فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (فأوف بنذرك) يعني: اذهب واعتكف في المسجد الحرام، وهذا دليل على أن الاعتكاف لا يلزم معه الصوم، ولو كان الاعتكاف لا يصح إلا بصوم لقال له: اعتكف يوماً وليلة، وليس ليلة فقط، فلابد من يوم مع هذه الليلة حتى تصوم هذا اليوم.
فلما لم يقل له ذلك دل على أنه يجوز أن يعتكف في الليل، وهذا الحديث أخذ منه بعض أهل العلم: أنه لا يجوز الاعتكاف أقل من ليلة، قالوا: لأن هذا أقل شيء فعل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وعمر قال ذلك، لكن لم يأت عن غير عمر أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أقل من ذلك حتى نقول أن رسو الله صلى الله عليه وسلم رفض ذلاك أو وافقه، فالأصل في الاعتكاف أنه المكث في المسجد بنية اللبث فيه، وبنية العبادة، فطالما أن هذا مجرد فعل فالفعل لا يفيد للتخصيص.
إذاً: يجوز أنه يعتكف في المسجد ولو ساعة؛ لعموم قوله تعالى: وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ [البقرة:187].
ولو عينوا مسجداً من المساجد غير هذه المساجد الثلاثة لم يتعين، يعني: لو قال: لله علي نذر أن أعتكف في مسجد نور الإسلام، فيجوز أن يفي بنذره ويجوز أنه يعتكف في مسجد آخر، لأن المساجد كلها تستوي فضيلتها، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد)، وقدمنا أن معنى هذا الحديث: أنه لا يسافر الإنسان مرتحلاً إلى مسجد من المساجد زاعماً فضيلة لهذا المسجد، وإلا فالسفر جائز لطلب العلم، فيسافر من بلد لبلد، والمسجد الفلاني فيه درس علم، فلم يمنع ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، إنما المنع أن يعتقد الإنسان أن لمسجد من المساجد فضيلة، مثلما يزعم بعض الناس أنه إذا سافر للسيد البدوي فإن هذا له فضل، فهذا كذب، فالمساجد كلها تستوي إلا الثلاثة المساجد التي ذكرها النبي صلوات الله وسلامه عليه.
إذاً: يجوز الاعتكاف في كل المساجد، والأفضل أن يعتكف صائماً، حتى يخرج من خلاف أهل العلم الذين قالوا: إنه لابد من أن يكون صائماً.
وقلنا: إن الراجح أنه يجوز أن يعتكف بغير صوم، وهذا مذهب الشافعية ومذهب إسحاق بن راهويه وهذا المشهور في مذهب الإمام أحمد .
وبقية العلماء قالوا: إنه لابد من صوم، فيراعى ذلك، فمن أراد أن يعتكف فليصم مراعاة للخلاف بين أهل العلم، لكن الراجح: أنه لا يلزم الصوم.
وإذا نذر أن يعتكف صائماً فلابد أن يفي بنذره، فإذا نذر أن يعتكف يومين ويصوم في اليومين، فعليه أن يصوم اليومين ويعتكف في هذين اليومين.
ولو نذر أن يعتكف مصلياً لزمه الاعتكاف ولزمه الصلاة التي نذرها، فإذا أطلقها صلى ركعتين طالما أنه أطلقها طالما ولم ينو الاستيعاب، فإذا قال الإنسان: لله علي نذر أن أعتكف الليلة الفلانية وأقوم من أول الليل حتى الفجر، فإنه يلزمه الوفاء بنذره، لكن إذا نذر مطلقاً: أن أعتكف ليلة مصلياً، فإنه يجزيه لو صلى ركعتين؛ لأنه لم يرد ولم يحدد بنذره استيعاب الليل كله.
ولو نذر أن يعتكف شهر رمضان ففاته فعليه أن يعتكف شهراً آخر، فيقضي كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقضي العشر الأواخر من رمضان في شوال، وهي نافلة، والنذر يقاس على ذلك، فمن نذر أن يعتكف في رمضان لا نقول له: انتظر رمضان السنة القادمة؛ فلعله لا يعيش إليها، فيوف بنذره، فعلى ذلك غيره يغني، ولا يلزمه حين يقضي الاعتكاف الصوم وعلى الراجح والراجح: أنه لا تعلق للصوم بالاعتكاف.
ولو نذر اعتكافاً مطلقاً وقال: لله علي أن أعتكف في المسجد، فهو راجع لنية هذا الإنسان، ما هو الاعتكاف الذي يتخيله، فيلزمه ما تخيله، فإن كان مذهبه أن أقل اعتكاف يوم أو ليلة فيلزمه ذلك بنذره، فالنية والعلم الذي يعلمه يلزمه أن يعمل بهذا الشيء، وإذا كان يرى أنه يجوز ولو ساعة فليعتكف الساعة التي نواها بنذره.
ولو نذر اعتكاف العشر الأخر من رمضان فإنه سيدخل في يوم عشرين المغرب حتى يستوعب الأيام العشرة الأخيرة من الشهر، سواء كان الشهر تاماً ثلاثين أو تسعة وعشرين؛ لأن هذه هي التي تطلق عليها العشر الأواخر من الشهر.
وفرق بين أن يقول: سأعتكف العشر الأخر من الشهر، وبين أن يقول: لله علي نذر أن أعتكف عشرة أيام من رمضان، فإذا جاءت الأيام الأخيرة فكانت تسعة أيام بقي عليه يوم؛ لأنه قصد عشرة أيام.
وإذا عزم عند خروجه أن يقضي حاجته ثم يعود كانت هذه العزيمة تقوم مقام النية، كإنسان في المسجد وأراد قضاء الحاجة، وهو متعود على أن يقضي حاجته في بيته، حيث إن دورات الماء التي في المسجد لا توافقه، فيذهب إلى بيته ليقضي حاجته، وبهذا لا ينقطع الاعتكاف؛ لأن خروجه لقضاء الحاجة مع عزمه على العود دليل على نيته أنه ما زال معتكفاً.
وإذا شرط في اعتكافه خروجه لعمل أو وظيفة فخرج لذلك ثم عاد لم يجب عليه تجديد النية، وهذه مسألة الاشتراط في الاعتكاف، وستأتي بعد قليل.
ولا يجوز للمعتكف أن يخرج من المسجد لغير عذر، فطالما أنك جئت للمسجد تريد الاعتكاف فليس لك أن تخرج من المسجد إلا لعذر من الأعذار، وإذا نويت أو اشترطت أنه إذا جاءت جنازة تتبعها فلك ذلك، أو إذا مرض مريض ستخرج تعوده فلك ذلك، وإذا نويت فيها أنك تخرج لدروة الماء في بيتك أو تغتسل في بيتك فيجوز أيضاً ذلك، أو تنوي أنك تخرج من الاعتكاف من أجل أن تشتري طعامك أو شرابك فيجوز لك ذلك، وإذا كنت لا تقدر أن تأخذ إجازة من العمل فنويت أنك تخرج من الصبح حتى الظهر للعمل، وتعتكف الباقي أيضاً فيجوز ذلك.
لكن نقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمكث العشر الأواخر كلها، فمن استطاع ذلك فهذا الأفضل، ومن لم يستطع ذلك، فبحسب ما يتيسر له، والاعتكاف كله سنة وليس فريضة.
لكن إذا تعارضت نافلة مع فريضة، فهنا الفريضة أولى، ولو أن الوالدين قالا للابن: لا تصل في جماعة، فلا طاعة لمخلوق في ذلك؛ لأن صلاة الجماعة فريضة، فلابد من صلاة الجماعة.
فإن قال أبواك: لا تعتكف، فعليك أن تطيع في ذلك، فلا تعتكف طاعة للوالدين في ذلك.
والمسلمون المعتكفون إذا أرادوا قضاء الحاجة خرجوا إلى بيوتهم فقضوا حاجتهم ثم رجعوا إلى المسجد، تقول عائشة : (وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة) يعني: يأكل أو يشرب أو يقضي حاجته صلى الله عليه وسلم، فالحاجة هي التي يريدها إذا كان معتكفاً صلوات الله وسلامه عليه.
وإن خرج من غير عذر بطل اعتكافه، والاعتكاف سنة وليس فرضاً، وإذا قلنا: بطل هذا الاعتكاف ليس معناه يأثم، فلا نقول: يأثم إلا إذا فرط في الواجب كالنذر، والغالب أن كل المعتكفين تقريباً لا أحد ينذر منهم، فلو أنه اعتكف ثم خرج من المعتكف لغير عذر، فهنا بطل اعتكافه لكن لا نقول له: أنت أثمت بذلك، ليس هناك ذنب في ذلك ولا إثم؛ لأن هذا تطوع، فإن شاء أكمل وإن شاء خرج.
ويجوز أن يخرج رأسه أو رجله ولا يبطل اعتكافه، يعني: لو أنه أخرج رأسه من المسجد ليلكم شخصاً، فلا شيء عليه طالما أن رجليه داخل المسجد.
وله الخروج لقضاء الحاجة: لبول أو لغائط، ولا يبطل اعتكافه بذلك، وكذلك يخرج ليغتسل في بيته، سواء كان يغتسل غسل جمعة أو يغتسل من الجنابة، فإذا وجد في المسجد مكان لذلك وهو لا يتحرج من ذلك، فيفعل ذلك في المسجد.
وإذا كانت المرأة معتكفة في المسجد وجاء الحيض خرجت إلى بيتها، فإذا انتهت الدورة وكانت تعتكف اعتكافاً مسنوناً رجعت بعد ذلك إلى المسجد لتكمل اعتكافها، فإذا كان اعتكافاً منذوراً، فإنه بعد انتهاء وقت دورتها ترجع مرة ثانية لتكمل، ولا ينقطع الاعتكاف المتتابع بالخروج بسبب الحيض.
وكل ما لابد له منه ولا يمكن فعله في المسجد فله الخروج إليه، كأن تشتري بضاعة من السوق، أو تشتري أشياء للمعتكفين في المسجد جاز لك.
كذلك له الخروج لإنقاذ غريق، أو إطفاء حريق، فالاعتكاف سنة، فلو فرضنا أن المعتكفين في المسجد سمعوا حادثة خارج المسجد والناس يحتاجون إليهم، فعلى المعتكف أن يخرج ليفعل هذا الشيء وله أجر عظيم عند الله سبحانه وتعالى، ويتعين عليه الخروج لإطفاء حريق، ولإنقاذ مصاب، والذهاب به إلى المستشفى، وله أجر عظيم على ذلك.
فكل الأشياء التي يحتاج إليها المسلم جاز الله أن يخرج من أجلها، ولا ينقطع اعتكافه بذلك، كذلك إن حدث شيء والناس يحتاجون إليه فخرج لإنقاذ من يمكن إنقاذه فلن ينقطع اعتكافه بذلك، وكذلك إذا تعينت عليه الشهادة في قضية حق لفلان وهو الشاهد في هذه القضية، ولم لم يذهب فإنه سيحكم على المظلوم، فعلى ذلك يجب عليه أن يخرج لأداء الشهادة، ولا ينقطع اعتكافه بذلك، وبعد أن يشهد يرجع إلى المسجد.
وكذلك لو أن المسجد فيه دورة مياه والإنسان يتحرج منها أو أنها لا تناسبه، وهو متعود على قاعدة معينة في بيته، كأن يكون عنده مرض أو مصاب بقولون عصبي محتد، فيذهب إلى الخلاء في بيته، ويستحيي من وجوده في المسجد، فيجوز له أيضاً، حتى ولو كان هناك دورة مياه في المسجد طالما أنها لا توافقه.
وإذا خرج المعتكف لقضاء حاجة لا يلزمه أن يجري، بل يمشي على عادته، ويرجع على عادته، لكن إذا خرج لشيء ما فليس له أن يتحول عن حاجته إلى فعل آخر، فإذا خرج من المسجد لقضاء حاجته في بيته ليس له أن يذهب ليسلم على الجيران، ويدخل بيوتهم ويقعد، أو يذهب إلى السوق، لا ليس له ذلك، ولكن على قدر حاجته ثم يرجع إلى بيت الله سبحانه وتعالى.
والاعتكاف سيكون في المسجد كله طالما أن المسجد كله لله سبحانه وتعالى، فيكون في الطابق الأول، أو في الطابق الثاني، أو فوق سطح المسجد، طالما أن ذلك جزء من المسجد، فلو كان هناك حوش للمسجد تابع له والناس يصلون فيه، وهو من ملك المسجد، جاز الاعتكاف فيه، وأما إذا كان من الشارع ولا يصلى فيه فلا يصح الاعتكاف فيه.
إذاً: إذا خرج من الاعتكاف لغير حاجة إلا ما لابد منه بطل اعتكافه.
ويبطل الاعتكاف بالجماع وبالإنزال، وليس معناه أن الإنسان يجامع في المسجد، لكن المقصود: لو فرضنا أنه في ليلة من ليالي رمضان خرج هذا في الليل إلى بيته ليقضي حاجته في هذا الوقت، فحكمه أنه معتكف، وما زال حكم الاعتكاف جارياً عليه، فوجد امرأته فجامعها في هذا الوقت؛ فهذا هو المقصد من قوله تعالى: َلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ [البقرة:187]، فإن فعل ذلك بطل اعتكافه بذلك، إذاً: ويبطل الاعتكاف بالوطء، أي وطء كان.
وكذلك بالسُّكْر إذا سكر المعتكف، وإذا ارتد والعياذ بالله، وهذا أفحش من الخروج، فالذي يخرج من المسجد لجنازة هذه طاعة، ولكنه بطل اعتكافه، فهل يعقل أن إنساناً يرتد ويكفر ثم نقول: اعتكافه صحيح؟! بل يبطل اعتكافه بذلك.
ويبطل الاعتكاف بخروج المعتكف لعيادة المريض وشهود الجنازة إذا لم يشترط، فمن الممكن أن الذي يمرض يكون عزيزاً عليه، فإن المعتكف إذا خرج لزيارة المريض وهو لم يشترط ذلك يبطل اعتكافه، وإذا خرجت لزيارة فلان، أو لعيادة إنسان، فإذا كان هذا الاعتكاف اعتكافاً مستحباً فعلت ذلك، وإذا كان واجباً وقصدت ذلك في حال النذر قلت: لله علي نذر أن أعتكف عشرة أيام في المسجد ولا أخرج إلا لما لابد لي منه، جاز لك ذلك حتى ولو كان الاعتكاف في النذر.
لكن أحياناً لا ينوي المعتكف ذلك في الاعتكاف المنذور، ويتعين عليه أن يخرج، كأن يقول: لله علي نذر أن أعتكف العشر الأواخر من رمضان، واعتكف ثم مات أبوه أو ماتت أمه، فعلى ذلك تعين عليه أن يخرج إلى جنازة أبيه أو أمه، حتى وإن الاعتكاف نذراً، فعليه أن يخرج ثم يكمل اعتكافه؛ لأن خروجه متعين عليه الآن.
وإذا تعين عليه الخروج لذلك وجب عليه الخروج ثم يرجع للاعتكاف، فإذا رجع للاعتكاف قضى ما فاته من أيام الاعتكاف، فلو فرضنا أنها عشرة أيام، وحصل فيها وفاة لفلان أو أنه احتاج إلى الذهاب إلى المستشفى، وليس هناك أحد يذهب معه إلى المستشفى إلا هو، فخرج معه لأنه تعين عليه ذلك، فقعد معه في المستشفى يومين، وهو قد نذر أن يعتكف عشرة أيام متتابعة، فنقول له: اقض اليومين فقط، أي: أكمل اعتكافك وعوض يومين بعد ذلك مكان هذين اليومين.
وإذا خرج لقضاء الحاجة فصلى في طريقه على جنازة، فإن وقف ينتظرها أو عدل عن طريقه إليها بطل اعتكافه. فلو أن مسلماً معتكفاً خرج إلى بيته لقضاء حاجته، فعرف أن فلاناً قد مات وهو لم يشترط أن يحضر جنازة أو غير ذلك، فقالوا: الجنازة ستأتي الآن، فإن وقف فصلى عليها في الطريق، فلا شيء عليه، فإن قال: سأذهب إلى بيت الجنازة، وأخرج معهم إلى القبر، ثم أرجع للاعتكاف يبطل اعتكافه بذلك، فإن بطل اعتكافه فليرجع ولينو أن يدخل في الاعتكاف من جديد؛ لأن الاعتكاف نافلة كما ذكرنا.
إذا مرض الإنسان المعتكف: فإما أن يكون المرض يسيراً لا يشق عليه الإقامة في المسجد، فليكن في المسجد ولا يخرج، فإن خرج من المعتكف بطل اعتكافه، وهو أيضاً أمير نفسه، والاعتكاف تطوع، وإذا وجد أنه لا يستطيع أن يكمل وأنه سيتعِب من حوله فليخرج إلى بيته.
وإذا كان المرض يشق معه الإقامة في المسجد فيباح له الخروج، فإذا خرج فلا ينقطع تتابعه، هذا إذا كان الاعتكاف منذوراً، وكان المرض مرضاً شديداً وهو معتكف، فيلزمه أن يخرج للعلاج، أو يذهب إلى بيته ليمرَّض هنالك، فليخرج وبعد الشفاء يرجع ويكمل الاعتكاف.
ولو كان الإنسان يعتكف في المسجد وهو مريض مرضاً يخاف مع هذا المرض من تلويث المسجد، كأن ينذر أن يعتكف في المسجد، فجاءه إسهال شديد جداً لا يستطيع بسببه أن يمكث في مكانه؛ لأنه سيؤذي المصلين، وسيلوث المسجد، أو في كل لحظة يتقيأ، فهذا لا يجوز له أن يبقى في المسجد؛ لأنه يؤذي بيت الله سبحانه، ويؤذي المصلين بذلك، بل يلزمه أن يخرج إلى بيته، حتى وإن كان الاعتكاف نذراً؛ لأن اعتكافه ينافي مصلحة المسجد.
إذاً: إذا كان الإنسان مريضاً فمرضه على نفسه ولا يتعدى إلى غيره، فليس هناك مانع من مجيئه إلى المسجد، وإذا كان مرضه سيتعدى ويؤذي غيره فلا يجوز له ذلك، بل يمكث في بيته أو في المستشفى حتى يصح، ثم يعتكف إذا أحب ذلك.
وإذا أغمي على المعتكف في الاعتكاف، فإن لم يخرج من المسجد فيبقى اعتكافه باقياً على ما هو، وزمان الاعتكاف محسوب من الاعتكاف.
وإذا أخرجه أهل المسجد حين أغمي عليه، وساروا به إلى المستشفى، فأخذ دواءً، ثم رجع ثانية إلى المعتكف، فأيضاً اعتكافه صحيح ولا شيء عليه؛ لأنه معذور في ذلك.
وكذا لو أن إنساناً تأتيه حالات صرع وهو معتكف في المسجد، فالأفضل ألا يعتكف؛ لأنه سيزعج من حوله، وسيشغل الناس عن عبادتهم به.
إذاً: فأصحاب الأعذار لا يجب عليهم أن يكونوا موجودين في المعتكف في المسجد، فإذا كان صاحب عذر من ذلك، فليصل ولينصرف حتى لا يزعج الناس به.
وهنا نتذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم لما كان في سفر ومعه مجموعة من أصحابه، ثم وجد إنساناً قد ظلل عليه، فكانوا منشغلين به، قال: (من هذا؟ قالوا: صائم، قال: ليس من البر الصوم في السفر).
ومرة أخرى كان معه مجموعة صائمون، ومعه مجموعة مفطرون، فقام المفطرون وحضروا الطعام وحضروا والشراب، وقاموا بالعمل، والصائمون قاعدون متعبون في السفر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ذهب المفطرون اليوم بالأجر)، فانظروا إلى جمال الشريعة، فالنفع المتعدي أجمل، وصومك النافلة لنفسك، لكن ستتعب من حولك في أثناء الصيام، فإذا كنت مفطراً أعنت نفسك ولم تشغل غيرك، وكذلك الإنسان الذي يحب أن يحضر لصلاة الجماعة ولكن يعلم من عادته أنه في كل وقت تأتيه نوبة صرع، فإنه سيؤذي المصلين، أو قد يكون الإنسان مريضاً مرضاً شديداً يزعج الناس ويؤذيهم، كترجيع أو إسهال أو خروج دم من أنفه ورعاف وأذى للمسجد، فهنا لا داعي لحضوره، بل له عذر ألا يعتكف، وأنه يمكث في بيته حتى يشفيه الله سبحانه، أو يأخذ بالاحتياط، ولو فرضنا أنه سيخرج لصلاة الجماعة، ويأتيه رعاف بحيث يلوث المسجد بالدماء، فلابد أن يأخذا الدواء قبل وقت الصلاة؛ بحيث يمنع الرعاف في المسجد.
وأحياناً بعض الناس يستهين بمثل ذلك، فيؤذي ويؤذي أذىً شديداً جداً، فتجده في المسجد الحرام وهو يطوف فيتبرز ابنه ويدوسه الطائفون، فيؤذيهم ويؤذي الملائكة، فلماذا لا يحتاط لابنه ويجعل ما يحفظه ويمنع خروج البراز؟! فلا تؤدِ الملائكة، ولا تلوث بيت الله سبحانه وتعالى، وخذ بالأسباب في ذلك حتى لا تطلب أجراً فيكون عليك إثماً بهذا الذي تصنعه، والله أعلم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل الله اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر