أما بعد:
قال الإمام المنذري رحمه الله تعالى في الترغيب والترهيب:
[ روى الإمام أحمد رحمه الله عن أبي هريرة يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم: (لا ينظر أحدكم إلى من فوقه في الخلق أو المال، ولكن ينظر إلى من هو دونه).
وعن نافع قال: كنت أتجر إلى الشام أو إلى مصر، فتجهزت إلى العراق، فدخلت على عائشة أم المؤمنين فقلت: يا أم المؤمنين! إني قد تجهزت إلى العراق، فقالت: مالك ولمتجرك، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا كان لأحدكم رزق في شيء فلا يدعه حتى يتغير له أو يتنكر له، قال: فأتيت العراق ثم دخلت عليها فقلت: يا أم المؤمنين! والله ما رددت رأس المال، فأعادت عليه الحديث، أو قالت الحديث كما حدثتك).
وعن فضالة بن عبيد أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (طوبى لمن هدي إلى الإسلام وكان عيشه كفافاً وقنع) ].
هذه أحاديث من مسند الإمام أحمد رحمه الله في الترغيب في القناعة والعفة، فالإنسان المؤمن يقنع برزق الله سبحانه وتعالى، فيسعى في طلب الرزق الحلال، وما آتاه الله رضي به وقنع به، فلا يطمع في الدنيا، ولا يترك الأخذ بالأسباب، بل هو يأخذ بأسباب الرزق ويقنع بما آتاه الله سبحانه، ولا يطمع فيما هو في يد غيره مما لم يقسمه له الله سبحانه وتعالى.
إن الإنسان المؤمن قانع متعفف عفيف، حتى وإن كان ذا عيال، وإن كان ذا حاجة، فهو عفيف متعفف، فله أجر عظيم عند الله سبحانه لعفته ولعدم بسط يده إلى أموال الغير.
إن من الأحاديث الدالة على القناعة حديث أبي هريرة رضي الله عنه الذي رواه الإمام أحمد ، ورواه الترمذي أيضاً، وهو حديث صحيح، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا ينظر أحدكم إلى من فوقه في الخلق أو المال)، يعلمنا النبي صلى الله عليه وسلم هنا كيف نقنع، ويعلمنا أن القناعة والعفة تكون بالرضى عن الله سبحانه، وبالرضى عن رزق الله سبحانه، فإن آتاك الله عز وجل شيئاً فاحمده سبحانه، واعتقد أنه نعمة عظيمة من الله أن أعطاك سبحانه وتعالى، لكن لو أن الإنسان أعطاه الله فنظر إلى من هو فوقه، وإلى من هو أحسن منه فلن يقنع أبداً.
لو أنك لو نظرت إلى من هو أقوى منك، وإلى من هو أكثر منك صحة، فستحسد هذا الغير، وتستقل نعمة الله سبحانه وتعالى عليك، لذلك جاء في رواية أخرى لهذا الحديث قال النبي صلى الله عليه وسلم: (انظروا إلى من هو أسفل منكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم؛ فإنه أجدر ألا تزدروا نعمة الله عليكم).
إن ازدراء نعمة الله هو: احتقار نعمة الله سبحانه وتعالى، فلو أنك نظرت إلى من هو فوقك دائماً فإنك تتعب نفسك وقلبك وتقول: إن فلاناً أحسن مني، أو أقوى مني، ومهما نظرت إلى الإنسان القوي ستجد من هو أقوى منه، فإذا كان في الإنسان من هو قوي، ففي الحيوان من هو أقوى منه، وإذا كان في الإنسان من هو جميل، ففي الحيوان والطير من هو أجمل منه، فالله سبحانه وتعالى يقسم بين خلقه كما يشاء سبحانه وتعالى، فلا تنظر إلى من هو فوقك نظرة الحسد ونظرة تمنٍّ لزوال ما عند الناس.
فالممنوع هو النظر إلى من هو فوقك في الخلق، وفي القوة البدنية، وفي المنظر وفي الصحة على وجه الحسد لهذا الإنسان، ولكن لا مانع من أن تنظر إلى من هو أفضل منك في الخلُق، فتقول: يا ليتني أكون مثل هذا الإنسان، فهذا شيء مطلوب شرعاً.
قال في الحديث: (أو المال)، فلو أن إنساناً غنياً عنده ألوف نظر إلى من عنده ملايين فسيحسده، ويقول: لماذا فلان عنده ملايين وأنا لست مثله، والذي عنده ملايين لو نظر إلى الذي عنده مليارات فسيحسده وهكذا، فكل إنسان لو نظر إلى الذي فوقه فسيحسده على ما هو فيه.
يقول سبحانه: وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ [طه:131].
فإذا عرفت أن الله قد يعطي أناساً ليفتنهم في هذه الدنيا فستقول: الحمد لله الذي لم يعطن هذا الشيء؛ حتى لا يفتنّي في هذه الدنيا، ولا تحسد غيرك.
فهنا يأمرك النبي صلى الله عليه وسلم أنك إذا أردت أن تنظر فانظر إلى من هو أسفل منك، فقال في الحديث في الرواية الأخرى: (انظروا إلى من أسفل منكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم)، فعندما تنظر إلى الأقل منك تعلم أنك في صحة وعافية، فانظر إلى المرضى وقل: الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاكم به، وفضلني عليكم وعلى كثير ممن خلق من عباده تفضيلاً، فيكون أجدر أنك تحمد الله سبحانه وتعالى، ولا تحتقر نعمته عليك.
وأيضاً في المال: انظر إلى من هو أفقر منك، فتعلم أن الله أعطاك مالاً، وأعطاك نعماً، وتعلم أنك إن تغديت وتعشيت فغيرك لا يلقى مثل هذا الشيء، فأنت أفطرت وتسحرت وغيرك لو فطر لعله لا يتسحر، فتقول: الحمد لله؛ لقد أعطاني الله سبحانه وفضلني على كثير من خلقه.
وهذه نصيحة لكل إنسان ليس له خبرة في شيء أنه لا يدخل فيه، وخاصة الذي يتاجر في أموال الناس فيفتح الله سبحانه وتعالى له باب رزق في مكان معين فيقوم ويطمع يريد أكثر، فيتوجه إلى مكان آخر وهو لا يعرف عنه شيئاً، فيذهب إليه، فإذا به فجأة يخسر ويضيع منه المال كله.
فبعض الناس يفتح له الله في التجارة فيتاجر، وبعدها يبدأ يأخذ من أموال الناس يتاجر فيها، يقول لهذا: هات مالك أشغله لك، ولهذا: هات أشغل لك مالاً، فأعطاه الله شيئاً وراء شيء، فيطمع أكثر، ويقول: هذه البرصة تأتي بربح كثير جداً، فلو وضعت مالي في البرصة الأخرى سأكسب الضعف، أو ثلاثة أضعاف، أو خمسة أضعاف، فأموال الناس التي كانت معه وضعها في هذه البرصة فخسر، وبعدها هرب وترك البلد؛ لأنه ضيع على الناس أموالهم، فلماذا هذا الطمع؟! فيأخذ المال أضعافاً مضاعفة فيذهب به إلى من لا يؤمن عليه، فتضيع الأموال، وتسمع قصصاً كثيرة جداً من قصص النصب والاحتيال، فالتاجر لطمعه في الربح يدفع المال ببساطة لنصَّاب، فيسلط الله الإنسان المحتال النصاب على الإنسان الطماع، فيأخذ المال ويضيعه، وخاصة إذا كان هذا الطماع يأخذ أموال الناس بدعوى أنه يشغل للناس أموالهم، أو أنه هو تاجر خبير بالتجارة فالطمع يضيع كل ما جمع، فاحذر من الطمع، وانظر إلى من هو دونك، ولا تنظر إلى من هو أعلا منك.
إن الإسلام هو أعظم النعم التي ينعم الله عز وجل بها على عبده، ولذلك فإن أهل الجنة إذا دخلوها قالوا: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ [الأعراف:43]، فطوبى لإنسان أنعم الله عز وجل عليه بهذا الإسلام.
وهذا الحديث رواه مسلم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص وفيه: (قد أفلح)، وهو نفس المعنى، والفلاح العظيم هو دخول الجنة: (قد أفلح من أسلم، ورزق كفافاً، وقنعه الله بما آتاه).
فنعمة الإسلام هي أعظم النعم، فإذا أنعم الله بها عليك فقد رزقك الله سبحانه وتعالى رزقاً عظيماً، كما قال: (ورزق كفافاً) والكفاف هو: القدر الكافي، فلا زيادة فيه ولا نقصان، ومع هذا الرزق إذا أعطاك الله عز وجل أعظم الغنى وهو القناعة (وقنعه الله بما آتاه) فقد أفلحت عند الله سبحانه، ومن كان هذا حاله فهو من المفلحين؛ لأنه راضٍ عن الله سبحانه وتعالى، فرضي بالإسلام ديناً، ورضي برزق الله سبحانه الكفاف، ولا يريد أكثر مما أعطاه الله سبحانه وتعالى، ولا يطمع في أموال الناس.
و(قنع) بمعنى: رضي، و(القانع) هو: الإنسان الراضي بالشيء الذي أعطاه الله.
الراوي هنا هو أبو سعيد قال: (إن رجلاً من الأنصار)، والرجل هو أبو سعيد نفسه، فكأنه عرَّض، والحديث جاء في سنن النسائي : أن هذا الرجل هو أبو سعيد رضي الله عنه، ولفظ النسائي : (قال
وأبو سعيد الأنصاري اسمه: سعد بن مالك بن سنان ، وهو أنصاري رضي الله تبارك وتعالى عنه، قال: (سرحتني أمي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتيته وقعدت، فاستقبلني وقال: من استغنى أغناه الله) يعني: كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب خطبة، ويكلم الناس، وجلس أبو سعيد الخدري مواجهاً للنبي صلى الله عليه وسلم، فذكر الرسول الجواب الذي جاء بـأبي سعيد رضي الله عنه من أجله، فقد جاء ليقول: أعنا وأعطنا معونة يا رسول الله عليه الصلاة والسلام، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من استغنى أغناه الله عز وجل، ومن استعف أعفه الله عز وجل، ومن استكفى كفاه الله عز وجل، ومن سأل وله قيمة أو قية فقد ألحف).
فالنبي صلى الله عليه وسلم ذكر هنا الإنسان الذي يستغني، فيطمئنه أن الله غني وسيعطيه الغنى حتى ولو كان هذا الإنسان ليس عنده شيء، فغناه في قلبه، فمن استغنى بالله أغناه الله سبحانه، ومن استكفى بالله وقال: حسبي الله ونعم الوكيل، كان الله حسبه وكافيه.
ومن استعف عن أموال الناس، فلا يطمع، ولا ينظر إلى الناس، ولا يحدث نفسه أن فلاناً معه كذا سأذهب وآخذ منه قليلاً.
فـأبو سعيد كان ذاهباً إلى النبي صلى الله عليه وسلم يطلب منه، فقال له هذا الكلام، ثم قال صلى الله عليه وسلم: (ومن سأل وله قيمة أوقية) يعني: عنده قيمة أوقية، والأوقية: أربعون درهماً، والدرهم حوالي ثلاثة جرام من الفضة، إذاً: فالأوقية قيمتها: حوالي مائة وعشرين جراماً من الفضة، وجرام الفضة قيمته من سبعين قرشاً إلى جنيه، إذاً فـ(120) جراماً من الفضة تساوي (100) جنيه مثلاً، فالذي معه مثل ذلك ويسأل، فهذا يسأل إلحافاً.
فـأبو سعيد الخدري تفكر في نفسه أن من عنده ناقة فعنده أكثر من أوقية، فقال: (ناقتي خير من أوقية) يعني: لو بعتها فستأتي بكذا ولكن أنا أحتاجها، إذاً سأسأل النبي صلى الله عليه وسلم، فنفعته الموعظة وانصرف ولم يطلب من النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً.
لفظ الحديث عند الإمام أحمد : قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من استعف أعفه الله) أي: من تعفف عن أموال الناس، ولم يمد عينه ولا يده إلى أحد أبداً، فإن الله سبحانه يعفه، ويجعل القناعة في قلبه.
(ومن استغنى) يعني: بالله سبحانه، (أغناه الله)، (ومن لجأ إلينا) أي: جاء يسألنا ويطلب منا، (فوجدنا له أعطيناه) أي: الذي سيسألنا لن نعطيه دائماً، بل بحسب ما عندنا، فإذا كان عندنا أعطيناه، وإذا لم يوجد عندنا لم نعطه شيئاً.
وجاء في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد رضي الله تعالى عنه أيضاً قال: (إن أناساً من الأنصار سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاهم، ثم سألوه فأعطاهم) ومنهم أبو سعيد رضي الله عنه ذهب ليسأل فانتفع بهذه الموعظة، وسمع النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: (ما يكون عندي من خير فلن أدخره عنكم) أي: أن المال الذي في يده سيوزعه على الناس عليه الصلاة والسلام: (ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغنِ يغنه الله، ومن يتصبر يصبره الله)، وهنا زيادة في صحيح البخاري ومسلم وهي: (ومن يتصبر يصبره الله).
أي: أن الإنسان عنده صبر أصلاً، لكن الكلام هنا عن الإنسان الذي يتصبر وليس عنده صبر، لكنه يحاول، فنفسه تريد ولكن هو يضغط على نفسه لتسكت وتصبر، فهذا هو الذي يتصبر، فيصبره الله، أي: يعينه على الصبر.
قال صلى الله عليه وسلم: (وما أعطي أحد عطاءً خيراً وأوسع من الصبر) أي: أن أعظم ما يعطاه الإنسان أن يصبره الله سبحانه.
نسأل الله عز وجل أن يرزقنا من فضله، وأن يصبرنا سبحانه عن هذه الدنيا، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصلى اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ا.هـ
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر