بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد الله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
أما بعد:
فقد روى الإمام البيهقي عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (القتل في سبيل الله يكفر الذنوب كلها إلا الأمانة. قال: يؤتى بالعبد يوم القيامة وإن قتل في سبيل الله ويقال: أد أمانتك، فيقول: أي رب! كيف وقد ذهبت الدنيا؟ قال: فيقال: انطلقوا به إلى الهاوية، فينطلقون به إلى الهاوية، وتمثل له أمانته كهيئتها يوم دفعت إليه، فيراها فيعرفها، فيهوي في أثرها حتى يدركها، فيحملها على منكبيه، حتى إذا نظر -ظن- أنه خارج زلت عن منكبيه فهو يهوي في أثرها أبد الآبدين، ثم قال: الصلاة أمانة، والوضوء أمانة، والوزن أمانة، والكيل أمانة. وأشياء عددها. وأشد ذلك الودائع). قال زاذان : فأتيت البراء بن عازب فقلت: ألا ترى إلى ما قال ابن مسعود قال: كذا وكذا؟ قال: صدق، أما سمعت الله تعالى يقول: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا [النساء:58].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من حمل علينا السلاح فليس منا، ومن غشنا فليس منا).
فقد قال: القتل في سبيل الله يكفر الذنوب كلها إلا الأمانة. وجاء هذا المعنى في حديث النبي صلى الله عليه وسلم عندما سأله رجل: أرأيت إن قاتلت في سبيل الله صابراً، أو: قتلت صابراً محتسباً مقبلاً غير مدبر، أيكفر عني ذلك، -يعني: الذنوب-؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (نعم، فلما أدبر الرجل ناداه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: إلا الدين، أخبرني بذلك جبريل آنفاً).
فالإنسان لو استشهد في سبيل الله مقبلاً غير مدبر صابراً محتسباً، وقتل في سبيل الله فإن هذا القتل يكفر عنه كل الذنوب التي وقع فيها، إلا الدين، أي: إلا أمانات الناس. فإن كان عنده دين للناس، فإن هذا لا يكفر عنه، والناس تطالبه بحقوقها يوم القيامة. فيؤخذ لهم من هذا الإنسان حتى ولو كان شهيداً.
وهنا يقول ابن مسعود : (القتل في سبيل الله يكفر الذنوب كلها إلا الأمانة. يؤتى بالعبد يوم القيامة وقد قتل في سبيل الله، فيقال: أد أمانتك). وهذا له حكم المرفوع؛ لأن ابن مسعود لم ير يوم القيامة، ولا يعلم شيئاً من الغيب، إلا أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم أخبره بذلك. فقال: (فيقال: أد أمانتك) أي: أن الإنسان عندما يأتي يوم القيامة يقول له الله عز وجل: عليك أمانة، وعليك وديعة لفلان، وعليك دين لفلان، وعليك كذا. فأد هذه الأمانة. قال: (فيقول: أي رب، كيف وقد ذهبت الدنيا؟)، أي: من أين آت بها؟! وهي لا توجد الآن؛ لأن الدنيا ذهبت. قال: (فيقال: انطلقوا به إلى الهاوية)، وهذا من أسماء النار والعياذ بالله. سميت بذلك لأنها تهوي بصاحبها. وقد جاء أن الحجر يرمى به من رأس النار فيهوي إلى قاعها لا يصل إلا بعد سبعين خريفاً. فقعر جهنم اسمه الهاوية، والعياذ بالله.
قال: (فيقال للملائكة: اذهبوا بهذا الرجل إلى الهاوية، فينطلقون به إلى الهاوية، وتمثل له أمانته، كهيئتها يوم دفعت إليه)، أي: يرى الأمانة أمامه في النار. فيقال له: هذه الأمانة التي أخذتها من الناس. فهو قد أخذ من الناس في الدنيا ودائع وعواري، وأخذ منهم أموالاً على هيئة الدين. فتكون أمانة عنده، ثم لم يردها إلى أصحابها، فمن هذه حاله في الدنيا، فإنه يوم القيامة يذهب به إلى النار، ويقال له: هذه أمانتك داخل النار، فادخل واحضر هذه الأمانة. فينزل وراء الأمانة، ويظن أنه سيمسكها، فينزل وراءها حتى يمسكها، ويضعها على كتفيه، ويصعد من أجل أن يخرج من النار. قال: (فينطلق به إلى الهاوية، وتمثل له أمانته كهيئتها يوم دفعت إليه، فيراها فيعرفها، فيهوي في أثرها حتى يدركها، فيحملها على منكبيه، حتى إذا نظر -ظن- أنه خارج)، أي: ظن أنه سيخرج من النار، تفلت الأمانة منه وتسقط في النار ثانية، فينزل وراءها ليحضرها، وهكذا. قال: (حتى إذا نظر -ظن- أنه خارج زلت عن منكبيه فهو يهوي في أثرها أبد الآبدين. ثم قال: الصلاة أمانة).
فالإنسان يسأل يوم القيامة عن الصلاة التي اؤتمن عليها. فإذا قال: كيف أصلي الآن؟ يقولون: اذهب واحضرها من النار، فيذهب إلى النار، ويهوي فيها وراءها أبد الآبدين؛ لأنه ضيع الصلاة وهي أمانة رب العالمين.
قال: (والوضوء أمانة، والوزن أمانة). فالإنسان عندما يزن ويبيع للناس فهذا أمانة. قال: (والكيل أمانة وأشياء عددها. وأشد ذلك الودائع). فعندما يقول لك إنسان: ضع لي هذه الحاجة عندك. فهذه وديعة. وكم من الناس يؤتمن على شيء فيأخذه ويقول: لم أر شيئاً؟ ولم آخذ شيئاً؟ وكم من إنسان يستعير الشيء ويتلف عليه ويقول: لقد ضاع، فماذا أعمل؟ وينتهي الأمر. فهذه أمانات لابد وأن ترد إلى أصحابها، فإن لم يردها صاحبها في الدنيا فهذا حاله يوم القيامة والعياذ بالله.
قال زاذان راوي الحديث عن ابن مسعود : فأتيت البراء بن عازب فقلت: ألا ترى إلى ما قال ابن مسعود ؟ قال: كذا وكذا. قال: صدق، أما سمعت الله تعالى يقول: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا [النساء:58]. فإذا لم يؤد الإنسان أمانته في الدنيا فُعل به ذلك في النار، والعياذ بالله.
وأما من حمل السلاح على المسلمين على وجه التهديد والسطو عليهم ليأخذ أموالهم فيدخل تحت (فليس منا)، أي: ليس على طريقتنا ولا ينسب إلينا، وإن كان الأول أشد شراً من هذا الثاني.
فالأول: فتن المسلم عن دينه. وحمل السلاح ليقاتله لكونه مسلماً. فهذا ليس منا على الحقيقة؛ لأنه لا يوجد مسلم أبداً يقاتل مسلماً لكونه مسلماً. فإذا وجد مثل ذلك فإنه ليس مسلماً. كما قال النبي صلى الله عليه وسلم. ولكن من يحمل السلاح على وجه التعدي والاعتداء، وعلى وجه قطع الطريق، وغير ذلك فهذا ليس من المسلمين، أي: لا ينسب إليهم، يعني: أنه قد أتى بكبيرة من الكبائر. وليس مثل هذا يستحق أن ينسب إلينا. فالفرق بينهما: أن الأول كافر، والثاني مرتكب كبيرة من الكبائر.
فلا تخدع في البيع، ولا تبع للناس شيئاً بعضه فاسد، وتخبئه في النصف، وتضع في الأعلى الشيء الجيد؛ لتخدع الناس. قال صلى الله عليه وسلم: (من غشنا فليس منا).
وفي رواية أخرى: (أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بطعام قد حسنه -يعني: صاحبه- فأدخل يده فيه)، يعني: وضع كوماً من الطعام منظره من الخارج جميل، أي: قد جمله صاحبه. قال: (فأدخل يده فيه فإذا طعام رديء)، أي: وجد شيئاً سيئاً داخل هذا الطعام الذي ظاهره حسن. فقال النبي صلى الله عليه وسلم لصاحب الطعام: (بع هذا على حدة وهذا على حدة. فمن غشنا فليس منا).
فعندما تريد أن تبيع الطعام فلا تخلط بعضه مع البعض الآخر، وإنما بع الرديء وحده وبع الطيب وحده؛ لأن هذا له سعر وهذا له سعر آخر، (فمن غشنا فليس منا).
ووردت أحاديث في أن رجلاً كان يبيع رطباً، وقد جعل الرطب المبلول في الداخل، واليابس في الخارج، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم ذلك.
وفي بعض الأحاديث: (إن النبي صلى الله عليه وسلم سأله: ما حملك على هذا؟)، أي: لماذا خلطت هذه الأشياء مع بعضها؟ (فقال الرجل: إنه أصابته سماء)، يعني: فليس لي ذنب في ذلك. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (أفلا عزلت الرطب على حدة، واليابس على حدة، فيبتاعون ما يعرفون؟)، يعني: حتى يشتري المشتري ما يعرف. ثم قال: (غشنا فليس منا).
(والمكر) كما يفعله بعض الناس ثم يقول: ضحكت عليه، وبعت له السلعة بكذا. فانظر ماذا عملت له، فتعال تعلم مني، وانظر كيف أبيع وكيف أشتري. فهو مخادع ومكار، ومصيره إلى النار. وهذا مصير أهل النار. فأهل المكر والخيانة والخداع، يظنون أنفسهم أذكياء في الدنيا، وأنهم يعرفون التصرف والبيع، فهؤلاء آخرتهم النار، والعياذ بالله. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (والمكر والخداع في النار).
وفي حديث آخر: (المكر والخديعة في النار).
ومهما يصنع الإنسان من مكر وخديعة ليأخذ أموال الناس فلا يظن أبداً أنه سيبارك له في هذا الشيء. وقد ضرب لنا النبي صلى الله عليه وسلم مثلاً من الأقوام الذين من قبلنا، حتى نعرف ما الذي يمكن أن يحدث لهذا المال، فالإنسان المخادع والتاجر الذي يريد أن يبيع الحاجة بأكثر من ثمنها، ويظن أنه سيخدع الناس بهذا الشيء، إنما يضحك على نفسه ويخدعها؛ لأن هذا المال الذي يأخذه محكوم عليه بالهلاك وبالضياع؛ لأنه إنما يبتليه الله سبحانه وتعالى به، فإما أن يضيع منه هذا المال، وإما أن يسلط عليه نفسه وشهوته ويضيعه في الحشيش والمخدرات وغيرها، أو يبتليه بالأمراض التي يظل يصرف هذا المال على علاجها، ولا تذهب هذه الأمراض منه، أو يبتليه بفساد عياله وزوجته، فيسرقون المال من ورائه. فيجد أن هذا المال المأخوذ بالخديعة والمكر محكوم عليه بالتتبير والهلاك.
وقد جاء في الحديث الصحيح الذي رواه أبو هريرة وهو عند الطبراني عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن رجلاً كان يبيع الخمر في سفينة له). وفي رواية: (أن رجلاً ممن كان قبلكم جلب خمراً إلى قرية فشابها بالماء فأضعف أضعافاً). ولعل هذا كان جائزاً في ملتهم، أو أنه حكاية يحكيها النبي صلى الله عليه وسلم، وليس معناه جواز بيع الخمر، ولكن المعنى: أن هذا الإنسان ذهب يبيع الخمر في قرية، فركب سفينة وسافر إلى هذه القرية، فلما نزل في القرية وجد أن الذين يريدون أن يشتروا الخمر كثير، فزادها ماء وضاعفها أضعافاً بالماء، وباعها للناس، وأخذ المال. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن رجلاً كان يبيع الخمر في سفينة له، ومعه قرد في السفينة). فقد جمع الشر كله معه. فقد باع الخمر للناس وغشهم، وأخذ المال. قال: (كان يشوب الخمر بالماء، فأخذ القرد الكيس).
وفي رواية: (فاشترى قرداً فركب البحر)، يعني: اشترى هلاكه معه. قال: (حتى إذا لجّج فيه)، يعني: دخل في نصف البحر، وفي مكان لا يعرف أن ينزل فيه. قال: (فألهم الله القرد صرة الدنانير فأخذها)، فقد جاء وقت الحسرة، وأحسره الله على ما صنع؛ لأنه ضحك على الناس، وأخذ أموالهم. قال صلى الله عليه وسلم: (فصعد الدقل)، يعني: عمود السفينة، وصاحبه لا يستطيع الصعود وراءه. فأخذ كيس الدنانير وصعد فيها. قال: (ففتح الصرة وصاحبها ينظر إليه، فأخذ ديناراً فرماه في البحر، وديناراً في السفينة) يعني: ما غش وخدع الناس فيه رماه له في البحر، وترك له باقي ماله. قال: (حتى قسمها نصفين). فسلط الله عز وجل عليه من ماله. فهو لما خدع الناس، وأخذ أموالهم, سلط الله القرد على إتلاف ماله.
فهذا المثل يذكره النبي صلى الله عليه وسلم عبرة وعظة لكل تاجر؛ حتى لا يغش ولا يخدع. فإذا أخذ المال من الغش فماله محكوم عليه بالخسران وبالهلاك.
وسيرى ذلك في يوم من الأيام. فتجد التاجر من هؤلاء معه النقود الكثيرة جداً وقد سلط الله عليه البلاء كله. وهو يخاف أن يصرف النقود ويقول: إنه يحتاجها في مرض كذا، أو للأولاد، ثم تسرق منه نقوده، ولا يعرف أين ذهبت؟
وعند الحاكم والبيهقي قال أبو سباع : اشتريت ناقة من دار واثلة بن الأسقع رضي الله عنه، -وقد كانت الدار عندهم مثل العمارة عندنا الآن، فيها الشقق، ولكنها أفقية، فتكون البيوت فيها بجانب بعضها بعضهاً، ويجمعها حوش واحد. فـأبو سباع اشترى ناقة من هذه الدار، يعني: من بيت من البيوت. قال: فلما خرجت بها أدركني واثلة وهو يجر إزاره، يعني: لم يتسن له أن يعدل إزاره على نفسه؛ خوفاً أن يذهب قبل أن ينصحه، فقال: يا عبد الله! اشتريت؟ قال: قلت: نعم. قال: بين لك ما فيها؟ يعني جاري الذي باع لك هذه السلعة، هل بين لك العيب الذي فيها؟ قال: فقلت: وما فيها؟ إنها لسمينة ظاهرة الصحة. قال: أردت بها سفراً، أو أردت بها لحماً؟ قال: أردت بها الحج. قال: فإن بخفها نقب، يعني: خفها، وهو قدم الناقة منقوب خفيف، لا يتحمل السفر. هذه هي الأمانة. ولم يكن هو الذي باع، ولا هو المشتري. فقال له البائع: ما أردت أصلحك الله؟ تفسد علي؟ يعني: قال له جاره: أنت تفسد علي البيعة التي بعتها. فطالما أنه قد رضي الرجل فما دخلك أنت؟ فقال واثلة رضي الله عنه: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يحل لأحد بيع أو يبيع شيئاً إلا بين ما فيه، ولا يحل لمن علم ذلك إلا بينه). فلا تدلس على أحد في البيع ولا في الشراء، وكذلك انصح الإنسان الذي يشتري إذا عرفت أن البائع خدعه. فقد قال: النبي صلى الله عليه وسلم: (المكر والخديعة في النار). وقال: (الدين النصيحة). وهذا من النصيحة. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يبايع أصحابه على النصح لكل مسلم.
وفي حديث عقبة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء عند الإمام أحمد وابن ماجه قال: (المسلم أخو المسلم، ولا يحل لمسلم إذا باع من أخيه بيعاً فيه عيب ألا يبينه). فإذا بعت شيئاً فيه عيب فلا تواريه، ولا تكتم ما فيه، وثق بأن الله يبارك لك. فإذا لم يشترها هذا فيشتريها آخر. وإذا لم يشترها أحد بارك الله عز وجل لك في مالك.
ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما). فالكتمان والكذب في البيع يضيع بركة البيع. ولذلك عندما تتعامل فتعامل مع الله سبحانه وليس مع الناس. فإذا كان الإنسان لا يرى هذا العيب فالله يراه ويطلع عليه سبحانه. فاحذر أن تمكر فيمكر الله عز وجل بك.
نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحابته أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر