجل استدان ديناً لا يريد أن يؤدي إلى صاحبه حقه خدعه حتى أخذ ماله) ، خدعه مع لين القول، وضحك عليه بكلام طيب: أعطني المال وسأرجعه لك يوم كذا..، وستلاقي مني كذا، وهو ينوي ألا يرد هذا المال، فهذا يلقى الله سبحانه وهو سارق يوم القيامة، فالسرقة كبيرة من الكبائر، فماذا ينتظر صاحب الكبيرة إلا النار والعياذ بالله!
وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (تعافوا الحدود فيما بينكم، فإذا بلغت السلطان فلعن الله الشافع والمشفع).
فحدود الله سبحانه وتعالى جعلها رادعة عن الوقوع في الجريمة، كالحد في شرب الخمر، والحد في السرقة، والحد في قطع الطريق، والحد في الزنا، فهذه حدود جعلها الله عز وجل تأديباً للعباد وتهذيباً لهم، ومنعاً لغيرهم أن يقعوا في هذه المنكرات، فإذا كان بين إنسان وآخر شيء فعفا عنه بينه وبينه فلا مانع أن تعفو عن شيء يخصك أنت، كإنسان سرق من إنسان شيئاً ثم عفا عنه وترك له ذلك، وأما إذا بلغ هذا الحد إلى الحاكم فلا يجوز لأحد أن يشفع في ذلك، فقد لعن النبي صلى الله عليه وسلم الشافع والمشفع.
وفي حديث: أن صفوان بن أمية لما أسلم وجاء للنبي صلى الله عليه وسلم في المدينة جعل برده تحت رأسه في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ونام، فإذا برجل من الذين كانوا في المسجد يمد يده ليسرق البرد الذي كان الرجل لابسه وقد طرحه تحت رأسه وهو نائم، فأمسك به صفوان ورفعه للنبي صلى الله عليه وسلم وقال له: إن هذا أراد أن يسرق مني بردي، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطع يده.
إذاً: فقد رفع الأمر إلى الحاكم وهو النبي صلى الله عليه وسلم؛ فأمر بقطع يد السارق، فإذا بـصفوان يندهش فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: أفي مثل هذا البرد تقطع يده؟! فهو له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (هل ذاك قبل أن تأتيني به؟) لماذا لم تتركه له قبلما ترفعه لي؟ فإذا بلغ الحكم إلى الحاكم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لعن الله الشافع والمشفع).
فلا تجوز الشفاعة بعدما وصل الأمر إلى القاضي في أي حد من حدود الله سبحانه وتعالى.
فهنا في هذا الحديث: (من حالت شفاعته دون حد من حدود الله) يعني: أتي بإنسان زانٍ وأقر على نفسه، أو بإنسان شهد عليه أربعة أنه وقع في هذه الجريمة ورفع إلى القاضي، فأمر القاضي برجمه أو أمر بجلده حسب حاله، وتدخل إنسان ليشفع ويقول: أرجوك اتركه، فهنا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فقد ضاد الله في أمره)، فأحكام الشريعة ليس فيها تلاعب، ولا أن الإنسان يقول: من أجلي اتركه، لا، فحد واحد يقام في الأرض أحب إلى أهل الأرض من أن يمطروا أربعين صباحاً، وحد يقام في الأرض تأتي بسببه البركة من السماء؛ لأن الحدود عقوبة على جريمة، وردع للناس من أن يقعوا في هذه الجريمة، قال صلى الله عليه وسلم: (ومن مات وعليه دين فليس ثَم دينار ولا درهم).
فالذي يموت وهو مديون فلا يوجد يوم القيامة دراهم، قال: (ولكنها الحسنات والسيئات) ، إذاً: فيوم القيامة إما أن تعطي لهذا الذي له الدين من حسناتك، وإما أن تحمل من سيئاته قصاصاً لهذا الدين، قال: (ولكنها الحسنات والسيئات) .
قال: (ومن خاصم في باطل وهو يعلم) ، فالإنسان الذي يخاصم في خصومة ويجادل فيها وارتفع الأمر إلى القاضي وهو يعلم أنه كذاب، كإنسان يدعي على فلان أن الأرض هذه حقه، والشقة هذه حقه، والمكان هذا حقه ويرتفع الأمر إلى السلطان، وهذا المخاصم الذي يجادل كذاب ويعلم في نفسه أنه كذاب، فهذا مصيبته عند الله عز وجل عظيمة، قال: (من خاصم في باطل وهو يعلم لم يزل في سخط الله حتى ينزع) ، فيغضب الله عز وجل عليه، وإذا غضب الله عليه فلا ينتظر إلا المصائب، ويظل على هذه المصائب والله غضبان عليه حتى يرجع عن ذلك فيرد الحق لصاحبه، ويتوب إلى الله سبحانه.
قال: (ومن قال في مؤمن ما ليس فيه) أي: رماه ببهتان، ورماه بقول زور وكذب عليه، فيقول: فلان هذا أنا رأيته يعمل كذا وكذا، وقد قالوا عليه كذا وكذا، وليس فيه هذا الشيء، قال: (ومن قال في مؤمن ما ليس فيه حبس في ردغة الخبال) حبس في النار والعياذ بالله! في مكان اسمه: (ردغة الخبال)، و(ردغة الخبال): منطقة في النار يسيل فيها صديد أهل النار والعياذ بالله! فهذا مكان يليق بهذا الإنسان الكذاب الذي فيه نتانة الكذب، فيحبس فيه (حتى يأتي بالمخرج مما قال) والإنسان يأتي بالمخرج إذا كان صادقاً، لكن هذا كذاب، فاحذر أن تقول على مؤمن أو مؤمنة ما ليس فيه، واحذر أن تسمع شائعة عن إنسان فتردد هذه الشائعة كما سمعتها فتحبس في (ردغة الخبال) وهو مكان يسيل فيه عصارة أهل النار والعياذ بالله!
وفي رواية أخرى قال: (إن صاحبكم حبس على باب الجنة بدين كان عليه) يعني: هذا الرجل كان يستحق دخول الجنة ولكن الدين منعه من دخوله الجنة.
وفي رواية أخرى: (فإن شئتم فافدوه، وإن شئتم فأسلموه إلى عذاب الله)، أي: إن شئتم فافدوا هذا الإنسان الذي يستحق الجنة، (وإن شئتم فأسلموه إلى عذاب الله فقاموا ودفعوا ما كان عليه من دين).
والله سبحانه رحم هذا الإنسان بأن أعلم النبي صلى الله عليه وسلم فقال ذلك، فيا ترى كيف سيعلم أحد منا بهذا الشيء؟! فيموت الإنسان وعليه دين وأهله لا يدفعون ما عليه من الدين، ويقولون: مات وليس لنا دخل في دينه، ويتقاسمون المواريث والديون ولا أحد يسأل عن دين هذا الإنسان، وكم رأينا من ذلك! فتجد إنساناً يموت وهو مليونير وعليه ديون للناس، فقد كان يتاجر للناس في أموال فأخذ أموالهم، فلما يموت هذا الإنسان يجيء أصحاب الديون يطلبون أموالهم فيماطلهم الورثة، والورثة يتنازعون في الميراث وليس مهماً دين هذا الإنسان، والمهم أن يصل إليهم إرثه، لذلك لا يحافظ على أداء الدين إلا صاحب الدين الذي يخاف من الله سبحانه وتعالى، وأما أن يبقى عليك دين وتنتظر من أهلك بعد وفاتك أن يقضوه فالغالب أنه لا يحدث هذا الشيء، ولا ينظر أحد في ذلك، ويجدون من رفقاء وأصدقاء وجيران السوء من يقول لهم: لا تدفع عنه دينه فعنده عيال لما يكبروا سيسددون عنه هذا الدين، وهو يحبس عن الجنة ويعذب في النار مدة ذلك.
وانظر هذا الحديث عن جابر قال: (توفي رجل فغسلناه وكفناه وحنطناه، ثم أتينا به رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه، فقلنا: تصلي عليه، فخطى خطوة ثم قال: أعليه دين؟ قلنا: ديناران) عليه ديناران فقط، قال: (فانصرف النبي صلى الله عليه وسلم) أي: لم يصل على هذا الرجل، (ثم تحملهما أبو قتادة) ، فأبو قتادة قال: يا رسول الله! أنا سأدفع الدينارين عنه، (هما علي، قال: هما عليك وفي مالك والميت منهما براء؟ قال: نعم، فصلى عليه النبي صلوات الله وسلامه عليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد يوم: ما فعل الديناران؟) يسأل أبا قتادة : الديناران اللذان أنت تحملتهما عن فلان هل قضيتهما أم لا؟ (فقال: إنما مات أمس، قال: فعاد إليه من الغد -اليوم الذي بعده- فقال: قد قضيتهما، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الآن قد بردت جلدته)، كأن الميت كان يعذب فبردت جلدته لما دفع أبو قتادة ما على هذا الإنسان المتوفى من الدين، وهذا العذاب يكون للإنسان الذي استدان في غير حاجة ولم ينو الوفاء، واستدان وهو قادر على السداد ولم يتعب نفسه في السداد، وكم من إنسان يكون فيه نوع من الاستهانة بأموال الناس، فاستحلى السؤال، وما زاد الله عز وجل عبداً بسؤاله الناس إلا فقراً، فيزيده فقراً عندما يتعود: سلفني يا فلان! أعطني يا فلان! فيتعود على هذا الشيء وتبقى طبيعة فيه ولا يستطيع أن يرد للناس شيئاً، وسهل عليه أن يستلف ولا يرد للناس أموالهم، فمثل هذا الإنسان الذي يموت وعليه دين للناس ولم يجتهد في قضائه، ولم يتعب نفسه في قضاء ما عليه من الدين، فهذا الإنسان ممن يعذب في قبره بسبب أموال الناس، فاحذروا من تضييع أموال الناس، وكفى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من أخذ أموال الناس ينوي إتلافها أتلفه الله) ، فأخبر عن حاله عند الله أن الله يهلكه ويتلفه، أو دعا عليه النبي صلى الله عليه وسلم.
نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر