اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الإمام النووي رحمه الله: [ باب تحريم لباس الحرير على الرجال، وتحريم جلوسهم عليه، واستنادهم إليه، وجواز لبسه للنساء.
عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تلبسوا الحرير؛ فإن من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة) متفق عليه.
وعنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إنما يلبس الحرير من لا خلاق له) متفق عليه.
وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة) متفق عليه.
وعن علي رضي الله عنه قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ حريراً فجعله في يمينه، وذهباً فجعله في شماله، ثم قال: إن هذين حرام على ذكور أمتي) ].
هذه أحاديث يذكرها الإمام النووي رحمه الله في كتابه رياض الصالحين في باب تحريم لباس الحرير على الرجال، وتحريم جلوسهم عليه، واستنادهم إليه، وجواز لبسه للنساء.
إذاً: ما أباحه الله عز وجل واستمتع به المؤمن في الدنيا من نعم فهي خالصة له، وهي حلال له، ويوم القيامة لا يحاسب عليها، ولن يقال له: لم لبست كذا وقد أباحها الله عز وجل؟ ولكن حرم أشياء على العباد إما لكونها لا تليق بهم أن يلبسوها، أو لخبثها ونجاستها فهي لا تلبس.
أما الذي حرم وليس مستقذراً أو نجساً كالحرير فقد حرمه الله سبحانه على الرجال، وحرم مثله الذهب لحكمة منه سبحانه، وجعله ابتلاء يبتلي به العباد، وإن هذه محرمة عليكم في الدنيا وسوف تلبسوها في الجنة، فإذا لبستموها الآن في الدنيا فيحرم عليكم أن تلبسوها في الجنة، والجنة لا يحرم الله عز وجل على أهلها شيئاً فيها، إذاً: فسوف يحرم من دخول الجنة من لبسه في الدنيا؛ لكونهم فعلوا ما حرم الله سبحانه تبارك وتعالى عليهم.
فأباح الذهب والحرير للنساء، وحرم الذهب والحرير على الرجال لحكمة منه سبحانه تبارك وتعالى.
وأما إذا انسلخ الإنسان من جلده فصار يلبس لبسة المرأة فلا، وما الذي يجعل الرجل يلبس لبسة المرأة؟ ما هو إلا شيء باطن في داخله من اعتراض على الله سبحانه، أو فاحشة موجودة بداخل هذا الإنسان يريد أن يواقعها، فربنا جعل للرجال لباساً، وللنساء لباساً، جعل للرجال زينة وللنساء زينة، وحرم خلط الأمرين معاً، فلعن المرأة تلبس لبسة الرجل، ولعن الرجل يلبس لبسة المرأة، لعن المرأة المترجلة التي تلبس مثل الرجل، وتمشي مشية الرجل، ولعن الرجل المخنث الذي يلبس لبسة المرأة، ويمشي مشية المرأة.
الفواحش إنما دخلت على أهل الفواحش؛ لأن النساء تتزين بزينة الرجال، فإذا بالمرأة تستغني بالمرأة عن الرجل، والرجال يتخنثون، فإذا بالشرور والفواحش توجد بين الرجل والرجل والعياذ بالله.
أما المجتمع المسلم فمن المفروض أنه مجتمع طاهر نقي تقي، يعرف العبد فيه حدود الله عز وجل، فلا يقع فيما حرم الله، ولا يتجاوز ما أحل الله سبحانه تبارك وتعالى.
وهذه البدايات: أن ينتهكوا المحارم فيواقعوها شيئاً فشيئاً حتى يواقعوا كل ما حرم الله سبحانه تبارك وتعالى.
كذلك الذهب مثل الحرير قال: (إنما يلبس الحرير من لا خلاق له) الخلاق: بمعنى: النصيب والحظ، والمعنى: أن هذا لا حظ له في الجنة، ومحروم من دخولها الذي يلبس الحرير في الدنيا، أو يجلس على الحرير، أو يتكئ على الحرير، كله واحد ممنوع منه.
إذاً: يلبس الحرير في الدنيا من الرجال من لا خلاق له في الآخرة، يعني: من لا نصيب له في الآخرة، وليس له حظ في الجنة، وإنما حظه في النار والعياذ بالله.
كذلك في حديث علي بن أبي طالب قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ حريراً فجعله في يمينه، وذهباً فجعله في شماله، ثم قال: إن هذين حرام على ذكور أمتي) وهذا الحديث صحيح، ذكر الإمام النووي أنه رواه أبو داود بإسناد حسن، وصححه الشيخ الألباني في صحيح أبي داود .
الحديث فيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن هذين -الذهب والحرير- حرام على ذكور أمتي)، فدل الحديث على أنهما حل للإناث.
وفي حديث لـأبي موسى الأشعري رواه الترمذي وقال: حسن صحيح قال: (حرم لباس الحرير والذهب على ذكور أمتي، وأحل لإناثهم) هذا الحديث الصحيح نص أن الحرير والذهب حل للإناث حرام على الذكور.
إذاً: المرأة لها أن تلبس الحرير والذهب، والرجل يحرم عليه لبس الحرير والذهب.
وعن حذيفة رضي الله عنه قال: (نهانا النبي صلى الله عليه وسلم أن نشرب في آنية والذهب والفضة، وأن نأكل فيها، وعن لبس الحرير والديباج، وأن نجلس عليه) .
الجلوس أو الاتكاء على الحرير أو الديباج -وهو نوع من أنواع الحرير- لا يجوز، سواء تبطن به أو تجعله ظاهراً على الفرش مثلاً ونحو ذلك، فلا يجوز لك أن تلبس أو تجلس على الحرير، ولا أن تلبس الذهب، ولا أن تستعمله في أكل أو شرب ونحو ذلك.
قال النووي : [ باب جواز لبس الحرير لمن به حكة ]، والحكة: المرض الجلدي، مأخوذ من الاحتكاك، وغالباً ما يطلق على مرض الجرب.
هذا الشيء الوحيد الذي ممكن أن يلبسه ويكون خفيفاً على الجلد، ولا يسخن جلد الإنسان، وكانوا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم الدواء صعب لمن عنده جرب، فرخص النبي صلى الله عليه وسلم مع هذه الضرورة في لبس الحرير.
في الصحيحين عن أنس رضي الله عنه قال: (رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم
هذا ما جاء في باب الرخصة، ولا يؤخذ به في عموم الأحوال، ولكن يؤخذ به في وقت الاحتياج فقط.
كذلك الذهب يرخص فيه لاستبدال عضو من الأعضاء كعظم من العظام كالمفاصل ونحوها، ولذلك جاء في حديث عرفجة أنه قطعت أنفه في يوم كلاب -حرب من الحروب الجاهلية- فاتخذ أنفاً من فضة فأنتنت عليه، يعني: كأن عظام أنفه اقتطعت أو أنفه كلها قطعت، فوضعوا له فضة بدلاً عنها فأنتنت عليه وما نفعته، فاستبدلها بذهب وأقره النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك.
ففيه أنه قد يستخدم الذهب في عظم الإنسان يستبدل به إذا كان يصلح في ذلك كمفصل ونحوه، أو كالأسنان، وكان الصحابة يشدون أسنانهم بالذهب رضي الله تبارك وتعالى عنهم، ويرون أن هذا من باب التطبب، وأنهم يحتاجون إلى ذلك طباً، فهذا جائز ولا شيء فيه، أما من يلبسه على وجه الزينة فهو غير جائز.
إذاً: منعنا النبي صلى الله عليه وسلم من الذهب والحرير للرجال، كما أنه نهى صلى الله عليه وسلم عن جلود السباع، وقد اختلف الفقهاء فيما يطهر منها، فذهبوا إلى أن المأكول من بهيمة الأنعام يجوز أنك إذا ذبحتها أن تأخذ جلدها وتدبغه وتلبسه وتفترشه.
وإذا ماتت بهيمة الأنعام فأيضاً الجمهور على الجواز، لما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (هلا أخذتم إيهابها فدبغتموه. فقالوا: إنما هي ميتة، قال: إنما حرم لحمها).
إذاً: جلود الأنعام التي ماتت كالبعير والبقرة والغنمة يجوز أن تؤخذ وتسلخ وتدبغ وينتفع بها، لكن إذا كانت سباعاً فهذا غير جائز، لعله إذا ذبحه يأتي أناس يأكلوه، فيستحلون ما حرم الله عز وجل، فمنعنا ابتداءً من ذلك، لا جلد السبع وهو مذبوح ولا وهو غير مذبوح.
وهل جلد السبع نجس أم لا؟ لا شك أنه إذا كان ميتة أو مأخوذ منه سواء ذبح أم لم يذبح فهو نجس، ولكن قد يدخل في عموم حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (أيما إيهاب دبغ فقد طهر)، ففرق بين أنه دبغ وطهر، وبين أن يأخذه الإنسان فيستعمله، هذا الذي منع منه النبي صلوات الله وسلامه عليه.
ففي حديث معاوية الذي رواه الإمام أبو داود بإسناد حسن، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تركبوا الخز ولا النمار) الخز: الصوف أو الوبر المختلط بالحرير، يعني: مثل شعر البعير أو الأرانب ونحوه فلا شيء فيه وهو جائز، ولكن كأنه غالب في حالهم أنهم كانوا يخلطونه بالحرير، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك إذا كان الخز مخلوطاً بالحرير، بحيث يظهر أنه كله حرير، أو أنه واضح الحرير الذي فيه، فهذا ممنوع منه.
وفي حديث أبي المليح : (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن جلود السباع)، ليس النمر فقط بل كل السباع، ويطلق السبع على كل من عدا بنابه وقتل به وعقر، مثل الكلب والأسد والنمر وكل شيء من السباع الذي يأكل الحيوان ويعقر بنابه، هذا سبع فنهانا النبي صلى الله عليه وسلم عن افتراش جلودها.
وفي النهي عن علة أكلها يقول العلماء: إن أكل هذه الأشياء تجعل الإنسان يتطبع بطبيعته ويصبح مثل الوحش يأكل لحوم الأسد أو النمر، أو الكلاب، وتصير أخلاق الإنسان مثله، ولذلك ترى الأسد في حديقة الحيوان عندما توضع له قطعة اللحم يأكلها وكأنه يفترس فريسة! فهذه طبيعة فيه، كذلك الذي يأكل من لحومها يصير كهيئتها في الطبيعة الوحشية، فيأكل اللحوم ولا يهتم، في النهاية ممكن يأكل الإنسان لحم البشر ولا يهتم لذلك.
فلذلك قال من يتكلم عن هذه الأشياء من العلماء: إن أكل لحوم هذه الوحوش تعطي الإنسان طبيعة الوحش نفسه، فلا يمنع أن يكون استخدام جلود هذه الأشياء يطبع الإنسان بهذه الطبيعة التي عليها، فنهانا النبي صلى الله عليه وسلم أن نفترش جلود النمار، أو جلود السباع.
عندما ينعم الله على العبد بنعمة من نعمه سبحانه ويكسوه ثوباً أو حذاءه ماذا يقول العبد؟ روى أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن، وصححه الشيخ الألباني ، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استجد ثوباً) إذا لبس ثوباً جديداً صلى الله عليه وسلم (سماه باسمه) هذا قميص.. هذه عمامة.. هذا نعل (سماه باسمه -عمامة أو قميصاً أو رداء- يقول: اللهم لك الحمد أنت كسوتنيه)، ولعله سماه باسمه هنا في قوله: كسوتنيه يعني: يقول: اللهم لك الحمد أنت كسوتني هذا القميص، أنت كسوتني هذا الرداء، أنت كسوتني هذا الإزار، فيسميه باسمه: (أسألك خيره وخير ما صنع له)، هذا الدعاء الطيب الجميل من النبي صلى الله عليه وسلم يعلم المؤمن أن يشكر نعمة الله سبحانه تبارك وتعالى، ولا يحتقر نعمة الله عليه، فيشكر الله بخصوص هذه النعمة التي أنعمت عليه، أعطيتني هذا القميص، هذا البنطلون، فتذكر الشيء باسمه وأن الله أنعم به عليك سبحانه تبارك وتعالى.
قال: (أسألك خيره) يعني: خير هذا الثوب، الثوب فيه خير وفيه شر، خير الثوب: أن تلبسه ويكون واسعاً عليك فضفاضاً يكسوك ويستر عورتك ويقيك الحر ويقيك البرد. هذا من خير الثوب.
وشر الثوب: أن يكون على الإنسان ضيقاً، يدعو الإنسان للخيلاء فيستكبر على الخلق ويرى أنه أفضل منهم، وأنه أحسن منهم بهذا الثوب، أو بهذا النعل الذي لبسه.
(أسألك خيره وخير ما صنع له) مصنوع لماذا؟ لأني ألبسه أتدفأ به أم أفتخر به على الناس؟ (وأعوذ بك من شره) شر الثوب ما فيه إذا كان ضيقاً أو يؤذيه أو لباس شهرة أو لباساً محرماً (وشر ما صنع له) أي: صنع من أجله للخيلاء والغرور أو للكيد للناس، أو لإظهار المفاتن والعورات، فيتعوذ بالله من شر ما صنع له هذا الثوب.
فينبغي على المسلم إذا وهبه الله ورزقه رزقاً أن يحمد الله سبحانه تبارك وتعالى ويشكره، قال سبحانه: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ [إبراهيم:7]، ووعد من الله سبحانه تبارك وتعالى أنك كلما شكرت زادك الله سبحانه ولم يحرمك: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ [إبراهيم:7]، فإذا كفر العبد بالله سبحانه أو جحد النعمة نزعها منه، كمن يقال له: احمد الله وتذكر نعمه عليك، فيقول: لماذا فلان يلبس كذا؟ كأنه يستكثر نعمة الله سبحانه عليه؟ ولا يعرف الحق لصاحبه سبحانه تبارك وتعالى، فهذا يجحد نعمة الله، ويستحق عذاب الله، لذلك مهما أنعم الله عز وجل عليك من نعمة، قد رأيتها في الماضي كبيرة أو صغيرة كل نعم الله عز وجل على عبده كبيرة، والعبد قد يعرف الفضل في هذا الشيء وقد لا يعرفه، ولكن الله يعلم سبحانه تبارك وتعالى، فاشكر الله سبحانه واحمده على ما آتاك من نعمة، فبذلك تدوم عليك النعمة بحمدك وشكرك لله سبحانه، ويعطيك خيراً منها.
نسأل الله من فضله ورحمته؛ فإنه لا يملك ذلك إلا هو.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم على محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر