اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
تكلمنا في الحديث السابق عن النية في الصوم وأن صوم الفريضة لا يصح إلا بنية، ولابد أن يبيت النية من الليل كما قدمنا، ولو دخل إنسان في صوم ثم نوى قطعه جازماً بنية الخروج فهذه من المسائل التي تتعلق بالنية، فإذا نوى مسلم من الليل أنه غداً صائم وأصبح بالنهار وهو على هذه النية عازماً على الصوم ثم بدا له أن يقطع هذه النية فإما أن يكون متردداً، أو أن يكون جازماً بقطع النية، يعني: كأن يقول: أنا الآن مفطر إذا وجدت طعاماً سآكل، فإذا عزم على الخروج خرج في الحال ولو لم يأكل، فإذا تردد في الخروج كإنسان مريض تردد وقال: أفطر لأنني معذور بالمرض ولا أكمل الصوم؛ فإنَّ التردد لا شيء فيه، والصوم صحيح، لكن الجزم بأنه خرج من الصوم كأنه نفى النية وألغاها، فعلى ذلك الآن هو مفطر؛ لأننا ذكرنا أن الصيام هو إمساك مع نية، فلا بد من الاثنين، فإذا وجد الإمساك والنية نسيها الإنسان فلا شيء، ولو تردد فيها وقال: أكمل أو أفطر؟ فلا شيء، لكن إذا عزم وجزم بأنه لا نية للصوم وقال: أنا مفطر الآن، فقد بطل صومه.
ولو كان صائماً عن نذر فنوى قَلْبَهُ إلى كفارة أو عكس ذلك، أي لو أنه صائم عن نذر، كأن يكون نذر أن يصوم يوم الاثنين القادم -في غير رمضان- وجاء يوم الإثنين وأصبح وهو صائم بهذه النية، ثم تذكر أن عليه كفارة يمين الآن وهو بالنهار، فأراد أن يقلب نيته إلى كفارة يمين، فإنه لا يصلح ذلك، والراجح أن صومه صحيح وهو عن النذر وليس عن الكفارة، ولا ينقلب الصوم لشيء آخر بخلاف من نوى من الليل -فقال: أنا غداً صائم، إما قضاء رمضان وإما عن النذر، ولم يجزم بواحدة حتى طلع عليه الصبح فصام، فصومه الآن صوم نافلة وليس فريضة، لأنه لابد ليكون قضاءً من عزم في نيته على أن هذا صوم قضاء، وإذا كان عن كفارة لا بد من عزم، وإذا كان عن نذر لا بد من عزم كذلك، فإذا أصبح عليه الصبح ولم يجزم، ولكنها مجرد نية أنه يصوم ولم يحدد عن أي شيء، فلا يصلح أن يحدد بعد أول نهار ويكون صومه هذا نافلة.
قال النبي صلى الله عليه وسلم في أمر الصلاة: (من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها) فالقياس الصحيح هنا أن يقال: نية الصوم تكون إذا استيقظ ولم يأكل، فقد نوى أنه يصوم فتجزئ، وخاصة أن مسألة النية في النهار للعلماء فيها قولان:
فمذهب الإمام أبي حنيفة أن النية مجزئة لأي صائم، وفي أي صوم فريضة أو نافلة، فله أن ينوي من النهار، ومذهب الجمهور ومنهم مالك والشافعي وأحمد أنه لابد من تبييت النية إلا مع العذر وهذا هو الصحيح، إذاً: لابد من النية إلا أن يوجد عذر، وسبب الاستثناء في العذر ما جاء في عاشوراء أنه فرض عليهم صومه في عام واحد وأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم في النهار أن يصوموه، فأجزأت هذه النية، فعلى ذلك لو أن الإنسان نام قبل غروب الشمس فلم يستيقظ إلا بعد طلوع الفجر فهذا معذور بالنوم، وإذا كان يعذر في الصلاة فليعذر هنا، فلينو إذا استيقظ من نومه، ويصوم هذا اليوم، وإذا نسي طول الليل كأن يقرأ القرآن أو كان يصلي، ولم يستحضر في قلبه أن يوم غدٍ من أيام رمضان حتى طلع الفجر، فإننا نقول: يجزئه الآن أن ينوي من النهار، وهذا مذهب أبي حنيفة ومذهب ابن حزم في هذه المسألة واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وغيرهم، فهذا معذور ولا يقاس على المعذور غيره، إذاً: لا صيام لمن لم يبيت النية من الليل، إلا أن يكون معذوراً بنوم أو بنسيان.
وهذا بإجماع المسلمين؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أقبل الليل من هاهنا، وأدبر النهار من هاهنا، وغربت الشمس فقد أفطر الصائم) فقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم أن الليل آتٍ من هنا، والشمس تتحرك من المشرق إلى المغرب، وكلما تتحرك من مكان تخلف خلفها مكاناً للظلِّ ومكاناً للَّيل، فالظلمة تبدأ يسيراً شيئاً فشيئاً حتى تعمَّ الظلمة جميع المكان، فيكون هذا الليل بغروب الشمس، إذاً: إذا جاء الليل من هاهنا وغرب النهار من هاهنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (وأدبر النهار)، وقال: (وغربت الشمس) لأنه ليس ضرورياً إذا أدبر النهار أن تكون قد غربت الشمس، ولكن قد يكون هذا في تخيلك أنت وفي نظرك، فقد يُدبر النهار بسحابات انتشرت في السماء، ولم تغرب الشمس، فعلى ذلك لا بد من غروب الشمس، والذي يقف عند البحر، أو في أفق واسع أمامه في صحراء أو نحوها يرى الشمس وهي تغرب، تنزل رويداً رويداً حتى تنزل تحت الأفق.
قال العلماء: الأحوط أن يمسك جزءاً يسيراً بعد الغروب؛ لأن الذي يرى الشمس وهي تغرب، يجد أن الشمس حين تنزل تحت الأفق يكون فوقها شعاع يسمى الشفق الأحمر، وكأن هذا الشفق يخبر الإنسان أن الشمس لم تنزل بالكامل تحت الأفق، ولذلك لا بد من الاحتياط.
والدخول في الصوم يكون بطلوع الفجر الثاني وهو الفجر الصادق، وذكرنا أن الفجر الذي سماه النبي صلى الله عليه وسلم الفجر الكاذب هو ضوء يكون في السماء مستطيلاً، والفجر الصادق يكون ضوءاً أو خيطاً مستعرضاً في الأفق من المشرق إلى المغرب.
روى البخاري ومسلم عن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: لما نزلت حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ [البقرة:187] قلت: يا رسول الله إني أجعل تحت وسادتي عقالين، عقالاً أبيض وعقالاً أسود أعرف الليل من النهار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن وسادك لعريض، إنما هو سواد الليل وبياض النهار) ، فـعدي بن حاتم أخطأ في هذا الشيء، وأخذ بمقتضى ما يفهم هو من اللغة، أنه خيط أبيض وخيط أسود، فأخذ حبلين، حبلاً أبيض وحبلاً أسود، ووضعهما تحت وسادته ليتبين هذا من ذاك، فبيَّن له النبي صلى الله عليه وسلم هذا الخطأ وأن قوله تعالى: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ [البقرة:187] يقصد به: بياض النهار، وسواد الليل.
أيضاً جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه مسلم عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يغرنكم من سحوركم) أي: من أكل السحور (أذان
جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه أرسل رجلين ينظران في الفجر، فقال أحدهما: أصبحت، وقال الآخر: لا، وكان ذلك بعد ما عمي رضي الله عنه، ففي آخر حياته صار ضريراً رضي الله عنه، فكان يرسل من ينظر في الفجر، فأرسل رجلين فقال الأول: أصبحت، وقال الثاني: لا، فقال: اختلفتما، أرني طعامي أو أرني شرابي فشرب رضي الله عنه؛ لأنه ذكر في الآية التبين، والآن لم يتبين، ولكن يختلف أنظار الناس، فمن تبين له بالنظر أن الفجر طلع لم يجُزْ له أن يأكل ولا أن يشرب، ومن عرف بالساعة أن الآن وقت الفجر الصادق فعلى ذلك لا يجوز له أن يأكل أو يشرب بعد طلوع الفجر.
إذاً: حكمه حكم الناسي والنبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث: (إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) وإذا كان الناسي في وسط النهار أكل حتى شبع وشرب حتى ارتوى وبعد ذلك تذكر أنه صائم، فقول: أطعمك الله وسقاك، ولا شيء عليك فليكن الحكم كذلك في المخطئ، إذا كان هذا المخطئ قد أخذ بالأسباب.
لكن إنسان لم يأخذ بالأسباب أصلاً، قام من النوم فرأى الليل مظلماً ولم يكلف نفسه أن ينظر في ساعة، وأحياناً الإنسان يختان نفسه في ذلك، فيأكل ويشرب، ثم ينظر في الساعة، فرأى أن الوقت وقت الظهر، فإننا نقول له: أفطرت ويلزمك الإمساك وعليك القضاء، فنفرق بين إنسان تحرى فأخطأ ولا شيء عليه، وإنسان لم يتحرَ في ذلك فيلزمه القضاء.
وهذا الذي ذكرناه جاء في حديث مرفوع في صحيح البخاري عن أسماء رضي الله عنها قالت: (أفطرنا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم في يوم غيم ثم طلعت الشمس) ولم يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالقضاء ولو أمرهم لذكرت: قضينا هذا اليوم، ولكن لم تذكر شيئاً، فدل على أنه لم يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بشيء، لكن راوي هذا الحديث عن أسماء رضي الله عنها هو عروة بن الزبير ، وابنه هشام بن عروة يروي الحديث عن فاطمة بنت المنذر عن أسماء ، قيل لـهشام بن عروة: فأمروا بالقضاء؟ فقال هشام من عند نفسه رضي الله عنه: لابد من قضاء، ولم يرفعه للنبي صلى الله عليه وسلم، ولا ذكره عن أسماء رضي الله عنه، بل أبوه عروة بن الزبير كان يرى أنه لا يلزم القضاء في ذلك، فقول عروة أولى من قول ابنه، فهذا عروة من فقهاء التابعين رضي الله عنه وهو أقرب للصحابة من هشام ، وهشام أبعد رضي الله عنه.
وحدث نفس الشيء في عهد عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه وأنهم أفطروا، يقول زيد بن وهب : كنت جالساً في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان في زمن عمر بن الخطاب فأوتينا بعساس فيها شراب من بيت حفصة ، يعني: أخرجت السيدة حفصة رضي الله عنها أقداحاً كبيرة فيها تمر وماء ونحو ذلك للصائمين يفطرون عليها، وهذا من كرمها رضي الله عنها، قال: فشربنا ونحن نرى أنه من الليل، ثم انكشف السحاب فإذا الشمس طلعت، إذاً: الذي حصل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم حصل في عهد عمر رضي الله عنه، قال: فجعل الناس يقولون: نقضي يوماً مكانه، فقال عمر : والله لا نقضي ما تجانفنا بإثم، فعلى ذلك الإنسان إذا أخطأ وظنَّ أن الشمس غربت وبان له بأمارات أنها غربت من سماع مؤذن أو من نظر في ساعة فتبين أنه أخطأ فالراجح: أنه يلزمه الإمساك ولا شيء عليه، بخلاف من لم يتبين له بأمارة، إنسان نظر فوجد السماء غائمة وقال: الليل قد جاء، ولم يكلف نفسه أن يتحرى أو ينظر في الساعة ولم يسأل ولم يسمع مؤذناً فأكل فتبين أن الليل لم يأت؛ فهذا يلزمه القضاء، فنفرق بين الاثنين، والله أعلم.
نكتفي بهذا القدر.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم.
وصلِّ اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر