إسلام ويب

الصوتيات

  1. الصوتيات
  2. علماء ودعاة
  3. محاضرات مفرغة
  4. أحمد حطيبة
  5. شرح رياض الصالحين
  6. شرح رياض الصالحين - من (كراهة الشرب من فم القربة ونحوها) إلى (النهي عن الشرب في آنية الذهب والفضة)

شرح رياض الصالحين - من (كراهة الشرب من فم القربة ونحوها) إلى (النهي عن الشرب في آنية الذهب والفضة)للشيخ : أحمد حطيبة

  •  التفريغ النصي الكامل
  • وضح شرعنا الحنيف جملة من الآداب التي تواجه الفرد المسلم في حياته اليومية، ومنها: آداب الأكل والشرب، والنهي عن الشرب من فم القربة ونحوها، والنهي عن النفخ في الشرب؛ حتى لا يؤذي الإنسان غيره بنفسه، ومنها: الجلوس أثناء الشرب والأكل، وعدم استخدام أواني الذهب والفضة فيهما.

    1.   

    حكم الشرب من فم القربة ونحوها

    الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

    اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.

    قال الإمام النووي رحمه الله: [ باب كراهة الشرب من فم القربة ونحوها، وبيان أنه كراهة تنزيه لا تحريم.

    عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اختناث الأسقية يعني: أن تكسر أفواهها، ويشرب منها) متفق عليه.

    وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يشرب من فيّ السقاء أو القربة) متفق عليه.

    وعن أم ثابت كبشة بنت ثابت أخت حسان بن ثابت رضي الله عنه وعنها قالت: (دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فشرب من في قربة معلقة قائمة، فقمت إلى فيها فقطعته) رواه الترمذي ، وقال: حسن صحيح ].

    هذا باب يذكره الإمام النووي من أبواب الآداب في الطعام والشراب، وذكر هنا كراهة الشرب من فم القربة ونحوها، والقربة سقاء يكون من جلد، يملؤه صاحبه بماء كثير، وقد تكفي القربة أياماً يشرب منها.

    فلو أن الناس تعودوا على الشرب من فم القربة وهي ستمكث معهم أياماً فإن رائحة النفس ستكون بداخلها مما يؤذي بعضهم بعضاً بذلك.

    فنهانا النبي صلى الله عليه وسلم من هذا الأمر، وأرشد إلى إفراغ الماء المطلوب من القربة على شيء آخر ثم الشرب من هذا الشيء الآخر. ويمكن أن تكون هناك حكمة أخرى وهي أن الشارب من في السقاء يمكن أن يؤذي نفسه بأن يرفع السقاء وهو كبير إلى فيه فينزل الماء متدفقاً على وجهه وفيه وأنفه مما يؤدي به إلى أن يغص نفسه بالماء، فينهاك الشارع لهذه العلة أيضاً.

    أمر آخر وهو أن أحد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم شرب من فم القربة فنزلت حية إلى فمه، وكأن القربة ما كانت مربوطة بإحكام مما أدى إلى دخول الحية فيها، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن الشرب من فم القربة.

    وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اختناث الأسقية)، الأسقية: جمع سقاء، وهي القرب والأوعية التي يوضع فيها الماء، وتكون متخذة من الجلد غالباً.

    ومعنى: (اختناث الأسقية) أي: أن تكسر أفواهها ويشرب منها. وهذا الحكم يجري كذلك في كل إناء كبير يوضع فيه الماء.

    واكتشف حديثاً في الأبحاث الطبية أن على فم الإنسان آلاف بل ملايين من أنواع الجراثيم، فلو أن إنساناً فيه مرض معين في فمه، أو معدته، أو أمعائه، ثم صعد ميكروب إلى فمه، فلعله إن شرب من في السقاء ينزل الميكروب في هذا فيؤذي غيره، ولعله يكون حاملاً للمرض فقط، وما يكون هذا الإنسان مريضاً به، فعندما يشرب من فم القربة ينتقل هذا المرض لغيره، مما يؤدي إلى إيذاء أناس كثيرين بهذا الشيء؛ فلذلك النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك.

    ولكن قد يحتاج الإنسان إلى الشرب من فم السقاء، أو قد يكون الماء في القربة قليلاً فيشربه كاملاً من فم القربة، فعند ذلك لا بأس بهذا الأمر، ولذلك فعلها النبي صلى الله عليه وسلم مرة.

    وقول أبي هريرة : (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يشرب من في السقاء) أي: من فم السقاء، فكلمة في بمعنى: فم. وقوله: (من في السقاء أو القربة) القربة هي السقاء.

    1.   

    كراهة الشرب من فم القربة وكراهة الشرب قائماً

    عن أم ثابت واسمها كبشة بنت ثابت أخت حسان بن ثابت ، شاعر النبي صلى الله عليه وسلم قالت: (دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فشرب من في قربة معلقة قائماً)، وهذه الصحابية بينت أن النبي صلى الله عليه وسلم شرب من فم القربة وكأن القربة، كان فيها ماء قليل فشرب النبي صلى الله عليه وسلم منها، أو ليبين أن النهي عن ذلك مع عدم الحاجة إليه، ومع الحاجة إليه إنما هو للتنزيه لا للتحريم.

    ولذلك الإمام النووي قال تفقهاً: بيان أنه كراهة تنزيه لا تحريم، يعني: المنع بقولنا: نهى النبي صلى الله عليه وسلم، الأصل فيه أنه على التحريم، لكن كونه نهى عنه وفعله صلى الله عليه وسلم دل على صرف هذا النهي من التحريم إلى الكراهة فقط.

    وهنا شرب النبي صلى الله عليه وسلم من فم القربة وهو قائم عليه الصلاة والسلام.

    فدل على أن الأحاديث التي جاءت في النهي عن الشرب من فم السقاء إنما هي للكراهة فقط، ومثله النهي عن الشرب قائماً فهو للكراهة أيضاً.

    قالت: (فقمت إلى فيها فقطعته) وهي إنما فعلت ذلك لأن أثر فم النبي صلى الله عليه وسلم كان على تلك القربة، فهي تريد أن تحتفظ بهذا الشيء لنفسها فقط، فقطعت فم القربة حتى يبقى أثر النبي صلى الله عليه وسلم معها فتشرب منه كلما أرادت الشرب، ولتحظى من ذلك ببركة من أثر النبي صلى الله عليه وسلم، وذكرنا قبل ذلك أنه يجوز التبرك بآثار النبي صلوات الله وسلامه عليه، والراجح في ذلك أنه لا يلحق به غيره، فلا يقاس على النبي صلى الله عليه وسلم غيره في ذلك.

    يقول النووي رحمه الله: [ إنما قطعتها لتحفظ موضع فم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتتبرك بها، وتصونه عن الابتذال ] يعني: أن تصون هذا الموضع من احتمال وقوعه على الأرض ووطئه بالأقدام، وهذا نوع من أنواع إكرامها للنبي صلى الله عليه وسلم.

    يقول النووي رحمه الله: [ هذا الحديث محمول على بيان الجواز ] أي: محمول على بيان جواز الشرب من فم القربة إن احتاج إلى ذلك، أو الشرب قائماً إن احتاج إلى ذلك.

    1.   

    حكم النفخ في الشراب

    ذكر المصنف باب كراهة النفخ في الشراب، سواء كان الإنسان وحده أم مع جماعة؛ وذلك حتى لا يعتاد الشخص على النفخ، فإن كان الشراب ساخناً فإنه ينتظر برده ثم يشربه.

    عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن النفخ في الشراب، فقال رجل: القذاة أراها في الإناء) أي: يريد الشخص أن يستفسر عن حكم النفخ عند وجود علة أو ضرورة على الإناء، كأن تكون عليه عشبة أو قذى معين، فهنا يرشده النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى عدم النفخ حتى لو أدى الأمر إلى صب الشراب كاملاً، ولذلك قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (أهرقها) أي: أرقها وصبها.

    والقصد من ذلك الخوف على الإنسان من أن يعتاد على النفخ في الإناء، فينفخ فيه وهو بحضرة جماعة فيؤدي إلى تأذيهم من هذا العمل واستقذارهم له، فيتركون الأكل والشرب لذلك، فيكون بهذا قد أدى إلى الإضرار بالناس؛ ولهذا نهي عن هذا العمل.

    يسأل الرجل النبي صلى الله عليه وسلم مرة أخرى فيقول: (إني لا أروى من نفس واحد)، يريد بذلك أن يتعلل للتنفس في الإناء، وكأنه يقول: إني إذا شربت من الإناء لا أستطيع أن أشرب بنفس واحد، بل أحتاج إلى التنفس في الإناء، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (فأبن القدح إذاً عن فيك) أي: إذا أردت أن تتنفس فأبعد القدح عن فمك، وهذا محمول على الشرب الكثير، وإلا فمن الممكن أن يشرب الإنسان ماءً قليلاً ولا يحتاج معه إلى التنفس.

    وعن ابن عباس رضي الله عنهما (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يتنفس في الإناء أو أن ينفخ فيه)، وهذا الحديث راجع إلى نفس المعاني السابقة، من النهي عن التنفس في الإناء أو النفخ فيه في كل حالة من الأحوال.

    1.   

    حكم الشرب والأكل قائماً

    ذكر المؤلف باب جواز الشرب قائماً، وبيان أن الأكمل والأفضل الشرب قاعداً.

    قد مر حديث سابق معنا في جواز الشرب قائماً وهو حديث أم ثابت حيث ذكرت (أن النبي صلى الله عليه وسلم شرب عندها وهو قائم عليه الصلاة والسلام).

    وهنا حديث لـابن عباس رضي الله عنهما قال: (سقيت النبي صلى الله عليه وسلم من زمزم فشرب وهو قائم) عليه الصلاة والسلام.

    وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء عند بئر زمزم وشرب وهو قائم عليه الصلاة والسلام مما يدل على الجواز؛ لأنه لن يفعل الشيء المحرم عليه الصلاة والسلام.

    وحديث آخر للنزال بن سبرة رضي الله عنه قال: (أتى علي رضي الله عنه باب الرحبة فشرب قائماً)، والرحبة: موضع في الكوفة.

    فـعلي بن أبي طالب لما وجد أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك ليدل على الجواز، شرب هو أيضاً في الكوفة رضي الله عنه، وقال: (إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل كما رأيتموني فعلت)، الحديث في البخاري والذي قبله في الصحيحين.

    وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (كنا نأكل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نمشي، ونشرب ونحن قيام)، الحديث رواه الترمذي ، وإسناده حسن أو قريب من ذلك، وقال الترمذي : حسن صحيح.

    وهذا محمول على الحاجة لا على السبيل العادة لهم؛ إذ لا يعقل أنهم كانوا لا يأكلون إلا وهم ماشون في الطريق، وإنما الأمر محمول على سبيل الحاجة كما قلنا، كأن يكونوا في جهاد، أو استعجال من أمرهم، فيضطرون إلى الأكل وهم يمشون. وقوله: (ونشرب ونحن قيام) يعني: إذا احتجنا إلى ذلك.

    عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يشرب قائماً وقاعداً)، لكن كان أكثر أحواله صلى الله عليه وسلم الشرب قاعداً عليه الصلاة والسلام، والحديث رواه الترمذي وقال: حسن صحيح.

    وقد ذكر المصنف رحمه الله في هذا الباب جملة أحاديث، بعضها في إسناده شيء، لكن يشهد بعضها لبعض أنه شرب وهو قائم.

    وفي حديث لـأنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه (نهى أن يشرب الرجل قائماً)، وهذا نهي منه صلى الله عليه وسلم، وبدأ الإمام النووي بتقديم أحاديث شربه قائماً صلى الله عليه وسلم؛ حتى لا يظن أن النهي على التحريم. فقال هنا: (نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يشرب الرجل قائماً. قال قتادة : فقلنا لـأنس : فالأكل؟ قال: ذلك أشر أو أخبث)، هذا في صحيح مسلم.

    والذي قال ذلك هو أنس بن مالك رضي الله عنه، وأنس هو خادم النبي صلى الله عليه وسلم، وله اختصاص بخدمة النبي صلى الله عليه وسلم ورؤيته صلى الله عليه وسلم كثيراً؛ لأنه خادمه منذ أن قدم النبي المدينة إلى أن توفي صلى الله عليه وسلم، فخدمه وعمره عشر سنوات إلى أن بلغ عمره عشرين سنة وهو يخدم النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة، فهو رأى النبي صلى الله عليه وسلم يجلس عندما يشرب أو يأكل عليه الصلاة والسلام، وهو روى أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الشرب قائماً، فقيل له: والأكل قائماً؟ فقال تفقهاً: (ذاك شر وأخبث)، فهذا من قول أنس وليس من قول النبي صلى الله عليه وسلم. وفي رواية: (زجر -بمعنى نهى- النبي صلى الله عليه وسلم عن الشرب قائماً).

    حديث آخر في صحيح مسلم عن أبي هريرة ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يشربن أحد منكم قائماً، فمن نسي فليستقئ) رواه مسلم .

    وهذا الحديث فيه النهي عن الشرب قائماً، وفيه أيضاً شيء من التعزير وهو أنك إذا نسيت وفعلت هذا الشيء فاستقئ، وليس محمولاً على الوجوب، ولكنه كنوع من التأديب حتى يعود الإنسان نفسه على أدب الشرب قاعداً، وكذلك علماء الطب يقولون: إن الشرب قاعداً أفضل من الشرب قائماً، قالوا: لأن الإنسان إذا شرب قاعداً نزل الشراب من فمه نزولاً خفيفاً هيناً، أما إذا كان قائماً فإنه ينزل متدفقاً ومندفعاً نحو المعدة.

    أضف إلى ذلك أنه إن كان التخيير للإنسان في الشرب قائماً أو قاعداً إلا أنه يقال لك: لا تشرب وأنت واقف. وإن كان الأطباء في الماضي يقولون: يستوي فعل هذا وهذا. وذلك نظير ما كانوا يجهلونه من الطب. ولقد كان يقال سنة ألف وتسعمائة ونيف وخمسين: ليس على الإنسان حرج في جماع المرأة وهي حائض، وإنما النهي عنه موجود في الشرائع السماوية فقط، أما طبياً فليس فيه شيء!

    وهذا دليل على جهلهم، حيث قد نهانا الله عز وجل عن ذلك فقال: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ [البقرة:222].

    وتمر خمسون سنة على هذا الأمر ثم يغير الأطباء قولهم، حيث يكتشفون أن دم الحيض دم متعفن، وأنه مليء بالميكروبات، فلو جامع الرجل امرأته في هذا الحال لتأذى الرجل يقيناً بهذه الميكروبات الموجودة في هذا الدم، حيث تدخل إليه عبر القضيب فضلاً عن أن المرأة تتأذى بهذا الشيء أيضاً؛ لأنها إذا جومعت وقت حيضها وكان منها اندفاع أدى ذلك إلى زيادة في ضغط الدم؛ لأجل أن يخرج هذا منها، فيؤدي إلى طروء التهابات في أعضائها، فتتأذى من الرجل إذا جامعها وهي على هذه الحال.

    وأحياناً تكون هناك بعض الميكروبات موجودة في المرأة وهي ساكنة، وبسبب جماع المرأة تنشط هذه الميكروبات فتؤذي المرأة وتظهر أثرها عليها. فهذه أبحاث جديدة اكتشفوا بعد فترة من جهلهم، فكانوا لا يعرفون شيئاً عنها!

    فالنبي صلى الله عليه وسلم لا يأمرنا بشيء إلا وفيه الخير لنا، ولا ينهانا عن شيء إلا وفيه الشر لنا. ولذلك نهانا النبي صلى الله عليه وسلم عن الشرب قائمين في حالة الاختيار، وأرشدنا إلى جواز ذلك حالة الحاجة والضرورة، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك عند زمزم، وعند أم ثابت حيث شرب وهو قائم صلى الله عليه وسلم. ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يؤدب المسلم ويربيه على ذلك، حتى يعود نفسه عليه. ولقد كان يؤدب أصحابه أحياناً ببعض العقوبات عليهم، ومن ذلك الأمر بإهراق الشراب إذا حل فيه قذى، فهو ليس محمولاً على الوجوب، وإنما هو أمر إرشاد منه وتأديب للرجل.

    ومن ذلك أيضاً وجد أصحابه مرة قد طبخوا القدور وفيها لحم الحمير، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: (أهرقوها واكسروا آنيتكم) أي: صبوا اللحم ومرقه، واكسروا الأواني التي طبختم بها، (قالوا: أو نغسلها؟ قال: اغسلوها).

    فنلاحظ هنا أن الأمر الأول بكسر هذه الآنية محمول على الإرشاد والتأديب لهم، وإلا فلو كان أمراً واجباً لأصر على ذلك، ولكنه أراد تأديب أصحابه فعمد إلى هذه العقوبة التعزيرية.

    1.   

    ما يستحب لساقي القوم

    يقول أبو قتادة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: (ساقي القوم آخرهم شرباً) وكان يفعل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، إذ كانوا يأتونه بلبن صلى الله عليه وسلم فيعطي أصحابه إلى أن يشرب الجميع، ثم يبقى الفضل فيشرب هو صلوات الله وسلامه عليه منها.

    فعلى الإنسان أن يعود نفسه على الشرب آخر الناس إن كان هو ساقيهم؛ وذلك حتى لا يساء فيه الظن ويتهم بالطمع، وحتى لا يؤدي ذلك إلى جشعه أيضاً، بأن يشرب في أول أمره مرة فإذا اعتاد شرب مرات ومرات، فتتكون لديه صفة الجشع والطمع، وهذا هو الأدب الذي يسميه غير المسلمين (الإتيكيت)، وهو أدب قد سبقهم الإسلام إليه قبل مئات السنين.

    1.   

    ما يجوز استعماله من الأواني وما يحرم

    ذكر المصنف باب جواز الشرب من جميع الأواني الطاهرة غير الذهب والفضة، وجواز الكرع: وهو الشرب بالفم من النهر وغيره، بغير إناء ولا يد، وتحريم استعمال إناء الذهب والفضة في الشرب والأكل والطهارة وسائر وجوه الاستعمال.

    جاء في الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه قال: (حضرت الصلاة فقام من كان قريب الدار إلى أهله، وبقي قوم، فأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بمخضب من حجارة)، فالناس كانوا موجودين مع النبي صلى الله عليه وسلم، ولما حضرت الصلاة قام من كان قريب الدار إلى أهله ليتوضأ، إذ لم تكن لديهم في ذاك الزمان دورات للمياه، بل كان الصحابة يجلسون مع النبي صلى الله عليه وسلم ليعلمهم ويؤدبهم عليه الصلاة والسلام، فلما قرب وقت الصلاة، قاموا من عنده صلى الله عليه وآله وسلم ليتوضئوا، ثم يرجعون للصلاة مع النبي صلى الله عليه وسلم.

    وبقي قوم معه صلى الله عليه وسلم (فأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بمخضب من حجارة)، والمخضب يطلق على الإناء المصنوع من الحجر، فأوانيهم كانت تصنع إما من الحجر أو النحاس ونحو ذلك.

    قال: (فصغر المخضب أن يبسط فيه كفه) عليه الصلاة والسلام، والمعنى: أنهم أتوا له بإناء من حجر صغير الحجم، عجزت كف النبي صلى الله عليه وسلم أن تدخل فيه. قال: (صغر المخضب أن يبسط فيه كفه، فتوضأ القوم كلهم)، وهذا بركة من بركات النبي صلوات الله وسلامه عليه، حيث كان القاعدون معه صلى الله عليه وسلم يريدون أن يتوضئوا من ذلك الإناء، والإناء صغير لا يكفي لأكثر من واحد، ومع ذلك توضئوا منه جميعهم. قال: (قالوا: كم كنتم؟) يسألون أنس: (كم كنتم؟ قال: ثمانين وزيادة) أي: كانوا ثمانين رجل توضئوا من إناء لا يكفي إلا أن يتوضأ منه واحد، وهذه بركة من بركات ربنا سبحانه جعلها في وضوء النبي صلى الله عليه وسلم وإنائه. والشاهد من الحديث: أنه يجوز الوضوء في أي إناء من الأواني: كما يجوز استعماله في الأكل أو الشرب إلا أن يكون من ذهب أو فضة فذلك ممنوع.

    وفي رواية له ولـمسلم (أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا بإناء من ماء، فأتي بقدح رحراح فيه شيء من ماء)، أي: قدح متوسط، ليس بالكبير ولا بالصغير، ولكن فيه ماء قليل.

    وذكر في الحديث السابق أنه لا يكفي النبي صلى الله عليه وسلم أن يضع فيه كفه ويبسطها فيه عليه الصلاة والسلام. قال في رواية مسلم هنا: (فيه شيء من ماء، فوضع أصابعه فيه. قال أنس: فجعلت أنظر إلى الماء ينبع من بين أصابعه) عليه الصلاة والسلام، وليست بأول بركاته، بل بركاته عظيمة عليه الصلاة والسلام، وآيات معجزاته التي جعلها الله عز وجل له ومعه آيات عظيمة جداً عليه الصلاة والسلام.

    قال: (فحزرت من توضأ؟) أي: خمنت عدد المتوضئين منه (ما بين السبعين إلى الثمانين).

    حديث آخر في صحيح البخاري عن عبد الله بن زيد رضي الله عنه، قال: (أتانا النبي صلى الله عليه وسلم فأخرجنا له ماءً في تور من صفر فتوضأ)، أي: أخرجوا له إناء من صفر أي: من نحاس، فتوضأ منه صلى الله عليه وسلم، وهذا يدل على جواز الوضوء من الأواني الطاهرة، والأكل والشرب فيها، إلا أواني الذهب والفضة.

    1.   

    بيان حكم الكرع ومعناه

    روى البخاري عن جابر رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على رجل من الأنصار ومعه صاحب له، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن كان عندك ماء بات هذه الليلة في شنة وإلا كرعنا) رواه البخاري .

    والشنة: هي القربة، والمعنى: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يحب أن يكون الماء بايتاً في القربة، ومعلوم أنك إن ملأت قربة من الماء وتركتها إلى أن تبيت، فإن كان الماء متعكراً بالتراب فسيصفى وينقى، حيث ينزل التراب إلى أسفل القربة، أما إذا ملئت القربة قريباً ولم يبت الماء فيها فسيبقى فيها أثر التعكر بالتراب، وهذا هو مقصد النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

    وقوله: (وإلا كرعنا)، وهذه وإن كان ليست عادة النبي صلى الله عليه وسلم إلا كأن ذلك كان مراعاة للحال، حيث لم يجد عند الرجل شيئاً أمامه، وكأنه وجد ماء في إناء كبير ومرتفع، ولم يجد كيزاناً ليشرب، ولعل يده كانت متسخة أو فيها قذى معين، فيلجأ إلى الكرع: وهو أخذ الماء بفمه من ذلك الإناء. ويحتمل أن يكون قال ذلك تواضعاً منه صلى الله عليه وآله وسلم، وكأنه يقول لصاحب الدار: إنا لن نثقل عليك، ولن نكلفك بأن تشتري لنا كيزاناً، أو تأتي بها من جيرانك، بل إذا لزم الأمر سنكرع من هذا الإناء كرعاً، وفيه دلالة على أدب النبي صلى الله عليه وسلم وتواضعه الجم.

    1.   

    حكم استعمال الحرير والديباج والذهب والفضة

    عن حذيفة رضي الله عنه قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم نهانا عن الحرير والديباج، والشرب في آنية الذهب والفضة وقال: (هي لهم في الدنيا، وهي لكم في الآخرة) متفق عليه. والحرير: هو ما كان ثوباً خالصاً من حرير، فإن كان الحرير رقيقاً سمي بالسندس، وإن كان غليظاً سمي بالإستبرق، وقد يكون مخلوطاً بغيره فيسمى بالديباج، وذلك كأن يكون الثوب الحرير فيه بعض الصوف، إلا أن الغالب عليه أنه حرير. فالنبي صلى الله عليه وسلم نهى الرجل أن يلبس ثوباً خالصاً من حرير، أو ثوباً أكثره حرير. ويجوز أن تكون بعض الخيوط في الثوب الذي تلبسه حريراً، لكن بمقدار أصبع أو أصبعين، أو ثلاث أو أربع كأقصى حد، فقد رخص فيه النبي صلى الله عليه وسلم.

    فقال: (نهانا النبي صلى الله عليه وسلم عن الحرير والديباج، والشرب في آنية الذهب والفضة) أي: لا يجوز لك أن تشرب أو تأكل في آنية الذهب والفضة؛ لأنه لا يفعل ذلك إلا المستكبرون، وأنت عبد مؤمن متواضع لله عز وجل، ومن فعل ذلك فقد حرمه الله عز وجل من الجنة، وكان مصيره إلى النار، فلا تفعل هذا الشيء، فيكون مصيرك النار. قال: (هي لهم في الدنيا) أي: الكفار في الدنيا يستخدمونها ويستكبرون بها، أما أنتم فهي لكم في الجنة، ومن ذا الذي يضيع الجنة بأن يأخذ حظه في الدنيا، فيبدل الشيء العظيم بالشيء التافه الحقير الذي لا قيمة له؟ قال صلى الله عليه وسلم: (هي لهم في الدنيا، وهي لكم في الآخرة).

    فإذاً: لا يجوز للإنسان أن يأكل ويشرب في آنية الذهب والفضة، فإن كانت أواني الذهب والفضة محرمة في العبادة حيث لا يجوز للإنسان أن يتوضأ من إناء ذهب أو فضة، فهذا من باب أولى في النهي عنه.

    عن أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الذي يشرب في آنية الفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم) متفق عليه.

    وفي رواية لـمسلم : (إن الذي يأكل أو يشرب في آنية الفضة والذهب إنما يجرجر في بطنه نار جهنم)، والمعنى: كأن من يشرب في إناء الذهب والفضة يعجل على نفسه نار جهنم والعياذ بالله.

    ومن هذا الحديث نعرف لم قذف حذيفة دهقان الفرس بإناء الذهب أو الفضة، وذلك أن حذيفة رضي الله عنه عطش ذات مرة وكان أميراً في المدائن رضي الله عنه، فطلب ماءً فإذا بالدهقان يأتي له بإناء من ذهب أو فضة فيه ماء، فأخذه وقذفه به؛ وذلك لأن هذا الرجل عرف نهي النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنه كان يستهين بهذا النهي، ولذلك التفت لمن معه وقال: أما إني لو لم أنهه مرة ولا مرتين ولا ثلاثة، يعني: أنا نهيته كذا مرة، إلا أنه متعمد لمخالفة ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم، فاستحق أن يقذفه بهذا الإناء ليؤدبه، والله أعلم.

    أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم.

    وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718712

    عدد مرات الحفظ

    765797963