قال الإمام النووي رحمه الله:
[باب تعجيل قضاء الدين عن الميت والمبادرة إلى تجهيزه إلا أن يموت فجأة، فيترك حتى يتيقن موته.
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه)، رواه الترمذي وقال: حديث حسن.
وعن حصين بن وحوح رضي الله عنه: (أن
هذا الباب أورده الإمام النووي في رياض الصالحين في كتاب عيادة المريض وتشييع الميت، وقد ترجمه بقوله: باب تعجيل قضاء الدين عن الميت، والمبادرة إلى تجهيزه إلا أن يموت فجأة، ومعنى الترجمة: أن الإنسان المؤمن إذا مات فعلى أهله أن يبادروا بتجهيزه، ومن ضمن هذه المبادرة وأهمها: أن يقضوا الدين الذي عليه إن كان عليه دين؛ لأنه من أخطر ما يكون على الميت، فإنه قد يحبسه عن رحمة الله عز وجل، وقد يعذب في قبره بسببه، فلذلك إذا ترك الميت وفاءً فيؤدوا عنه ما كان عليه من دين، وإذا لم يترك مالاً تصدقوا عليه وأدوا عنه الدين الذي عليه، بما يقدرون عليه، كما صنع أبو قتادة رضي الله عنه بالمتوفى الذي مات ولم يترك مالاً يقضى منه دينه.
في بداية هذا الباب ذكر المصنف رحمه الله تعالى حديثاً لـأبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (نفس المؤمن معلقة بدينه)، فالخطاب هنا والحديث عن المؤمن وليس عن الكافر.
ومعنى: نفسه معلقة أي: محبوسة، وجاء في قصة أبي قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الآن حين بردت عليه جلده)، أي: كأنه سخن جلده وأحمي عليه؛ بسبب هذا الدين الذي كان عليه، فلما قُضي الدين -وكان الدين دينارين فدفعها أبو قتادة - عندها خفف عنه من هذا العذاب وبرد جلده.
قوله: (حتى يقضى عنه دينه) يعني: سواء كان هذا القضاء من ماله إن كان له مال، أو أن الورثة جمعوا من مالهم ودفعوا ما عليه، أو أن إنساناً صديقاً تصدق عنه بهذا المال فقضى عنه الدين، وإلا فإن هذا المتوفى سيظل محبوساً بالدين، وفي الحديث الآخر: (عندما سئل صلى الله عليه وسلم عن الشهيد، هل يغفر له؟ فأخبر أنه يغفر له، ثم قال صلى الله عليه وسلم للسائل: إلا الدين، فإن جبريل أخبرني آنفاً بذلك).
إذاً: من مات وعليه دين فإنه يسأل عن هذا الدين، ويحبس عن رحمة الله سبحانه وتعالى؛ بسبب هذا الدين، وحديث: (نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه) قال عنه الترمذي : حديث حسن، وصححه الشيخ الألباني .
وأورد المصنف في هذا الباب كذلك حديثاً رواه أبو داود بإسناد ضعيف، عن حصين بن وحوح رضي الله عنه: (أن
ثم قال صلى الله عليه وسلم: (وعجلوا به؛ فإنه لا ينبغي لجيفة مسلم أن تحبس بين ظهراني أهله).
هذا الحديث إسناده ضعيف، ولكن معناه صحيح، يشهد له ما رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أسرعوا بالجنازة)، فالإسراع يكون بتجهيز الميت: من تغسيل وتكفين وحفر قبر وحمل ومن الصلاة عليه، وعلل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك؛ بأن هذا الميت إما أن يكون من أهل الخير أو غير ذلك، فإذا كان من أهل الخير فأنتم تسرعون به إلى الخير، وإذا كان غير ذلك فهو شر تضعونه عن أعناقكم، فالخير في كل الأحوال أنكم تسرعون بالجنازة ولا تبقونها بينكم.
وهنا في الحديث قال: (فإنه لا ينبغي لجيفة مسلم)، سبحان الله، الإنسان في حياته ينادى باسمه فلان بن فلان، لكن بعدما يموت، لم يعد يسمى باسمه، بل أصبح يقال له: جثة، فتسمعهم يقولون: هات الجثة، احمل الجثة ادفن الميت فقد صار الآن يعامل معاملة الجماد، بل إنه في الحديث سماه جيفة؛ لأن هذه الجثة إذا بقيت بين أهلها فإنهم لن يطيقوا ريحتها بعد تحللها وتحولها إلى شيء آخر، هذا كله يحدث للبدن، أما الروح التي هي داخل هذا البدن فلا يعلم سرها إلا الله سبحانه وتعالى، كما قال في محكم كتابه: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء:85]، فهذه الروح مغلفة ولابسة هذه الثياب التي هي البدن، فإذا خرجت الروح أصبح الشخص كالثياب بلا إنسان، فإذا خرجت هذه الروح وذهبت إلى ربها سبحانه وتعالى صار الجسد كالثياب القديمة البالية، ولذلك وجب حمله ومواراته في التراب.
فإذا دفن في قبره فالله سبحانه وتعالى يرد عليه الروح بصورة معينة، ليست كصورتها في الدنيا، وإنما بصورة خاصة بالحياة البرزخية، حيث يشعر الجسد وتشعر الروح بكل ما يحدث لهما من السؤال والانتهار والجواب، وبعد ذلك يذهب بالروح إما إلى عليين وإما إلى سجين، وهذا البدن يشعر في القبر بالعذاب، كذلك الروح والجسد يأتيهما من فضل الله ورحمته، أو من عذاب الله ونقمته ما يشاءه الله سبحانه وتعالى لهما.
فقال هنا صلى الله عليه وسلم: (لا ينبغي لجيفة) ووصفها بأنها جيفة مع أنها للإنسان المسلم.
يقول الشافعي والجمهور: المراد بالإسراع ما فوق المشي المعتاد، ولكن يكره الإسراع الشديد، ويقول الحافظ ابن حجر : يستحب الإسراع لكن بحيث لا ينتهي إلى شدة يخاف معها حدوث مفسدة بالميت، أو مشقة على الحامل أو المشيع؛ لئلا ينافي المقصود من النظافة وإدخال المشقة على المسلم. فهذه قيود وشروط يذكرها الحافظ عند الإسراع بالميت.
فإذاً: الإسراع يكون بالمشي الذي فيه شيء من السرعة بحيث لا يحدث للميت بسبب هذا الإسراع مفسدة، ولا تحدث لحامل الميت مشقة من تعب وغيره أو أن المشيع يصير منفرداً، فتكون الجنازة في مكان وهو في مكان آخر.
ومعنى هذا الكلام: أنه لابد أن يتيقن من موت هذا الإنسان، فلا يدفن حتى يحصل اليقين بموته، والتيقن الآن يحصل بواسطة الطبيب الشرعي الذي يقوم بالكشف عن هذا المتوفى ويتأكد من وفاته، وإذا كان لا يوجد طبيب شرعي، أو يوجد ولكن لا يحضر غالباً، فهنا يقول أهل الميت وأقاربه أو من عنده خبرة ويتأكد من وفاته، لكن عليهم أن لا يتسرعوا في دفنه؛ لأنهم إن فعلوا ذلك ودفنوه وهو حي فكأنهم هم الذين قتلوه في هذه الحالة.
فقوله صلى الله عليه وسلم: (أكثروا ذكر هادم اللذات؛ فإنه ما ذكر في ضيق إلا وسعه، ولا ذكر في سعة إلا ضيقها) يعني: أن الإنسان إذا جاءته أموال كثيرة وعنده ما يشاء من النعم، فإنه يحس أنه في نعمة وفي سعة كبيرة؛ فإن هذا المال يطغي الإنسان ويجعله يشعر أنه أعلى وأفضل من غيره، لكنه إذا تذكر الموت، وما بعده من الأهوال والشدائد، وتذكر السؤال بين يدي الله سبحانه تبارك وتعالى، فإن ذلك يجعله ينسى الكبر والاستعلاء فيتواضع ويخاف من هذا الموت.
إذاً: إذا ذكر الموت في السعة فإنه يضيق على الإنسان، كأنه يقول له: احذر، لا تغتر بهذه السعة التي أنت فيها.
كذلك إذا ذكر الموت في ضيق فإنه يفرج على الإنسان ما هو فيه من الضيق، أي: أنه إذا ضاقت نفس الإنسان فعليه بتذكر الموت؛ لأننا مهما عمرنا فإننا سوف نموت، فالموت يأتي على الكبير والصغير، والذكر والأنثى، والمسلم والكافر، فيأتي على الجميع، وطالما أن الموت سيأتي لا محالة، فلماذا نحزن فكل مصيبة دون الموت هينة.
فإذاً نستعد لأعظم المصائب وهو الموت، وما فيه من سؤال وحساب وعذاب، نستعد لذلك بالتوبة إلى الله عز وجل، والإكثار من ذكره سبحانه وتعالى.
انظر لقد كانت موعظة النبي صلى الله عليه وسلم موعظة يسيرة قليلة لا يوجد فيها كلام كثير؛ لأن المجال ليس مجال خطبة طويلة ليقف الواحد ويظهر للناس أنه يعرف الكلام عند المقابر، لا بل المقام مقام تذكرة يكفي فيها الكلام القليل، وفي حديث البراء بن عازب أطال صلى الله عليه وسلم في ذكر شيء من أمر الآخرة، ومع ذلك كل الحديث لا يأخذ خمس أو سبع دقائق عند روايته عنه صلى الله عليه وسلم، وفي هذا درس لبعض إخواننا الذين يطيلون الموعظة عند القبر حتى يضجر الناس وينفروا من موعظته، بل إن بعضهم تراهم كل مرة يأتون لنا ببدعة ما أنزل الله بها من سلطان، فتجد بعضهم يدعو والناس يؤمنون على دعائه، وهكذا يفعل الثاني، وهذا ليس من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، إنما الموعظة عند القبور تكون موعظة يسيرة بكلمات مختصرة مؤثرة، حتى يحصل المقصود وهو الاتعاظ والتذكر. فيجب عليك أن تتعظ من هذه القبور، وتبكي على نفسك حين ترى هؤلاء الموتى وأنت صائر إلى مثل حالهم، فإذا كان عملك عمل أهل التقوى فافرح به، وإذا كان عملك عمل أهل الشقاء فابك على حالك وعلى نفسك.
إذاً: فالموقف عند القبر موقف موعظة وتذكر فقط وليس موقفاً لكثرة الكلام الذي قد يكون مملاً أحياناً، ولذلك ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال في مثل هذا الموقف: (ادعوا لأخيكم وسلوا له التثبيت؛ فإنه الآن يسأل)، بل إن كثيراً من هؤلاء الذين يكثرون الكلام عند القبور لا يحسنون اللغة العربية، ولا يحفظون شيئاً من الأحاديث، بل يصعد ليقلد شيخاً من المشايخ، والثاني يقلد شيخاً آخر، وكل ذلك يفعله افتخاراً وسمعة نسأل الله العافية، وهذا يؤدي إلى تضجر الحاضرين.
والحمد لله أننا لا نرى هذه الأفعال في كثير من الأماكن التي اتبعت هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يطيل الكلام عند المقابر كما أسلفنا، وإنما يكتفي بموعظة يسيرة يذكر الناس بها، أو يقول: ادعوا لأخيكم، فلم يكن يقف يدعو بنفسه صلى الله عليه وسلم والناس يؤمنون على دعائه، وهذا كثيراً ما يقع، بل تجد بعضهم عند المقابر يقول: يا شيخ ادع من أجل أن الناس يؤمنون على دعائك، فإذا قلت: لا لن أدعو، يقال لك: إنك تركت الميت ولم تهتم بأمره، وإذا دعوت فقد ابتدعت بدعة من البدع، فحيروا الناس معهم في موقف لا يحتمل الجدل ولا الكلام الكثير، فتجد أحدهم يقوم ويدعو والناس يؤمنون على ما يقول، ومن ثم صارت هذه سنة، فتجد كل جنازة فيها أحد الإخوة يدعو للميت، وهناك أناس مخصصون للدعاء عند المقابر، وهذه ليست سنة، إنما السنة أن تقف وتدعو وحدك، فقد أمرك النبي صلى الله عليه وسلم بالإخلاص في الدعاء للميت، فليس المقصود أن تسمع الناس بهذا الدعاء، وإنما المقصود الأسمى هو أن يسمعك رب الناس، وهذا يحصل ولو كنت وحدك، بل إنه الأحرى بالقبول، فالأمر هنا أمر دعاء من القلب يصعد إلى الرب سبحانه تبارك وتعالى، لينتفع به هذا الميت، فتكون السنة عند المقابر هي الصمت وعدم الكلام.
إذاً: من السنة عند الدفن السؤال للميت أن يثبته الله سبحانه، وأن يرحمه، وأن يصبر أهله، وليس من السنة أن يدعو الشخص والحاضرون يؤمنون، فإذا كان الدعاء للميت والناس يؤمون لم يشرع في صلاة الجنازة، فالإمام الذي يصلي على الميت لا يشرع له أن يرفع صوته بالدعاء والناس يؤمنون وراءه في الصلاة، ويكونون عند المقابر، فهذا غير مشروع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك.
وهنا في هذا الحديث قعد النبي صلى الله عليه وسلم على الأرض، وليس على المقابر؛ لأنه قد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم النهي عن الجلوس على المقابر، والمقابر لم تكن مرتفعة، وإنما كانت على الأرض.
قوله: (وقعدنا حوله صلى الله عليه وسلم، ومعه مخصرة) أي: عكاز صغير، ثم أخذ ينكت بها في الأرض، أي: أنه غرزها في الأرض عدة مرات، وهذه هي هيئة المتفكر، فالإنسان حين يجلس يفكر وفي يده شيء فإنه يعمل به في الأرض، فالنبي صلى الله عليه وسلم نكت بمخصرته ثم قال: (ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من النار ومقعده من الجنة)، يعني: هذه موعظة للجميع، أي: أن الله عز وجل يعلم بكل واحد منكم هل هو من أهل الجنة أو من أهل النار، فقالوا: (يا رسول الله، أفلا نتكل على كتابنا؟) أي: طالما أن ربنا قد كتب علينا هذا الشيء، فهل نتكل ونترك العمل، فإن الشقي سيكون شقياً، والسعيد سيكون سعيداً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اعملوا، فكل ميسر لما خلق له)، فهو عليه الصلاة والسلام أخرجهم عن الكلام وعن الجدل وعن المناقشات الفارغة التي لا قيمة لها إلى ما ينتفعون به.
فأنت أخي المسلم عليك أن تؤمن بعلم الله سبحانه وتعالى، وبقضائه وقدره وقدرته وحكمته سبحانه بدون مناقشات في هذه الأشياء، فالله عز وجل كتب أن فلاناً في الجنة وأن فلاناً في النار، لكن هل عرفت من هو فلان الذي في الجنة ومن هو فلان الذي في النار؟ بل هل عرفت أين مكانك أنت أو مكان أبيك وأمك؟ لم يذكر لك من ذلك شيء، ومع هذا تؤمن أن الله علم وكتب عنده من في الجنة ومن في النار، فما دام الأمر كذلك فيجب عليك أن تعمل الواجب عليك وأن تترك المناقشة بقولك: لماذا فلان هذا في الجنة، وفلان الآخر في النار؟ فهو لم يخبرك بعين فلان هذا، وإنما أمرك بالعمل، كما قال صلى الله عليه وسلم في آخر الحديث: (اعملوا فكل ميسر لما خلق له).
ومن علامات سعادة الإنسان أنه عندما يريد أن يعمل العمل الصالح، يجد أبوابه مفتحة له، فيعمل ولا يتلهى عنها.
ومن علامات شقاء الإنسان أنه كلما أراد أن يعمل عملاً صالحاً يجد من يصده عنه، من صديق سوء يصده عن الصلاة إن أراد أن يصلي، ويصده عن الصوم إن أراد أن يصوم، وهكذا تراه يبعده عن طاعة الله سبحانه تبارك وتعالى، فهذا من علامات شقاء الإنسان والعياذ بالله، فإذا مات على ذلك فهو الإنسان الشقي ولا حول ولا قوة إلا بالله؛ لأن الأعمال بالخواتيم، فإذا ختم للإنسان بالسعادة فهو من أهل السعادة، وإذا ختم له بالشقاء فهو من أهل الشقاء، نسأل الله عز وجل العفو والعافية، ولا نحكم على إنسان أنه من أهل السعادة أو من أهل الشقاء ولكن نرجو من الله عز وجل الخير للمسلم.
فهذه نفس سعيدة طيبة يفرح بها في الملأ الأعلى، يصعدون بها إلى السماء فإذا بالله عز وجل يقول: أعيدوها إلى الأرض فإني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى، فتعاد الروح إلى القبر للسؤال -وكما قلنا على هيئة غير ما كانت عليه في الدنيا، هيئة الله أعلم بها- فيأتيه ملكان شديدا الانتهار فينهرانه ويجلسانه ويسألانه: من ربك؟ وما دينك؟ وما تقول في هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: ربي الله، وديني الإسلام، ونبيي محمد صلى الله عليه وسلم، فينادي مناد من السماء: أن صدق عبدي، فألبسوه من الجنة وأفرشوه منها، وأروه منزله من الجنة، فيفرح العبد حين يرى منزله في الجنة، فيريد أن يذهب إليه، فيقال له: نم نومة العروس، فيقول: يا رب! أقم الساعة، كي أرجع إلى أهلي ومالي، ويمثل لهذا الرجل في قبره رجل يخرج عليه، جميل الوجه طيب الريح حسن الثياب، فيقول له: أبشر بخير يوم أتى عليك منذ ولدتك أمك، يقول: من أنت، فوجهك الوجه الذي يأتي بالخير؟ فيقول: أنا عملك الطيب، أنا عملك الصالح، والله ما كنت أعلمك إلا سريعاً إلى طاعة الله، بطيئاً عن معصية الله، فجزاك الله خيراً فالعمل مثله الله سبحانه وتعالى على هذه الصورة، فهو سبحانه وتعالى على كل شيء قدير، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون.
وعلى العكس من ذلك الإنسان الخبيث الفاجر والكافر إذا كان في انقطاع عن الآخرة وإقبال على الدنيا، يأتيه ملك الموت يقبض روحه، ويقول: يا أيتها النفس الخبيثة، اخرجي إلى سخط من الله وغضب -وذلك لأنها كانت نفساً بعيدة عن الله سبحانه- فيفزع هذا الكافر وتتفرق روحه في الجسد، فينتزعها ملك الموت كما ينتزع السفود من الصوف المبلول، وتنزل ملائكة من النار معهم مسوح من النار، فلا يدعونها في يده طرفة عين، بل يأخذونها ويصعدون بها ولها ريح منتنة، فلا تمر على أحد بين السماء والأرض إلا قال: ما هذه الروح الخبيثة؟ فيقال: فلان بن فلان، بأخبث أسمائه التي كان ينادى بها في الدنيا، فيصعدون إلى السماء، فيقول الله سبحانه وتعالى: أعيدوه إلى الأرض، فإني منها خلقتهم وفيها أعيدهم، ومنها أخرجهم تارة أخرى، فتلقى من السماء، وقرأ النبي صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ [الحج:31]، تهوي أرواحهم من السماء، فالملائكة لن ينزلوا بها ويكرموها، بل يرمونها من السماء إلى مكانها في قبرها، ويأتيه في قبره ملكان شديدا الانتهار فينهرانه ويجلسانه ويسألانه: من ربك؟ وما دينك؟ وما تقول في هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هاه هاه لا أدري، فيقال له: لا دريت ولا تليت، ويمثل له رجل أسود الوجه منتن الريح قبيح الثياب، فيقول له: أبشر بشر يوم أتى عليك منذ ولدتك أمك، فيقول: من أنت، بشرك الله بالشر، فوجهك وجه يأتي بالشر، فيقول: أنا عملك الخبيث والله ما علمتك إلا بطيئاً عن طاعة الله سريعاً إلى معصية الله فجزاك الله شراً، فيقول الله عز وجل -عندما لا يجيد هذا العبد الجواب-: أن كذب عبدي، فافرشوه من النار، وأروه منزله في النار، ويضرب في قبره ضربة بمرزبة يصرخ منها صرخة يسمعها كل شيء -إلا الثقلين الإنس والجن- ولو سمعها الإنس والجن لصعقوا، حتى وهو في جنازته محمول يصرخ ويقول: يا ويله إلى أين تذهبون به، فلما رأى منزله من النار وجد أن القبر أرحم له من النار، ولذلك يقول: رب لا تقم الساعة، رب لا تقم الساعة
)، فأصبح له القبر حفرة من حفر النيران والعياذ بالله.هذا الحديث الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم، والذي أخذ حوالي خمس دقائق هو أقصى ما قاله صلى الله عليه وسلم عند القبر.
ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يتعهدهم بالموعظة في كل جنازة يتخولهم بها، بل كان أحياناً يفعل ذلك صلى الله عليه وسلم، فلذلك تستحب الموعظة عند القبر أحياناً، وتكون موعظة يسيرة قليلة فيها الأمر بتقوى الله، والتذكير بالرجوع إلى الله سبحانه، كأن يكون فيها ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث، ويقال للحاضرين: اسألوا لأخيكم التثبيت؛ فإنه الآن يسأل، فيسألون الله عز وجل أن يثبت الميت ويثبتهم بالقول الثابت في الحياة الدنيا والآخرة.
إذاً: فالموعظة عند القبور لا تكون في كل مرة، وإنما يكون ذلك أحياناً بحيث لا يمل الناس، ولا يبتدع في ذلك بدعاً وأشياء تبعد عن سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (واسألوا له التثبيت)، يعني: حين يأتيه الملكان للسؤال، وهذه أعظم الفتن التي يتعرض لها الإنسان في قبره، حين يسأل ويقال له: من ربك؟ وما دينك؟ وما تقول في هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ عليه الصلاة والسلام.
أيضاً جاء عن عمرو بن العاص رضي الله عنه، موقوفاً عليه وليس مرفوعاً للنبي صلى الله عليه وسلم، أنه وصى من حوله فقال: (إذا دفنتموني فأقيموا حول قبري قدر ما تنحر جزور، ويقسم لحمها حتى أستأنس بكم، وأعلم ماذا أراجع به رسل ربي)، رواه مسلم ، والأثر بطوله ورد فيه أن عمرو بن العاص قال لهم ذلك وهو في سياق الموت، فطلب ممن حوله أنهم إذا دفنوه أن يقفوا عند قبره، فترة من الزمن، ولم يكن معهم ساعات حتى يقدر الفترة، كأن يقول: عشر دقائق أو خمس دقائق أو نصف ساعة، فقدرها بقوله: (قدر ما تنحر جزور، ويقسم لحمها) أي: مدة ذبح الجمل، وتوزيع لحمه على الفقراء، وهذا سيأخذ ربع ساعة أو نصف ساعة، أو أكثر أو أقل.
وهذا التقدير لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يقل ذلك، ولكن قال: (اسألوا الله له التثبيت؛ فإنه الآن يسأل).
إذاً: فالسنة أن تدعو للميت بما تيسر.
كذلك إذا قرأت القرآن ووهبت هذا الثواب لهذا الإنسان المتوفى، فالراجح: أنه إذا كان الحج والصوم عن الميت ينفعه، فكذلك إذا قرئ القرآن ووهب ثواب القراءة للميت فإنه ينفعه ويصل ثواب ذلك إليه، وهذا من أبواب الرحمات التي ترحم بها الإنسان المتوفى بعمل شيء له، لكن الذي يمنع منه هو الصلاة عن الميت، فأنه لا يصلي أحد عن أحد، وإن كانت عليه صلاة، فلا ينفع أن تصلي عنه ولم يثبت فيه شيء، إنما غاية ما يكون أنك تحج عن الميت، أو تدفع عنه الزكاة التي مات وهي عليه ولم يدفعها، وأنك تصوم عنه إذا مات وعليه صيام فرض، وكذلك يلحق بها أن تقرأ القرآن وأن تهب ثواب القراءة لهذا المتوفى، أو تقرأ القرآن تقرباً إلى الله، ثم تسأل الله عز وجل لنفسك وللمتوفى.
وليس معنى ذلك أننا نأتي بشيخ أو قارئ فيجلس يقرأ القرآن ويكون الثواب للميت؛ لأنه لا يوجد أحد قال بهذا الشيء، بل إن جلوس الناس واستماعهم للقراءة يعد من البدع، ومن الإعانة على النياحة على المتوفى، فليس هذا من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما كان عادة السلف الصالح إذا مات لهم أحد أن يعزوا أهل الميت في أي مكان، في المسجد أو في الطريق أو في الشارع، ولا يستحب الجلوس للتعزية، وإنما يعزي المعزي وينصرف ولا يجلس لذلك.
والآن في زماننا إذا توفي إنسان يقوم أهله بعمل الأكل للزوار الذين يأتونهم، فتصبح المصيبة مصيبتين: مصيبة في المتوفى الذي عندهم، ومصيبة الطبخ من أجل أن يأكل الناس الذين سيأتون.
والسنة: أنه يعمل لأهل الميت الطعام، وخصوصاً إذا عرف أنهم سينشغلون في مصيبتهم عن تحضير الطعام، وليس أنهم يكلفون بعمل الطعام لمن جاء إليهم، وهذا وللأسف موجود في كثير من الأماكن في زماننا هذا.
فلذلك إذا عزيت أهل المتوفى، تعزي وتنصرف ولا تجلس للعزاء لا أنت ولا غيرك ولا تفتح أبواب البدع لمثل هذا الشيء.
أيضاً من المنكرات في مثل هذه الأعمال: إنفاق الأموال الكثيرة على هؤلاء المتخصصين بالقراءة، وهذه الأموال الطائلة لو تصدق بها على الميت لكان أولى، ولعل أولاد هذا الميت أحوج ما يكونون لهذا المال الذي ينفق على أصحاب البدع هؤلاء، فإذاً هذا إنفاق على بدعة ومعصية، وليس على طاعة لله تبارك وتعالى، وهذا تفريط في حق أهل الميت وورثته الذين لعلهم يحتاجون إلى هذه الأموال.
لذلك لا بد أن نتعاون على البر والتقوى، وأن نتناهى عن الإثم والعدوان وعن معصية الله سبحانه تبارك وتعالى، فلا يأت أي إنسان فيقول: الناس أجبروني على أن آتي بمقرئ واضطررت إلى ذلك، نقول: لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق سبحانه وتعالى، وأنت يوم القيامة ستسأل عن نفسك، والناس لن يسألوا عنك، والذين أجبروك ليسوا هم الذين دفعوا الأموال، فلو أجبروك، فقل لهم: تعالوا أنتم اعملوا، أنا لن أعمل شيئاً، فإنه لن يحمل عني أحد شيئاً يوم القيامة، ولكن انظر إلى رضا ربك سبحانه تبارك وتعالى، وأنفق في المعروف والطاعة وليس في البدعة والمعصية.
فإذاً: المشروع أن تدعو للميت بأن يثبته الله، وأن ينزل الله رحمته على هذا المتوفى، وأن يجعل قبره روضة من رياض الجنة، وأن يغفر له سبحانه وتعالى.
والصدقة عن المتوفى عظيمة، ففي حديث عائشة رضي الله عنها المتفق عليه، أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (إن أمي افتلتت نفسها، وأراها لو تكلمت تصدقت، فهل لها من أجر إن تصدقت عنها؟ قال: نعم) يعني: ماتت فجأة، وهذا الرجل قيل: إنه سعد بن عبادة رضي الله عنه، توفيت أمه فجأة، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: إنها لو مرضت قليلاً قبل الوفاة وعقلت ذلك، لكانت قالت لي: تصدق بمال كذا، ولكن ماتت فجأة، فهل لها أجر إن تصدقت عنها؟ لاحظ أن المرأة لم تقل: تصدق عني، لكنه ظن أنها لو عاشت قليلاً لقالت له ذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (نعم).
فإذاً: لو تصدقت عن الإنسان المتوفى جاز ذلك ويقبل منك، ويكون الثواب للميت، ويكون ذلك براً بهذا الإنسان المتوفى.
وكذلك كتابه (روضة الطالبين) فهو كتاب كامل في الفقه الشافعي، ذكر فيه الأقوال للإمام الشافعي والوجوه للأصحاب، وكتابه (تهذيب الأسماء واللغات) فهو كتاب عظيم في اللغة، وكتابه (شرح صحيح الإمام مسلم ) وغير ذلك من كتبه العظيمة النافعة.
فهذا إمام من الأئمة وما أكثرهم رضوان الله تبارك وتعالى عليهم، فقد تركوا لنا ذخيرة عظيمة لا يزال ينتفع بها إلى ما يشاء الله، وعلى قدر إخلاص أصحابها على قدر ما ينتفع بها، فهذا الإمام مالك رحمه الله، ألف موطأه، فقالوا له: يوجد موطآت أخرى غير موطئك، فقال: ما كان لله دام واتصل، فدام موطأ الإمام مالك ، ولا يزال يحفظ ويدرس وتؤخذ منه الأحكام رحمة الله تبارك وتعالى على مؤلفه، فانظروا إلى هؤلاء السلف الصالح كيف انتفع بعلمهم، وكذلك كل من يبلغ عن النبي صلى الله عليه وسلم؟!
فأصحابه صلى الله عليه وسلم لم يؤلفوا كتباً، وإنما بلغوا ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم فانتفع به من بعدهم، وهؤلاء الذين رووا لنا أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم بل الذين نقلوا لنا هذا القرآن العظيم كم يؤجرون! كلما تلي القرآن أجر هؤلاء الصحابة الأفاضل الذين سمعوا النبي صلى الله عليه وسلم، ونقلوا لنا هذا العلم الذي ينتفع به.
ولاحظ أنه قال صلى الله عليه وسلم: (أو علم ينتفع به)، فإذاً فرق بين علم ينتفع به وعلم لا ينتفع به، فإذا كان هذا العلم كلاماً فارغاً أو كلاماً من أهواء الناس، أو مناقشات ومجادلات سفسطائية وتضييعاً للوقت وإشغالاً لأذهان الناس، فهذا كله لا ينتفع به، فلا يؤجر عليه، بل إنه ضيع عمره هدراً، وفي الآخرة لا شيء له، فالنبي صلى الله عليه وسلم قيد العلم هنا بأن يكون علماً ينتفع به.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر