أما بعد:
آداب المساجد آداب عظيمة ينبغي للمسلم أن يحافظ عليها ويعرفها, وأن يتعلمها ويعلمها غيره, فهي من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, وحسن الخلق.
فمن هذه الآداب: أن يمنع أهل المسجد من الخصومة فيه، والخصومة بمعنى: الاختصام، أي: أن يخاصم بعضهم بعضاً, ويشكو بعضهم بعضاً, ويرفعون أصواتهم فإنه ليس المسجد مكاناً لذلك.
وكذلك جاء في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: (إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد فقولوا: لا أربح الله تجارتك, وإذا رأيتم من ينشد ضالة فقولوا: لا رد الله عليك ضالتك) .
فإذاً: لا يجوز البيع في المسجد, ولكن إذا كان الإنسان عليه دين لآخر فلا بأس أن يقول له: خذ دينك فيعطيه؛ لأنه ليس هناك كلام كثير في هذا, وإذا كان هذا سيجلب الكلام الكثير فلا داعي له في المسجد، وكذلك إن كان سيرد لإنسان شيئاً ضاع منه من غير كلام في المسجد جاز, وإلا فليس المسجد محلاً لذلك.
وفي صحيح مسلم من حديث بريدة : (أن رجلاً نشد في المسجد)، ومعنى نشد: أي رفع صوته, (فقال: من دعا إلى الجمل الأحمر؟)، الجمل شيء كبير، ومع ذلك لم يعذره النبي صلى الله عليه وسلم، (فلما قال ذلك, قال: لا وجدت! لا وجدت! إنما بنيت المساجد لما بنيت له). فإذا كان هذا جمل ضاع فكيف الذي تضيع منه حاجة تافهة ويقف في نصف المسجد ينادي: ضاع مني؟! هذا لا ينبغي له أن يقول ذلك.
وهذا عمر بن الخطاب صوته عال وممكن ينادي السائب بن يزيد
: تعال يا سائب , اذهب إلى هذين الاثنين, ولكن عمر أدبه داخل المسجد أنه لا يرفع صوته فيه, فمن أجل أن ينادي السائب الذي بجواره أخذ حصى صغيرة من الأرض فحذفه بها، وعمل هذا عمر من أجل أن لا يرفع صوته في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم, فقال: اذهب فائتني بهما, فذهب السائب فجاء بهما إلى عمر ، فقال: من أنتما؟ أو من أين أنتما؟ قالا: من أهل الطائف, قال: لو كنتما من أهل البلد لأوجعتكما, ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم.فهذا أدب عمر رضي الله عنه، لم يناد ولم يقل: تعال يا سائب , وإنما أخذ حصى من الأرض فحذفه بها من أجل أن ينتبه, فكيف بنا نحن الذين نأتي إلى بيت ربنا فيقف الواحد وينادي على فلان من هنا، وعلى فلان من هنا, وإذا أراد أحد أن يدخل عمل إزعاجاً في المسجد, فهذا لا ينبغي، وقد نجد أحياناً بعض الشباب يجتمعون مع بعضهم جماعات قاعدين، جماعة هنا وجماعة هنا، وأصواتهم مرتفعة, وهذا لا يجوز في بيت الله عز وجل, فبيت الله تمكث فيه الملائكة فلابد من الآداب الشرعية, كذلك النساء عندما يخرجن من المسجد في الدور الثاني يزعجن الناس المصلين بالكلام، وكذا قبل صلاة الجمعة، فهذا لا ينبغي في بيت الله عز وجل, وإنما الذي ينبغي في بيت الله: الهدوء والسكينة والطمأنينة، كما قال تعالى: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28] وإنما بنيت المساجد لما بنيت له, وهو: ذكر الله وما والاه، وعالم أو متعلم.
وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه نهى عن اشتمال الصماء، والاحتباء بثوب واحد، وأن يرفع الرجل إحدى رجليه على الأخرى وهو مستلق على ظهره)، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فعل ذلك، وأنه استلقى على ظهره ووضع إحدى رجليه على الأخرى، ولعله من تعب كان به.
ولذلك يقول الحافظ في الفتح: والظاهر أن فعله صلى الله عليه وسلم كان لبيان الجواز، وكان ذلك في وقت الاستراحة لا عند مجتمع الناس؛ لما عرف من عادته من الجلوس بينهم بالوقار التام صلوات الله وسلامه عليه, فقد كان يجلس جلسة المتخشع المخبت المتواضع ويقول: (إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس العبد) صلوات الله وسلامه عليه.
ففعل الرسول صلى الله عليه وسلم هنا على وجه التمثيل للبيان، أما غير ذلك فقد نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (إذا توضأ أحدكم فأحسن وضوءه ثم خرج عامداً إلى المسجد فلا يشبكن يديه فإنه في صلاة)، فإذاً: نُهينا عن التشبيك بين الأصابع لأننا في صلاة.
وهل يجوز التمطط الجري مزعجاً الناس في الشارع؟ لا، كذلك عندما نأتي الصلاة، فلنكن في وقار, فقد نهينا أن نسرع إلى الصلاة؛ لأننا في صلاة ونحن في الطريق.
وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن تناشد الأشعار في المسجد إذا كان لا علاقة لها بالدين ولا بالعلم؛ لأن المساجد لم تبن لذلك, وإنما هي لذكر الله وما والاه, أو لعالم أو متعلم.
ولا ينبغي للإنسان أن يرمي نوى التمر من طاقة المسجد إلى الشارع ويتعذر أن الناس كلهم يفعلون ذلك, بل لا بد أن يكون هناك فرق بينك وبين الناس, فضع النوى في مكانه المخصص له وأزله من الشارع، فإن في إزالة الأذى من الطريق أجر، وقد أخبر النبي صلوات الله وسلامه عليه في الحديث أن: (الإيمان بضع وسبعون شعبة أو بضع وستون شعبة، أعلاها لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق). فكأن الذي لا يميط الأذى عن الطريق قد فقد شعبة من شعب الإيمان, فهذا الذي يتركها في الطريق، فما بالك بالذي يضعها فيه؟!
جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه دخل المسجد فرأى نخامة في القبلة، فاحمر وجهه صلوات الله وسلامه عليه, وأخذ عوداً فحكها، وجاءت امرأة من الأنصار فمسحتها، وجاءت بطيب وطيبت مكانها، فمدحها النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (ما أحسن هذا!).
فالإنسان الذي يكنس بيت الله سبحانه وتعالى وينظفه له أجر عظيم عند الله، ويكفي في فضيلته أن امرأة كانت تقم المسجد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم, أي: ترفع القمامة أو أي شيء يؤذي المصلين من المسجد, فلما ماتت هذه المرأة كأن الناس احتقروها, فدفنوها من غير أن يؤذنوا بها النبي صلى الله عليه وسلم، فلما افتقدها سأل: أين فلانة؟ قالوا: ماتت ودفناها, فحزن النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أصحابها، وإن الله ينيرها لهم بصلاتي عليهم, دلوني على قبرها, فدلوه على قبرها, فذهب يصلي عليها عند قبرها)، فصلى على هذه المرأة، مع أن هناك كثيراً ماتوا بالليل ودفنوا ولم يسأل عنهم، أو لما أخبروه سكت صلى الله عليه وسلم، لكن هذه المرأة لها فضيلة، فهي كانت تكنس مسجد النبي صلى الله عليه وسلم, وكأن الذي يكنس بيت الله عز وجل له فضيلة يستحق أن يحمد عليها، ويستحق أن يصلى عليه إذا مات ويدعى له, فالذي ينظف بيت الله تبارك وتعالى يعتبر من عمار بيوت الله، قال تعالى: إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ [التوبة:18].
كذلك جاء عن جابر (أن رجلاً مر في المسجد بأسهم قد أبدى نصالها فأمره أن يأخذ بنصالها، لا يخدش المسلمين)، لأنه من الممكن أن يؤذي بها الناس في المسجد أو في الطريق, فأمره أن يمسك بالنصال حتى لا يؤذي أحداً من الناس وهو يسير داخل المسجد.
والراجح: أنه لا دليل ينص على ذلك, والدليل الذي استدل به شيخ الإسلام رحمه الله، هو: أن عمر نذر أن يعتكف ليلة في الجاهلية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أوف بنذرك)، وهذا لا يكفي للتحديد، حتى نقول: إن أقل من ليلة ليس اعتكافاً.
فإذا جئت إلى المسجد فيستحب لك أن تنوي الاعتكاف؛ لتحصل على أجر الاعتكاف وأجر انتظار الصلاة.
ولا بأس بإغلاق المسجد في غير وقت الصلاة لصيانته, وهذا الذي يتعين الآن في زماننا حتى لا تمتهن، وتجد بعض المساجد اليوم إذا فتحت يدخل فيها الكثير من الناس ينامون ويستريحون فيها، فإذا أذن المؤذن للصلاة يذهب ولا يصلي، فلا يفتح المسجد لمثل هؤلاء، فتارك الصلاة لا يدخل المسجد يمتهن بيت الله، وبعضهم يدخن السيجارة في دورة المياه ينتهك حرمة بيت الله ويؤذي الملائكة، وإذا نصحته قال: هذا بيت الله أيش دخلك؟ فمثل هذا يمنع من دخول المسجد، ولا بأس بإغلاق المساجد من هؤلاء في غير أوقات الصلاة.
ولكن الراجح: أن هذا الحديث ليس وحده، وإنما جاء معه ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة المعراج: أن الله عز وجل قال في الخمس الصلوات المفروضات: (هن خمس في العمل وخمسون في الأجر -إلى أن قال:- أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي). فعلى ذلك لا يزاد على هذه الفريضة.
فالراجح: أن هذه الصلاة سنة، وليست فرضاً. كذلك لما أرسل صلى الله عليه وسلم معاذاً في آخر حياته إلى اليمن -وتوفي النبي صلى الله عليه وسلم ورجع معاذ بعد وفاته- أرسله بخمس صلوات في اليوم والليلة, وأنه لا أكثر من ذلك، فقال صلى الله عليه وسلم: (فأخبرهم أن الله قد افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة).
يتضح من ذلك: أنه إذا جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث تفيد لزوم صلاتي الوتر وتحية المسجد فإنها تحمل على الندب أو على شدة الاستحباب, وليس على الوجوب.
كذلك كما ذكرنا قبل ذلك أنه ينبغي للقاضي أن لا يتخذ المسجد مجلساً للقضاء, فلا يُتحاكم فيه، ولا تقام فيه الحدود؛ حتى لا ترتفع الأصوات والله أعلم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر