أما بعد:
قال الإمام المنذري رحمه الله: ترغيب التجار في الصدق، وترهيبهم من الكذب والحلف وإن كانوا صادقين.
روى الترمذي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء).
ورواه ابن ماجة عن ابن عمر ولفظه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (التاجر الأمين الصدوق المسلم مع الشهداء يوم القيامة).
وروى البخاري ومسلم وغيرهما عن حكيم بن حزام رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا فإن صدقا البيعان وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا فعسى أن يربحا ربحاً ويمحق بركة بيعهما).
وفي رواية: (اليمين الفاجرة منفقة للسلعة ممحقة للكسب).
هذه الأحاديث يرهب بها النبي صلى الله عليه وسلم التجار من النار ومن الكذب ومن الحلف بالله سبحانه وتعالى، حتى ولو كانوا صادقين؛ لأن الإنسان الذي يعتاد على اليمين يحلف صادقاً ثم يأتي عليه زمان يحلف فيه معرضاً ثم يحلف بعد ذلك كاذباً، فلذلك يحذر الإنسان من اليمين ولا يعود نفسه على الحلف إلا إن يحتاج إلى ذلك، أما أن يكون الأمر المراد منه لا يحتاج إلى يمين ثم هو يسارع إلى الحلف فهذا حتى ولو كان صادقاً سيتدرج حتى يحلف كاذباً بعد ذلك، وخاصة إذا كان تاجراً؛ لأن المال يفتن صاحبه فيحلف حتى يروج السلعة، يحلف مرة صادقاً ومرات كاذباً فليحذر من ذلك.
وهذه أحاديث فيها بيان أن التاجر الصدوق مع النبيين والصديقين والشهداء، وأن التاجر الفاجر في النار، والعياذ بالله.
عن أبي سعيد وابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (التاجر الصدوق الأمين المسلم مع النبيين والصديقين والشهداء).
ما قال: التاجر الصادق ولكن قال: الصدوق يعني: كثير الصدق، (الأمين) أي: المؤتمن الذي لا يغش في تجارته، ولا يخدع، ولا يمكر، ولا يحتال، ولا يدلس، ولا يبيع الشيء المعيب بغير تبيين، فهذا هو الأمين.
وفي الحديث الآخر المسلم، وهذا طيب فإن الجنة لا يدخلها إلا نفس مسلمة، وقوله: (مع النبيين والصديقين والشهداء يوم القيامة).
أي: يوم القيامة يحشر مع هؤلاء.
وفتنة المال عند التجار فتنة عظيمة جداً فالتاجر عنده مال لكنه يريد ربحاً أكثر فإذا اتقى الله سبحانه ولم يفتنه المال فباع بصدق وهمه أن يرضي الله سبحانه وتعالى فإن الله يبارك له في دنياه، ويبارك له في أخراه.
فالتاجر الذي يصدق في كلامه، ولا يكذب ولا يخون ولا يخدع ولا يغش في منزلة عالية يوم القيامة مع النبيين والصديقين والشهداء.
وفي حديث آخر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا)، والبيعان: البائع والمشتري، فهما بالخيار ما لم يتفرقا.
لعل إنساناً يذهب إلى البائع يشتري شيئاً وبعد أن يشتريه وهو يسير في المتجر يقول لا أريد هذا الشيء لقد تذكرت أني محتاج إلى المال الذي معي فهنا النبي صلى الله عليه وسلم يقول: بالخيار، طالما أنهما لم يفترقا ولم يحدث نوع من الخسارة للتاجر، فيجوز أن يتقايل هذا البيع ولا يتم للبائع طلباً لأنه ما زال في المتجر ولم يحصل للسلعة أي عيب.
قال صلى الله عليه وسلم: (فإن صدق البيعان وبينا -أي: صدق البائع والمشتري- بورك لهما في بيعهما)، فالصدق منجاة في الدنيا وفي الآخرة فإنه يبارك لهما في السلعة، (وإن كتما وكذبا)، الاثنان، وقد يقول قائل:
البائع سيكتم لكن المشتري ماذا سيكتم فإنه يدفع نقوداً؟
الجواب: قد لا يدفع نقوداً بل يدفع شيئاً آخر كأن يتبادلا سلعة بسلعة، فكل منهما يكون بائعاً ومشترياً وكل سلعة من السلعتين فيها بيع وهي ثمن للسلعة الأخرى.
(وإن كتما وكذبا)، الاثنان أو واحد من الاثنين فالذي يكتم ويكذب لا يبارك له.
قال صلى الله عليه وسلم: (فعسى أن يربحا ربحاً)، هذا اللفظ في غير البخاري ومسلم وهو صحيح.
يعني: قد يبدو في الظاهر أنهما ربحا، لكن الحقيقة أن هذا الربح ممحوق يمحقه الله سبحانه وتعالى.
فإذا محقت البركة فلينتظر هلاك المال الذي لا يبارك الله عز وجل فيه.
فالمال الذي سيكسبه لن يكون فيه بركة بل سيهلكه ويمحقه الله سبحانه، ويرسل عليه ما يذهبه.
وفي رواية أخرى لهذا الحديث في مسند الإمام أحمد قال صلى الله عليه وسلم: (إن التجار هم الفجار، قالوا: يا رسول الله! أليس قد أحل الله البيع فقال صلى الله عليه وسلم: بلى ولكنهم يحلفون فيأثمون ويحدثون فيكذبون).
وهذه هي المصيبة وهي أن التاجر الغالب عليه كثرة الحلف، فهو يحلف بالله ويحلف بالطلاق ويحلف بغير الله ولا يهتم لذلك، إذا حلف بغير الله أشرك، وإذا حلف بالله سبحانه فقد لا يصدق في يمينه بل يكذب فيكون يمينه يميناً غموساً، واليمين الغموس هي أن يحلف بالله كاذباً، ليقتطع من مال المسلم.
فالذي يقول لك: والله إن هذه ثمنها علي كذا لكي يأخذ منك مالاً أكثر وهو كاذب في يمينه فقد وقع في اليمين الغموس الذي حكم على صاحبها بأن يغمس في النار والعياذ بالله، وسميت يميناً غموساً؛ لأن صاحبها لا بد أن يذوق ويل هذه اليمين والعياذ بالله.
قال صلى الله عليه وسلم: (لكنهم يحلفون فيأثمون ويحدثون فيكذبون) فيتعود على الكذب، ولكثرة ما يبيع ويشتري إذا جاء المشتري إليه قال لا بد أن أكذب عليه حتى أبيع فيكذب ويكذب ويأثم ويكون يوم القيامة مع الفجار والعياذ بالله.
لما قالها النبي صلى الله عليه وسلم مرة واثنتين وثلاثاً قال أبو ذر : (خابوا وخسروا منهم يا رسول الله؟! قال: المسبل، والمنان والمنفق سلعته بالحلف الكاذب).
والمسبل هو: الذي يلبس القميص أو البنطلون أو الإزار ويجرجره في الأرض، وما أكثر ذلك، فتراه يمشي في المجالس فيلوث ثوبه، ويصلي على هذا الحال، هذا المسبل لا ينظر الله عز وجل إليه، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما زاد عن الكعبين فهو في النار)، وتجد الكثير من الناس في غفلة عن حديث النبي صلوات الله وسلامه عليه، وإذا قلت لإنسان: ارفع بنطلونك عن الأرض، أو ارفع قميصك قال: الموضة هكذا، أي موضة هذه التي ستودي بك إلى نار جهنم، وتكون من الذين لا ينظر الله إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم؟ هو الذي يعطي الشيء ويمن على من أعطاه، ويهدي الهدية ويمن عليها ويتصدق على إنسان بصدقة ويفضحه بين الناس ويمن عليه، فاحذر أن تمن على أحد بشيء صنعته له.
قال: (والمنفق سلعته بالحلف الكاذب)، أي: هو يريد أن يبيع سلعته، وحتى يشتريها الناس يحلف كاذباً أن قيمتها كذا وأنه سيبيعها بخسارة وهكذا. فهؤلاء الثلاثة لا يكلمهم الله ولا يزكيهم يوم القيامة ولهم عذاب عظيم.
وفي الحديث الآخر: (لا ينظر إليهم).
وهناك حديث آخر في هذا المعنى: عن سلمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة: أشيمط زان، وعائل مستكبر، ورجل جعل الله بضاعته لا يشتري إلا بيمينه ولا يبيع إلا بيمينه) فهؤلاء لا ينظر الله إليهم يوم القيامة، وهو أشيمط زاني، والشمط: البياض الذي يدخل في شعر الإنسان، تقول فلان: أشمط يعني: بدا البياض في شعره، يعني: بدأ سنه في الكهولة والشيب هذا الأشمط، الله سبحانه وتعالى جعل له الشيبة واعظاً، وليس معنى ذلك أن الشاب معذور إذا زنى، فإنه لا عذر في كبيرة من الكبائر، ولكن أحدهما أبغض إلى الله من الآخر، فالذي كبر سنه أشد بغضاً عند الله من الشاب الذي وقع في الزنا والعياذ بالله.
والعائل المستكبر: هو الفقير، فالله منع عنه أسباب الكبر حتى يتواضع، ثم هو يستكبر على غيره من الناس فهو أبغض إلى الله من الغني المستكبر، وكلاهما بغيض إلى الله سبحانه.
والإنسان المتكبر أبى الله أن يدخله الجنة حتى يعذبه بالنار والعياذ بالله.
قال: (ورجل جعل الله بضاعته لا يشتري إلا بيمينه ولا يبيع إلا بيمينه)، هذا المنفق سلعته بالحلف الكاذب جعل الله بضاعته وسلعته أن يحلف بالله دائماً كاذباً، حتى يبيع السلعة.
وفي حديث آخر: زاد رابعاً على هؤلاء فقال: (البياع الحلاف، والفقير المختال، الشيخ الزاني، والإمام الجائر)، والإمام معناه: الحاكم أو الأمير الجائر الظالم فبسبب ظلمه يكون يوم القيامة مع الذين يبغضهم الله سبحانه وتعالى ولا ينظر إليهم ولا يكلمهم ولهم عذاب أليهم.
نسأل الله العفو والعافية في الدين الدنيا والآخرة، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر