قال الحافظ المنذري رحمه الله: [الترغيب في طلب الحلال والأكل منه، والترهيب من اكتساب الحرام وأكله ولبسه ونحو ذلك.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ [المؤمنون:51]، وقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ [البقرة:172] ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد إليه إلى السماء: يا رب! يا رب! ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك؟!) رواه مسلم والترمذي .
وروى أحمد والطبراني عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أربع إذا كن فيك فلا عليك ما فاتك من الدنيا: حفظ الأمانة، وصدق حديث، وحسن خليقة، وعفة في طعمة) .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أديت زكاة مالك فقد قضيت ما عليك، ومن جمع مالاً حراماً ثم تصدق به لم يكن له فيه أجر وكان إصره عليه) ].
هذا باب من كتاب الترغيب والترهيب للحافظ المنذري رحمه الله، وفيه الترغيب في طلب الحلال والأكل منه، والترهيب من اكتساب الحرام.
فالمؤمن مأمور بأن يبحث عن رزقه قال تعالى: سِيرُوا فِي الأَرْضِ [النمل:69] وقال تعالى: فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ [الملك:15]، والله عز وجل قد كتب وقسم رزق كل شخص قبل ولادته.
والرزق الحلال موجود، ولكن ابحث واصبر والله عز وجل يعطيك من فضله وكرمه سبحانه. وقد روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً) ، فالله طيب سبحانه وتعالى، ولا يقبل من عبده أن يتصدق إلا بالطيب، ولا ينفق إلا طيباً، ولا يأخذ إلا طيباً، ولا يعطي إلا طيباً، فلا يقبل إلا الطيب سبحانه وتعالى.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين) أي: أمر جميع خلقه المؤمنين والمرسلين، فقال للمرسلين: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ [المؤمنون:51] فأمر رسله عليهم الصلاة والسلام أن يأكلوا الطيبات، وقال: وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ [المؤمنون:51]، والأمر نفسه أمر به المؤمنين، فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [البقرة:172].
قال أبو هريرة : (ثم ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء: يا رب! يا رب!). والمسافر مستجاب الدعوة، فإذا كان مسافراً وأشعث وأغبر فهذا قريب من الله سبحانه وتعالى، فإذا مد يديه إلى الله فهو حيي كريم يستحيي أن يمد العبد إليه يديه ويردهما صفراً، ولكن هذا الإنسان لا يستحق أن يستجيب الله عز وجل له، فهو يمد يديه ويقول: يا رب! يا رب! وربنا لا يعطيه شيئاً. والسبب ما ذكر بعد ذلك، قال: (ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب له) . فإنسان لبسه حرام، وأكله حرام، وشربه حرام، أي: لا يتحرى الحلال، فإن كان في عمله سرق الناس وغشهم، وأكل أموالهم بالباطل، فإذا كان المكسب حراماً، ثم صرف هذا المكسب على طعام وشراب ولبس وسفر ثم يمد يده يقول: يا رب! يا رب! أنى يستجاب له؟! يعني: كيف يستجاب له؟! يعني: هو لا يستحق أن يستجيب الله عز وجل له.
ولذلك فعلى المؤمن أن يطيب مطعمه ومكسبه؛ حتى يستجيب الله دعاءه.
أما الإنسان فقبل هذه الأمانة، وأن يعطيه الله العقل والتكليف ثم تختار لنفسك أي الطريقين: طريق السعادة أو طريق الشقاوة، وبناء على ذلك تحاسب، والله يقدر الأقدار سبحانه وتعالى.
فهذا هو اختيار الإنسان وفي طبيعته الجهل والظلم، كما قال تعالى: إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا [الأحزاب:72].
فالأمانة: هي التكاليف الشرعية، والله أمرك وكلفك بالصلاة، والصيام، والزكاة، والحج، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والطهارة من أجل الصلاة والعبادة، وغير ذلك من أمانات الله عز وجل في خلقه.
ومنها أيضاً: حفظ معاملات الناس كأماناتهم، وودائعهم، وحفظ حق الجوار والضيف، وحفظ الإنسان أهله، وغير ذلك من أمانات الله عز وجل التي أمرنا أن نراعيها.
فإذا كانت هذه الخصلة في نفسك فحافظ على أمانة الله وعلى أمانات الخلق.
الثانية: صدق حديث، والصدق لا يأتي إلا بخير، ومهما يصاب الإنسان بضرر بسبب صدقه إلا أن نهاية الصدق الخير كما ذكرنا في قصة كعب بن مالك رضي الله تعالى عنه.
فإذا كان الإنسان صادقاً أحبه الله عز وجل، ووضع له المحبة في قلوب العباد، وكتب عند الله من الصديقين ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يزال العبد يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً).
الثالثة: حسن الخلق، فإذا كان الإنسان المؤمن حسن الخلق أحبه الخلق، وقدر أن يتعامل معهم، فيأمرهم بالمعروف، وينهاهم عن المنكر فيستجيبون له، ويرتفع العبد أعلى الدرجات يوم القيامة بحسن خلقه، فالإنسان لن يسع الناس بماله مهما أوتي من كنوز، ولكن يسع الناس بحسن الخلق.
الرابعة: وعفة في طعمة، فلا ينظر إلى أرزاق الناس، ولا يكون في قلبه حقد على الناس.
وكذلك مكسبه من حلال، فلا يطعم ولا يتذوق إلا الطعام الطيب. فهذه هي الخصال الأربع، وإذا اجتمعت في أحد فلا عليه ما فاته من الدنيا، ولو فاتته ا لدنيا جميعها، فله عند الله ما هو أعظم بكثير من هذه الدنيا.
ومثله: من أخذ مالاً خبيثاً من خمر أو حشيش ومخدرات وغيرها، فلا يجوز له أن يقول: أبيع الحشيش لأجل أن أتصدق بالمال، بل خير للإنسان أن يظل فقيراً من بيع هذه المحرمات أو شرائها، فلقد قال صلى الله عليه وسلم: (من اكتسب مالاً من مأثم فوصل به رحمه) واكتساب المال من مأثم يكون كأن غش فأخذ زيادة مال، أو خدع الناس ولبس عليهم، أو غبنهم في بيوعهم، أو سرق مالهم، أو اغتصبه، أو أخذ رشوة، أو أكل مالاً من سحت، أو أي نوع من أنواع المظالم والأموال المحرمة التي شاعت بين الناس وصارت كثيرة، وما من إنسان إلا ودخله من هذه الأشياء المحرمة ما دخل، فالذي يكسب هذا المال ثم يقول: أنا أصل به الرحم، فقال صلى الله عليه وسلم هنا: (من اكتسب مالاً من مأثم فوصل به رحمه، أو تصدق به، أو أنفقه في سبيل الله، جمع ذلك كله جميعاً فقذف به في نار جهنم) . يعني: هو بماله الذي كسبه من حرام، ثم تصدق به، أو وصل به رحمه في نار جهنم والعياذ بالله، فإن الله غني عن ذلك المال.
وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (يقول العبد: مالي مالي، وهل لك يا ابن آدم! من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت).
وتفكر يا ابن آدم! لو أن عندك عشرة قصور فلن تعيش إلا في قصر واحد، وعلى سرير واحد.
ولو أن عندك كل طعام الأرض فلن تأكل إلا ما يملأ بطنك، أو عندك كل ثياب الدنيا فلن تلبس إلا قميصاً واحداً.
فإذا تفكر الإنسان في ذلك فلن يطمع في الدنيا، ولن ينظر إلى أخيه بعين الغلة والحسد والحقد، بل سيطمع في الدار الآخرة وفي جنة الرحمن، التي فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
قال: (قلنا: يا نبي الله! إنا لنستحيي والحمد لله، قال: ليس ذلك) أي: ليس الذي أنتم تظنونه، ولكن أكثر من ذلك، (الاستحياء من الله حق الحياء أن تحفظ الرأس وما وعى، وتحفظ البطن وما حوى، وتذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا، فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء) . فالاستحياء من الله حق الحياء: هو أن تحفظ كل بدنك، فتحفظ الرأس وما وعى، أي: ما وعى من أعضاء وحواس في رأسك، أو فم تتكلم به، أو أنف تشم به، أو أذن تسمع بها، أو عين تنظر بها.
وتحفظ بطنك وما نزل فيها من طعام وشراب وما فيها من شهوة، وتتذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا.
فالإنسان إذا حفظ لسانه حتى في طعامه وشرابه، وحفظ سمعه عن المنكرات، وحفظ بصره من النظر إلى المحرمات، وحفظ نفسه من الوقوع في الشبهات والشهوات، فقد استحيا من الله حق الحياء، وهذا هو الذي يعين الإنسان عند الموت، فالموت آتٍ، والأيام تمر سريعاً، سنة إلى سنة، وشهر إلى شهر، ويوم إلى يوم، وهذه الأيام هي عمرك، وعمرك هو أنت، وبعدها قبر، ثم جنة أو نار، فإذا تذكر الإنسان ذلك، وتذكر أن ربنا خلقه ليعبده في الدنيا، وسيرجع إليه بعد ذلك ليجازيه ويحاسبه، كان ذلك أدعى لاستحيائه.
وقوله: (تذكر الموت والبلى) أي: بلاء أعضاء الإنسان، فالإنسان في الدنيا يأكل ويقوى ويكبر، ثم يذهب ذلك كله في البلى والتراب. ويلبس الثياب ليجمل منظره أمام الناس ثم تبلى هذه الثياب وتضيع.
فتذكر الموت، وتذكر البلى، ولا تغتر بهذه الدنيا.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا، فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء) . نسأل الله عز وجل أن يرزقنا الحياء منه حق الحياء.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر