أما بعد:
فقد ورد أنه يجوز البكاء على الميت إذا كان بدمع العين، ولا يجوز النواح والصراخ وندب الحظ ورفع الصوت في ذلك.
وقد جاءت في ذلك أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم يذكر فيها أن الميت قد يعذب ببعض بكاء أهله عليه. فالميت إذا توفي وبكي عليه فإن بعض هذا البكاء لا يتأذى به الإنسان المتوفى، وقد يتأذى به إذا كان من باب الصراخ والعويل.
والأذى إما أن يكون عقوبة من الله يعاقب به هذا المتوفى، وإما أن يكون بإيلام نفس هذا الإنسان بما يسمعه من بكاء أهله عليه.
فإذا كان هذا الميت وسط بيئة تفعل ذلك كما كان يفعله أهل الجاهلية، أو كان يعلم من حال أهله أنهم يندبون ويصوتون -أي: يرفعون أصواتهم بالصراخ على الميت- فلم ينههم عن ذلك قبل وفاته فإنه يعاقب على ذلك؛ لأنه لم يأمرهم بالمعروف ولم ينههم عن المنكر في حال حياته.
وأما إن كان هذا المتوفى لا يعلم من حال أهله ذلك فإنه يعذب ببكاء أهله عليه بما يجد من الألم بسبب هذا البكاء.
والميت قد يشعر بأشياء كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم، فمنها: انصراف أهل الميت عن القبر، وإنه ليسمع قرع نعالهم. فكما أن ربنا سبحانه وتعالى يسمعه هذا الشيء، فقد يسمعه صراخهم عليه سماعاً يليق بمثل هذه الحالة، فيسمع ويتأذى ببكائهم.
ولذلك فإنه مما ينبغي على المسلم أن لا يؤذي الميت أبداً بصراخ أو بعويل أو بندب، أو نحو ذلك.
وقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال -كما في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه-: (ليس منا من لطم الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية).
فهؤلاء ليسوا من أهل الإسلام الذين هم على طريقة النبي صلى الله عليه وسلم وعلى دينه وسنته، فكأنه عليه الصلاة والسلام يبرأ من هؤلاء، وأنهم لا يستحقون أن ينسبوا إليه. فيقول: (ليس منا من لطم الخدود)، وهذا عام في الرجال والنساء، وأيضاً شق الجيوب عام في الرجال وفي النساء. ومعنى شق الجيوب: تمزيق الثياب، وجيب القميص هو: المكان الذي فيه أزرار، أو الذي تدخل منه رأسك في القميص، فأن يشق هذا الجيب أو يمزق الثوب، مما لا يحل لأحد أن يفعله في مصيبة تنزل به.
وقد حصل شجار بين رجل أنصاري وآخر مهاجري، فقال المهاجري: يا للمهاجرين، وقال الأنصاري: يا للأنصار، أي: أن هذا يستنصر بمن هم معه من المهاجرين، وذاك يستنصر بمن هم معه من الأنصار. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (دعوها فإنها منتنة).
فالإنسان المؤمن لا ينتصر لصاحبه لكونه من أهله أو من قبيلته أو من بلده، فإن هذه من دعوى الجاهلية. وإنما ينصر أخاه ظالماً أو مظلوماً، فإذا كان له الحق أخذ له، وإذا كان عليه الحق أخذه منه؛ فيكون مع الحق دائماً، ولا يكون مع فلان لأنه من بلده، أو قبيلته أو حيه، أو شارعه، فإن هذه من دعوى الجاهلية؛ لأنه ينصر صاحبه ولو كان على الباطل؛ دائماً المهم كونه من قبيلته أو بلده.
فـأبو موسى لما غشي عليه ظنوا أنه مات، فصوتت واحدة من نسائه، فلما أفاق قال: أنا بريء ممن فعلت هذا الشيء، وممن برئ منه النبي صلى الله عليه وسلم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أنا بريء من الصالقة والحالقة والشاقة).
والصالقة أو السالقة بالصاد أو بالسين بمعنى: رافعة الصوت، أي: التي تصوت وترفع صوتها بالبكاء والنحيب والصراخ.
والحالقة: هي التي تحلق شعرها عند المصيبة، فتمزق شعرها، أو تحلقه عند نزول المصيبة.
والشاقة: هي التي تمزق ثيابها عند نزول الموت، أو نزول المصيبة بها.
وهذه أشياء خطيرة جداً تقع بسببها المرأة في رد قضاء الله سبحانه، وتقع في الكفر بسبب ذلك، والعياذ بالله! فتقع في كفر العمل، وربما كفر الاعتقاد إن اعتقدت أن هذا يحل، وأنه يلزمها أن تصنع ذلك لميتها ولغيره مع نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فكأنها ترد القضاء والقدر ولا ترضى به فتقع في ردة والعياذ بالله؛ لأنها تسخط على ربها بذلك.
وقولها: (ألا نخمش وجهاً)، يعني: ألا تمزق وتدمي وجهها بأظفارها.
وقولها: (ولا ندعو ويلاً)، أي: كأن تقول: يا ويلي! فكأنها تنادي المصيبة وتقول: يا مصيبة احضري، ويا عذاب احضر، فهي تنادي العذاب، والملائكة تقول: آمين، فقد يحضر لك عذابك، وتستحقين أن تعذبي عند الله عز وجل؛ لأن الملائكة تؤمن على ما يدعو الإنسان به على نفسه أو لنفسه في مثل هذه الحالة.
وقولها: (ولا نشق جيباً)، يعني: ألا تشق المرأة ثيابها، ولا تنشر شعرها، وتظهره أمام الناس بدعوى أنها حزينة على المتوفى عندها.
فهذا هو نعي الجاهلية، وقد نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم.
والنعي لغة: هو الإخبار عن موت إنسان؛ وقد فعله النبي صلى الله عليه وسلم عندما أخبر عن موت بعض أصحابه، فقد أخبر عن موت النجاشي ، وأخبر عن موت الثلاثة الأمراء الذين كانوا في غزوة مؤتة، فنعى النبي صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه جعفر بن أبي طالب وزيد بن حارثة وعبد الله بن رواحة ، وقال: أخذ الراية فلان فقتل، ثم أخذ الراية فلان فقتل، ثم أخذ الراية فلان فقتل، ثم ذرفت عيناه عليه الصلاة والسلام، فهو كان يدعو لهم ويخبر أصحابه حتى يستغفروا ويدعوا لهم، ويعلمهم بما آل إليه خبرهم.
فنعي النبي صلى الله عليه وسلم هنا بمعنى الإخبار، ومثل هذا جائز، فإنه إذا توفي إنسان فذكرنا في المسجد أنه توفي فلان من أجل أن يجتمع الناس في صلاة الظهر، أو في صلاة العصر فيصلون عليه، فلا مانع من ذلك.
أما النعي بأن يخرج المنادي وينادي في الناس: بأن فلاناً الذي توفي هو الذي قريبه فلان، والذي صفته كذا، والذي فيه كذا، والذي كان كذا، ويذكر له من المدائح أشياء، لعل أكثرها يكون كذباً، وقد يكون صادقاً، ويظهر أن له منصباً وله أهمية ما، وماذا سينفعه المنصب والأهمية عند الله عز وجل؟ وإنما الذي سينفعه أن يدعو له المسلمون، ويصلي عليه الموحدون الذين يعرفون الله سبحانه فيشفعهم الله عز وجل فيه.
أما الذين يذكرون فلاناً الذي كان كذا والذي كان كذا، فإن المنصب لا ينفعه عند الله، بل يكون أدعى لشدة الحساب على هذا الإنسان عند الله سبحانه وتعالى.
إذاً: فنعي الجاهلية هو: الإظهار في كل مكان -في الأسواق وفي غيرها- موت فلان من الناس؛ من أجل تكثير الناس، كمظهر من المظاهر. وقد نهى النبي صلى الله عليه وسل عن ذلك، فأما إخبار المسلمين بذلك بغرض أن يترحموا عليه، ويدعوا له، ويستغفروا له، وأن يحضروا لصلاة الجنازة عليه، فهذا هو النعي الجائز الذي فعله النبي صلى الله عليه وسلم.
ولذلك جاء في حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم عن موت الفجأة أنه قال فيه: (موت الفجأة أخذة أسف) وفي رواية: (للفاجر)؛ لأن الإنسان الفاجر يقبضه الله عز وجل فجأة فيموت على فجوره، وقد لا يقول: لا إله إلا الله، فموت الفجأة قد يكون راحة للإنسان المؤمن، وأما الفاجر فإنه لا يمهل حتى يتوب إلى الله سبحانه، وحتى ينطق بهذه الكلمة.
ومن الأحاديث التي جاءت في ذلك: حديث طلحة بين عبيد الله رضي الله عنه وذلك أنه رأى عمر طلحة بن عبيد الله ثقيلاً، فقال: ما لك يا أبا فلان؟! لعلك ساءتك امرأة عمك! قال: لا، وأثنى على أبي بكر ، إلا أني سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً ما منعني أن أسأله عنه إلا القدرة عليه حتى مات.
طلحة بن عبيد الله أحد العشرة المبشرين بالجنة رضي الله تبارك وتعالى عنه سمع من النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً، فأشكل عليه، فكان يريد أن يسأل عنه النبي صلى الله عليه وسلم، فمات النبي صلى الله عليه وسلم ولم يسأله طلحة رضي الله تبارك وتعالى عنه.
فلما توفي النبي صلى الله عليه وسلم ثقل ذلك على طلحة ، فسأله عمر : ما هو هذا الأمر؟ فقال: سمعته يقول: (إني لأعلم كلمة لا يقولها عبد عند موته إلا أشرق لها لونه، ونفس الله عنه كربته) فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إني أعرف كلمة) والمعنى: اسألوني عنها، ففي هذا نوع من التشويق للناس، فـطلحة قال: يا ليتني سألت النبي صلى الله عليه وسلم عنها، فقال عمر : إني لأعلم ما هي، هي: لا إله إلا الله، فقال طلحة : صدقت؛ هي والله! الكلمة التي أنا ما سألت عنها النبي صلى الله عليه وسلم ووفقك الله عز وجل لمعرفتها.
ولذلك شدد على النبي صلى الله عليه وسلم في مرض وفاته، فكان أمر الموت عليه ثقيلاً، وكان عليه الصلاة والسلام يكرب كرباً شديداً ويقول لابنته: (لا كرب على أبيك بعد اليوم) -يعني: هذا هو آخر كرب في هذه الدنيا، ولا كرب على أبيك -صلوات الله وسلامه عليه- بعده.
وجاء عن بريدة بن الحصيب رضي الله عنه أنه كان بخراسان فعاد أخاً له وهو مريض، فوجده في حال الموت وإذا هو يعرق جبينه عرقاً شديداً، فقال: الله أكبر! سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (موت المؤمن بعرق الجبين).
وهذه الأشياء عندما نقول: إنها من علامات حسن الخاتمة فليس المعنى: أنا نشهد لصاحبها بأنه في الجنة؛ لأنه لا يجوز أن نشهد لإنسان بعينه بأنه في الجنة أو في النار، فهذا من علم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى، ولكن غاية ما نقول: نحسبه على خير، ونحسب أنه من حسن خاتمته أن فعل الله به كذا وكذا. فيبقى رجاء الخير وحسن الظن في صنع الله عز وجل بعبده.
وقد جاء في الحديث: (ما من مسلم يموت يوم الجمعة أو ليلة الجمعة إلا وقاه الله فتنة القبر) فالذي يموت في هذا الوقت فإن الله عز وجل يقيه فتنة القبر. وليس معنى هذا أن الذي لا يموت في هذا الوقت فقد ساءت خاتمته؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم مات في يوم الإثنين، وإنما معنى هذا: أنه من زيادة فضل الله عز وجل على من يشاء من عباده؛ ليقيه من فتنة القبر عذابه.
قال الله عز وجل: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران:169-171] .
وجاء في الحديث الذي رواه الترمذي وصححه من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (للشهيد عند الله ست خصال: يغفر له في أول دفعة من دمه) أي: مجرد ما يُصاب في مقتل تخرج أول دفعه من الدم فيرى أن ربه سبحانه قد غفر له.
قال: (ويرى مقعده من الجنة) أي: يريه الله سبحانه منزله في الجنة.
قال: (ويجار من عذاب القبر، ويأمن الفزع الأكبر) أي: يجيره الله عز وجل من عذاب القبر، ويأمن الفزع الأكبر يوم القيامة، فيفزع الخلق والشهيد لا يفزع.
قال: (ويحلى حلية الإيمان) أي: يحليه الله عز وجل بحلية الإيمان.
قال: (ويزوج من الحور العين، ويشفع في سبعين إنساناً من أقاربه) فهذا هو فضل الشهيد عند الله سبحانه وتعالى، نسأل الله عز وجل أن يبلغنا منزلته.
أيضاً مما جاء في فضل الشهادة في سبيل الله ما رواه النسائي عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يا رسول الله! ما بال المؤمنين يفتنون في قبورهم إلا الشهيد؟ فقال صلى الله عليه وسلم: كفى ببارقة السيوف على رأسه فتنة) أي: تكفيه الفتن التي كان فيها وهو في القتال، فإن الشيطان كان يحدثه: أن الأعداء سيقتلونك، أو سيضيع مالك، ولن ترجع إلى أهلك، أو سيحصل لك كذا. وهو مع ذلك يقاوم هذا كله، ويقبل غير مدبر، وغير راجع عن أمر الله تبارك وتعالى، هذا فيما لو قتل في المعركة، أما لو أن إنساناً قاتل في سبيل الله ولم يصبه ذلك ورجع فمات على فراشه فقد جاء في ذلك حديث جميل عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو في صحيح مسلم عن سهل بن حنيف قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من سأل الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه). أي: أن الإنسان الذي يسأل الله عز وجل الشهادة وهو صادق فيها، وليس مجرد مظهر أمام الناس، ويسأل الله دائماً بأن يجعله شهيداً وأن يرزقه إياها، ويصدق ذلك في قلبه، ويرجو هذه المنزلة العظيمة، فهذا يبلغه الله عز وجل منازل الشهداء حتى ولو مات على فراشه.
فإن فضل الله عز وجل عظيم، فالإنسان الذي يتمنى الشهادة ويحاول أن يصل إليها ولا يصلها فإن الله بفضله يوصله وإذا أراد الإنسان أن يتصدق بصدقة ثم وجد أنه محتاج لهذا المال فإنه يؤجر عليها صدقة كاملة، فإذا أمضاها ودفعها فإنها تضاعف له إلى عشر حسنات، وإلى ما يشاء الله من فضله.
ولو حدث نفسه بمعصية ثم استغفر الله منها، فإنه تكتب له حسنة إذا امتنع عنها من خوف الله تبارك وتعالى.
فهذا هو فضل الله يوصل الإنسان بنيته وبخوفه منه إلى مرتبة عظيمة، وإلى أجر كريم منه سبحانه. ولذلك من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه.
أي: أن القتيل الذي يقتل في سبيل الله هذا شهيد، والإنسان الذي أراد الجهاد ولكن لم يتمكن من الجهاد فمات وهو مع الجنود فلم يقتله الأعداء وإنما مات موتاً فهو شهيد.
أيضاً قال: (ومن مات في الطاعون فهو شهيد) يعني: إذا وقع وباء على بلد فمات فيها الناس بالطاعون -مثلاً: بالكوليرا- أو بغير ذلك من الأوبئة التي تأتي على الناس فيموتون فهم أيضاً شهداء.
قال: (ومن مات في البطن فهو شهيد)، فمن مات بداء البطن -أي: بداء استسقاء- كأن يمرض ويتضخم بطنه ويظل على ذلك إلى أن يموت فهو شهيد.
قال: (والغريق شهيد)، أي: أن الذي يموت في البحر غريقاً فهذا أيضاً شهيد.
وكذلك جاءت أحاديث أخرى عنه صلى الله عليه وسلم في هذا المعنى، فعن عائشة رضي الله عنها أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الطاعون؟ فأخبرها صلى الله عليه وسلم: (أنه كان عذاباً يبعثه الله عز وجل على من يشاء فجعله رحمة للمؤمنين).
فكان الطاعون عذاباً على الأمم السابقة، أما على المؤمنين فجعله الله عز وجل رحمة لهم، قال: (فليس من عبد يقع الطاعون فيمكث في بلده صابراً يعلم أنه لن يصيبه إلا ما كتبه الله له إلا كان له مثل أجر الشهيد). وكل ما كان من مرض فيه وباء فكذلك، فإذا صبر الإنسان في مكانه إلى أن يقضي الله عز وجل أمره فهذا إن مات فيه فهو شهيد.
وقال صلى الله عليه وسلم -كما في الحديث الذي في مسند الإمام أحمد- : (يأتي الشهداء والمتوفون بالطاعون يوم القيامة، فيقول أصحاب الطاعون: نحن شهداء، نحن شهداء، فيقال: انظروا! فإذا كانت جراحهم كجراح الشهداء تسيل دماً وريحهم ريح المسك فهم شهداء، فيجدونهم كذلك). فهذا الإنسان المطعون -أي: الميت بالطاعون- يأتي يوم القيامة كالشهيد ينزف دماً، اللون لون الدم والريح ريح المسك، يأتي على هذه الهيئة، فيكون مع الشهيد.
وكذلك ما رواه النسائي عن عبد الله بن يسار قال: كنت جالساً وسليمان بن صرد وخالد بن عرفطة فذكروا أن رجلاً توفي ببطنه، -يعني: بداء الاستسقاء أو داء الكبد أو داء البطن- فإذا هما يشتهيان أن يكونا شهداء جنازته؛ لأن الإنسان الصالح الذي وفاته فيها كرامة من الله عز وجل يستحب حضور جنازته، فهؤلاء أحبوا أن يحضروا جنازة هذا.
فقال أحدهم للآخر: ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من يقتله بطنه فلن يعذب في قبره)؟ وهذا فيه بشارة للإنسان الذي يمرض بمرض من الأمراض الباطنة، -أي: التي تأتي له في بطنه فينتفخ بطنه ويتألم حتى يموت على ذلك، فهذا لا يعذب في قبره كما جاء في هذا الحديث. فقال الآخر: بلى. وفي رواية: صدقت. فهذا من علامات حسن الخاتمة أيضاً، أي: أن الإنسان يموت بداء البطن.
أيضاً الموت بالغرق والموت بالهدم جاءت فيه أحاديث، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الشهداء خمسة: المطعون -يعني: الميت في الطاعون- والمبطون، -الميت بداء البطن- والغرق، -الميت غريقاً- وصاحب الهدم -يعني: الإنسان إذا انهدم عليه البيت فهذا أيضاً شهيد- والشهيد في سبيل الله) فهؤلاء من الشهداء.
وكذلك ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن المرأة التي تقتل في الولادة شهيدة فقال: (والمرأة يقتلها ولدها جمعا شهيدة) أي: المرأة إذا ماتت في أثناء الولادة فهي شهيدة، وفي رواية: (يجرها ولدها بسررها -يعني: إلى الجنة) أي: أن ابنها هذا المولود يجي فيأخذها بسررها إذا مات معها إلى الجنة. فهذه من الشهادة أيضاً.
كذلك الإنسان الذي يحرق في النار فهو ممن يأخذ أجر الشهادة عند الله.
كذلك الموت بذات الجنب، وقد ذكروا أنه مرض يكون في أضلاع الإنسان كأنه خراريج داخلية في أضلاعه، فهو كالورم يعرض في الغشاء المبطن لأضلاع صدر الإنسان فيموت بسببه.
كذلك الموت بالسل، فقد جاء في الحديث: (القتل في سبيل الله شهادة، والنفساء شهادة، والحرق شهادة، والغرق شهادة، والسل شهادة، والبطن شهادة).
كذلك الإنسان الذي يدافع عن ماله وعن عرضه فيقتل في ذلك فقد نص النبي صلى الله عليه وسلم أنه شهيد.
نسأل الله عز وجل أن يرزقنا أجر الشهداء وأن يجعلنا معهم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر