روى الإمام أحمد عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أنزلت صحف إبراهيم عليه السلام في أول ليلة من رمضان، وأنزلت التوراة لست مضين من رمضان، والإنجيل لثلاث عشرة خلت من رمضان، وأنزل الفرقان لأربع وعشرين خلت من رمضان)، هذا القرآن العظيم كما نزلت الكتب من قبله كصحف إبراهيم الذي نزلت صحفه في رمضان، ونزلت كلها مرة واحدة عليه، وكذلك موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام الذي أمر نبينا صلوات الله وسلامه عليه أن يقتدي بمن قبله من الأنبياء، وهؤلاء من أولي العزم من الرسل عليهم الصلاة والسلام، نزلت عليه التوراة لست مضين من رمضان.
والإنجيل نزل على عيسى عليه الصلاة والسلام لثلاث عشرة خلت من رمضان، والقرآن نزل لأربع وعشرين، وهذه الكتب السابقة كلها نزلت مرة واحدة من السماء على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، لكن القرآن نزل إلى السماء الدنيا ثم نزل على النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك منجماً.
جاء عنه صلى الله عليه وسلم أحاديث يحث فيها على تلاوة القرآن، ففي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن) أي: يعرض جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم ويعرض النبي صلى الله عليه وسلم على جبريل هذا القرآن العظيم، قال (فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة) فهذه فضيلة عظيمة أن ينزل جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان يراجع معه ما حفظ من هذا الكتاب العظيم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يشتاق لذلك، وكان يفرح لذلك جداً، فيتصدق بكل ما عنده صلوات الله وسلامه عليه، فهو أجود من الريح المرسلة صلوات الله وسلامه عليه.
وعندما نقرأ ونسمع أنه استحر القتل بالقراء يوم اليمامة، فالمقصود بقراء القرآن: حفاظه الذين حفظوه من عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وكانوا من أشجع الناس، فكانوا يقاتلون مسيلمة الكذاب لعنة الله عليه وعلى أمثاله، فاستحر القتل بهم رضوان الله تبارك وتعالى عليهم.
فكلمة (اقرأ القرآن) معناها: احفظ القرآن، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه)، وقال: (اقرءوا الزهراوين البقرة وسورة آل عمران)، الزهراء أي: المنيرة المضيئة، فقوله: (اقرءوا الزهراوين) يشعر بفضيلة قراءة وحفظ سورة البقرة وآل عمران، وإذا قلنا: الفضيلة في الحفظ فالذي يقرأ من غير حفظ له فضيلة أيضاً، ولا يعدم الإنسان خيراً من مجالسة القرآن، ولكن كلما كان الإنسان يتقرب إلى الله أكثر كلما حفظ من كتاب الله ما استطاع؛ لأنها مراتب يوم القيامة، فعلى حسب ما تحفظ من الآيات على قدر ما يرفعك الله عز وجل في الدرجات.
وهاتان السورتان تشفعان لأصحابهما يوم القيامة، ويجعل الله للعبد ما كان يقرؤه من هاتين السورتين على رأسه كغمامتين، فالبقرة وآل عمران تكونان غمامتان وسحابتان تظلان صاحبهما.
وقد كان من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم في حياته التي يراها الناس أنه كان يمشي في الشمس المحرقة وإذا بالله يرسل فوقه سحابة تظله، فكان الرهبان ينظرون ويقولون: هذا نبي، وعرفوا النبي صلى الله عليه وسلم أنه نبي حين رأوا سحابة تظله وهو يسير صلوات الله وسلامه عليه.
والإنسان في الدنيا يمكن أن يجد شيئاً يظله كجدار مثلاً، أما يوم القيامة فأين يذهب من الشمس؟ وقد دنت الشمس من الرءوس فلا يقدر على الهرب منها، وقد حشر الناس في مكان لا يقدرون على الفكاك، ولا على الهرب من هذا المكان، فتأتي سورة البقرة وسورة آل عمران على هذه الهيئة كأنهما سحابتان أو غيايتان أو غمامتان في السماء، أو فرقان: أي مجموعتان عظيمتان من طير صواف.
نقرأ في التاريخ أن سيدنا سليمان عليه الصلاة والسلام كانت الطيور تقف فوق رأسه تظله بأجنحتها، وهذا في الدنيا، لكن يوم القيامة سورة البقرة وسورة آل عمران تكون على هذه الهيئة فوق رأس صاحبها يوم القيامة تظله، بل تمشي معه إلى ربها سبحانه تبارك وتعالى وتدافع وتحامي عنه، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (تحاجان عن صاحبهما)، وكل من يحفظ البقرة وآل عمران له هذه الفضيلة.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اقرءوا) يحث على قراءة سورة البقرة، وهي مليئة بالأحكام، والمواعظ، وقصص السابقين، والإخبار عما يكون في يوم القيامة، وفيها كثير من مسائل العقيدة، والفقه، وغير ذلك، فهي سورة عظيمة فيها أعظم آية في كتاب الله عز وجل وهي آية الكرسي.
فالمؤمن حين يعلم ذلك يحرص على أن يحفظ هذه السورة لتشفع له يوم القيامة عند الله سبحانه تبارك وتعالى.
يقول صلى الله عليه وسلم: (اقرءوا سورة البقرة فإن أخذها بركة) فإذا حفظت هذه السورة صارت بركة بداخلك، وبركة في قلبك، وبركة في بيتك، وبركة في رزقك، وبركة في معاملاتك، وبركة في كل شيء، فهي كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فإن أخذها بركة وتركها حسرة).
والإنسان يتحسر يوم القيامة حين يرى أصحاب سورة البقرة وآل عمران تظلانهم، وهو ليس عنده ظل، وكان بإمكانه أن يحفظ فلم يفعل ذلك، وكان عنده وقت فضيع الوقت في اللعب واللهو، في التسالي، والسير في الطرقات.. ونحو ذلك وتناسى أن يحفظ كتاب الله عز وجل، أو شيئاً من كتاب الله ينتفع به يوم القيامة.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ولا تستطيعها البطلة)، أي: أن السحرة لا تستطيع أن تفعل شيئاً بصاحب سورة البقرة الذي يقرؤها ويحفظها، ويوقن بها، والذي يؤمن بربه سبحانه وتعالى، فما يقدرون على شيء من صاحب سورة البقرة، فاحفظ سورة البقرة تنجيك في الدنيا، وتنجيك في الآخرة، وعليك أن تحفظ هذه السورة مؤمناً بالله سبحانه وتعالى مصدقاً بالثواب العظيم المترتب على ذلك.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (قبل أن يتعلمه قوم يسألون به الدنيا)، أي: أن القرآن غنى لصاحبه، يغني قلب الإنسان المؤمن، وأنه قد يطلب به الدنيا، فيقول لنا: لا تكونوا طالبين للدنيا بالقرآن، إنما اطلبوا الآخرة بالقرآن قبل أن يتعلمه قوم يسألون به الدنيا، قال صلى الله عليه وسلم: (فإن القرآن يتعلمه ثلاثة: رجل يباهي به)، فالأول: يباهي به، أي: يحفظ القرآن ليرى أنه حافظ له وغيره لا يحفظ، وليرى أنه المتفرد وحده ولا أحد مثله، فهذا حفظ ليباهي به الناس، ولم يأخذ من حفظه القرآن إلا المباهاة، ولن ينتفع بذلك يوم القيامة، فاحذر أن تكون من هؤلاء، واحذر أن تتعلم القرآن لتكون نقاداً للآخرين، وتقول لغيرك: أنت لا تعرف تقرأ، وأنت قرأت كذا، والشيخ الفلاني يخطئ في كذا، وعنده: أن كل الناس يخطئ، ولا يسلم إلا هو المتفاخر المباهي، الذي ستكون مصيبته مصيبة يوم القيامة.
والثاني: الذي يحفظ القرآن ليستأكل به، رضي من حفظه للقرآن أن يذهب يقرأ للناس ويأخذ منهم مالاً، فهذا حظه منه، والثالث: رجل يقرأ لله عز وجل، يطلب الأجر من الله سبحانه وتعالى في حفظه لكتاب الله، وفي تعليمه لكتاب الله، وفي تلاوته لكتاب الله، يطلب وجه الله سبحانه وتعالى، وهذا أعظم الناس فيه.
ومما جاء عنه صلوات الله وسلامه عليه قوله: (من قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها)، انظر إلى هذا الفضل في قراءة القرآن العظيم، وفي كل حرف منه؛ فحرف واحد قال فيه صلى الله عليه وسلم: (لا أقول الم حرف)؛ لأنه عند العرب أحياناً يطلق الحرف على كلمة، فالنبي صلى الله عليه وسلم حتى لا يتوهم الناس أن الحرف بمعنى كلمة قال: (ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف)، والحرف بعشرة حسنات، فكم تنال من حسنات حين تقرأ آية أو آيتين، أو عشرين آية، أو مائة آية! فاقرأ تؤجر الأجر العظيم من الله، واحذر أن تمل من القرآن العظيم.
ومما جاء عنه صلوات الله وسلامه عليه -وقد ذكرناه قبل ذلك- قوله في الحديث: (من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة)، فالإنسان الذي يسلك طريقاً يطلب فيه علم كتاب الله، وعلم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، يسهل الله له طريقه يوم القيامة، ويزيل الحواجز والعقبات عنه وهو ذاهب إلى الجنة، فيمر فوق الصراط فإذا بالله يسهل له، فيا من كنت تسلك طريقاً تلتمس فيه علماً ستجد الناس يمرون فوق الصراط منهم من يمشي، ومنهم من يحبو، ومنهم من يقوم ويسقط، ومنهم من تلفحه النار، ومنهم من تأخذه خطاطيف جهنم، وتجد نفسك أنت يا حافظ القرآن تسرع فوق الصراط المستقيم كالبرق، وكالريح المرسلة، وكأجاويد الخيل، وكطرف العين، وهذا أسرع ما يكون، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا جميعاً كذلك، فهذا فضل الله، والسبب في ذلك أنك تذهب لدروس العلم، وتذهب لتتعلم كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتتعلم دين الله، وتسلك الطريق تبتغي طلب العلم، فالله عز وجل يعطيك هذا الفضل يوم القيامة.
وانظر إلى هذا الحديث الذي يرويه أبو داود والترمذي عن عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يقال لصاحب القرآن: اقرأ وارتق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا)، فلابد أن نتعلم ترتيل القرآن، وتجويده، وتعلم التجويد والترتيل لا يكون من كتاب، ولكن اجلس إلى شيخ يعلمك كيف تتلو القرآن وتجوده، وكيف تقرأ الحروف وتخرجها من مخارجها، ولا تتكبر أن تتعلم، ولا تأنف أن تطلب العلم ولو ممن هو أصغر منك، وكم من إنسان صغير يجيد التلاوة بقراءة جميلة، وتلاوة صحيحة، وتجويد متقن، فاذهب وتعلم عنده، ولك الأجر عند الله عز وجل، وقوله صلى الله عليه وسلم: (كما كنت ترتل في الدنيا) أي: مثلما كان صوتك في الدنيا، وكيفما كانت قراءتك في الدنيا كذلك تكون يوم القيامة، فأنت لا ترتل على الناس، بل على رب الناس سبحانه تبارك وتعالى، وتقرأ بين يدي الله عز وجل، فيقول لك: اقرأ وارتق، وكل آية تصعد بها منزلة، وكل آية تطير بها لمنزلة أعلى، حتى تصل لآخر منزلة بما معك من القرآن، وبآخر آية أنت تحفظها وتقرؤها تكون منزلتك إليها، قال صلى الله عليه وسلم: (فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها)، ولذلك ينبغي على المسلم أن يحاول حفظ كتاب الله سبحانه تبارك وتعالى ما استطاع.
وكل الأحاديث التي سنذكرها صحيحة أو حسنة، وهذا حديث آخر رواه الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يجيء القرآن يوم القيامة) أي: حفظك للقرآن، وعملك يكون ثواباً يوم القيامة، وكل إنسان يأتي يوم القيامة حفظه لكتاب الله بين يدي الله عز وجل، قال صلى الله عليه وسلم: (فيدافع عن صاحبه ويقول: يا رب حله)، يقول القرآن لله عز وجل: يا رب! حلّ صاحبي هذا فإنه كان يحفظني، قال: (فيلبس تاج الكرامة)، فالله عز وجل يحلي هذا الإنسان ويجعل فوق رأسه تاج الكرامة، ثم يقول القرآن: (يا رب! زده، فيلبس حلة الكرامة)، أي: لباس الكرامة، إكرام من الله عز وجل، ويكون بذلك فوق خلق الله سبحانه تبارك وتعالى، ملك من الملوك، له تاج وحلة يوم القيامة ليدخل الجنة هكذا، قال صلى الله عليه وسلم: (ثم يقول: يا رب! ارض عنه) الناس يوم القيامة حفاة عراة غرل، والقرآن يقول لله عز وجل: يا رب! حله، فيحلي الله عز وجل هذا من دون الخلق، ويلبس تاج الكرامة، وحلة الكرامة، ويقول القرآن: (يا رب! ارض عنه فيرضى عنه، فيقال له: اقرأ وارق وتزاد بكل آية حسنة)، اقرأ وارق، وكلما قرأت كلما ارتقيت، وكل درجة لك عليها حسنة من الله عز وجل، وهذا شيء عظيم من فضل الله سبحانه وتعالى.
فالمؤمن يقوم من الليل بما تيسر له من قراءة القرآن، فإن قرأ سورة الفاتحة -وهي سبع آيات- قرأ معها شيئاً من السور، ولو أقل سورة في القرآن، وثلاث آيات أو عشر آيات يقوم بها، ولا يقوم الإنسان الليل بركعة واحدة بل سيقوم بركعتين، فإذا قرأ بها كانت عشرين آية قام بها.
وقد ذكرنا قبل ذلك أنه إذا كان من أول القرآن فالسبع الطول من أول المصحف تزيد على ألف آية، ومن أول القرآن حتى تصل لسورة براءة تزيد على ألف آية، فإذا أردت أقل من ذلك ففي آخر القرآن جزء تبارك إلى آخر المصحف ألف آية، فإذا قمت بألف آية كتبت من المقنطرين، أي: الآخذين من الثواب قناطير مقنطرة من عند الله عز وجل، ولم يقل لنا: إذا قمت من حفظك، بل إذا كنت لا تحفظ فافتح المصحف واقرأ، وقم بالليل وصل وافتح المصحف واقرأ فيه ألف آية، أو اقرأ مائة آية، أو ما تيسر لك، وهذا ثواب عظيم، وهذا الثواب للقارئ الذي يقرأ، وللسامع الذي يستمع، فإذا قمتم بالليل مع قارئكم يقرأ بكم وصلى بكم بألف آية كتب للجميع هذا الثواب العظيم.
نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من المقنطرين يوم القيامة، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر