قال الإمام المنذري رحمه الله: [ الترغيب في الورع وترك الشبهات وما يحوك في الصدر.
روى البخاري ومسلم عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (الحلال بين، والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب).
وروى مسلم عن النواس بن سمعان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس).
وعن وابصة بن معبد رضي الله عنه قال: (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أريد أن لا أدع شيئاً من البر والإثم إلا سألت عنه، فقال
هذه أحاديث عن النبي صلوات الله وسلامه عليه يذكرها الحافظ المنذري رحمه الله في الترغيب في الورع وترك الشبهات، إذ أن الدين يحثنا على الورع، والورع: هو أن يجتنب الإنسان الحرام وأن ويجتنب أن يقع في المكروه، ويتورع عن الشيء الذي يشكل عليه أن يقع فيه خشية أن يكون حراماً، فجاء في الصحيحين عن النعمان بن بشير قال: النبي صلى الله عليه وسلم: (الحلال بين، والحرام بين، وبينهما مشتبهات).
أي: الحلال معروف في كتاب الله سبحانه وفي سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، حيث نص على أن هذا حلال أو هذا حرام، فالحلال بين والحرام بين، وبين الاثنين -أي: بين الحلال والحرام- أشياء تشتبه على الإنسان فلا يعرف هي من الحلال أم من الحرام، فالورع يكون في مثل هذه الحالة أن يجتنبها، وأن يسأل أهل العلم، فإذا بين له أهل العلم أنها حرام اجتنب ذلك، وإذا قالوا له: إنها حلال أتاها، وإذا صار الأمر مشكلاً عليه فلا يعرف هو حلال أو حرام حيث أن فيها شبهة من هذا ومن هذا فليجتنبها وليبتعد عنها حتى لا يقع في الحرام.
وقد ضرب النبي صلى الله عليه وسلم هذا المثل فقال صلى الله عليه وسلم: (كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه).
والحمى: هو حريم يجعله السلطان مكاناً محرماً وممنوعاً على الناس، كأن يقول: هذه الخيل للمسلمين، وهذه الإبل للمسلمين، وهذه للسلطان، فلو أن راعياً معه إبل أو غنم وجاء بالقرب من هذا المكان يرتع فيه، ويقول: المكان هذا مكان خصب، ولن أدخل مكان السلطان، بل أنا من حوله فهو لا يملك أن تدخل واحدة من الأغنام حمى السلطان، فلو أن هذا الراعي بجهله ذهب بغنمه حول مكان السلطان ورأى غنمه تدخل حمى السلطان، فعاقبة السلطان وأخذ منه الغنم، فرجع ولا غنم ولا مال لعاتبه الناس وسخروا من جهله، فكذلك هذا الإنسان الذي يرتع حول الشبهات ويأتي إلى الشيء المشتبه فيأخذ منه شيئاً فشيئاً إلى أن تحدثه نفسه بأكل الحرام فيقع فيه بعد ذلك وهو يعلمه، فلذلك على المؤمن أن يتحرى ويسأل، قال الله سبحانه: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43].
وليحذر الإنسان من أن يحوم حول المعاصي ومقدماتها التي توقعه فيها، فإن من حام حول هذه المقدمات أوشك أن يقع في المعاصي بعد ذلك.
فعلى المؤمن أن يجتنب الحرام وما أشكل عليه، وأن يسأل أهل العلم في ذلك كما قال تعالى: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43]، فإذا سأل فليتجرد في سؤاله، بحيث لا يسأل بطريقة يأخذ بها الجواب الذي يريده، وكم من سائل يفعل مثل ذلك، فتجده يريد جواباً بعينه، فيسأل المسألة معمياً فيها على المفتي حتى يفتيه بالشيء الذي يوافق رغبته.
في حديث وابصة بن معبد أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم يريد أن يسأله عن البر والإثم، فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (أخبرك بما جئت تسأل)، وهذه من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم، فالرجل ما قال شيئاً بل أتى يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء، فقبل أن يسأل قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (أخبرك؟ فقال: نعم. يا رسول الله! فقال: جئت تسألني عن الإثم قال: قلت: نعم. يا رسول الله! فجمع أصابعه الثلاث فجعل ينكت بها -أي: يدق بها على صدر
إذاً من الممكن أن يسأل الإنسان المفتي عن شيء أهو حلال أو حرام؟ وعلى حسب سؤال المستفتي يكون جواب المفتي بأنه حلال أو حرام، فالإنسان يمكن أن يعمي على من يجيب عنه بحيث يأخذ منه ما يريد، وهو في نفسه يعرف أن هذا حرام أو حلال، لكن كثيراً من الناس تجد أحدهم يريد أن يأخذ فتوى تبرر موقفه، ولسان حاله يقول: يتحمل عبء هذه الفتوى العالم وليس أنا، فنقول لمثل هذا: العالم لن يتحمل إلا ما أفتى به وبما استبان له، فهو إن أصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر واحد، لكن أنت الذي عميت عليه، وأنت الذي خدعته في السؤال، فعليك الوزر في كل أحوالك.
فإذا به يخبر أبا بكر بهذا الأمر، فأدخل أبو بكر يده فقاء كل شيء في بطنه؛ لأنه أكل لقمة أخذت من حرام، فهو يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم حرم حلوان الكاهن، وهو ما يأخذه الإنسان على تكهنه، بأن يخبر أحداً بأمر سيحصل للمستمع في المستقبل ويطلب لهذا الأمر مقابلاً يسلم إليه عند حصول هذا الأمر.
فغلام أبي بكر كان قد فعل هذا، وأخذ المقابل واشترى به طعاماً ثم قدمه لسيده، فأكل منه أبو بكر رضي الله عنه لقمة وأراد أن يتقيأها فما استطاع، فظل يضع إصبعه في حلقه حتى كادت نفسه أن تزهق بسبب ذلك، فأشاروا عليه أنه يشرب ماء يسيراً ثم يرجع حتى تخرج، فقال: لو لم تخرج إلا بنفسي لأخرجتها؛ وذلك لأنه سمع من النبي صلى الله عليه وسلم: (ما نبت من حرام فالنار أولى به).
فمن يحب للناس الخير يعطيه الله الخير، ومن في قلبه الضغائن والحسد للناس، فيتمنى زوال النعمة منهم وحصوله عليها، فهذا يشعر في نفسه أنه مظلوم؛ ولذلك قالوا: ما رأينا ظالماً أشبه بمظلوم من الحاسد. فالإنسان الحسود يحس أنه المظلوم الوحيد في هذه الدنيا، وأن كل الناس ظلمة؛ لأن لديهم نعماً من ربهم وليست لديه.
وحقيقة شعوره أنه يشعر بأن الله سبحانه وتعالى هو الذي ظلمه، إذ أعطى الناس وما أعطاه، وأنعم عليهم ولم ينعم عليه، فيحرق قلبه بحسده، فيعاقبه من جنس عمله فيحرقه يوم القيامة بالنار بسبب الحسد.
فعلى الإنسان المؤمن أن يحب الناس، ويحب الخير لهم، ويحب أن ينفعهم. فهذه هي علامة الإنسان المؤمن كما ذكرها النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حديثه.
وكما قلنا: لا يعني هذا الأمر أن يمتنع الشخص من الضحك، ولكن بمقادير وحدود، بحيث لاتكون حياته كلها ضحك وسخرية واستهزاء بالغير، فيضحك الناس حتى يقال عنه أنه صاحب فكاهة، وإلا وقع في غضب الله.
نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر