وعن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه: (أن رجلاً أكل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بشماله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: كل بيمينك. قال: لا أستطيع. قال: لا استطعت، ما منعه إلا الكبر. فما رفعها إلى فيه) رواه مسلم.
باب النهي عن القران بين تمرتين ونحوهما إذا أكل جماعة إلا بإذن رفقته.
عن جبلة بن سحيم قال: (أصابنا عام سنة مع
أورد الإمام النووي - رحمه الله - في كتاب رياض الصالحين في كتاب آداب الطعام، في باب الأكل مما يليه ووعظه وتأديبه من يسيء أكله حديث عمرو بن أبي سلمة ، والمعنى واضح، وهو أن المسلم إذا أكل من طعام فإنه يأكل من الطعام الذي يليه، دون أن تطيش يده في الصحفة فيأكل مرة مما يليه ومرة من آخر الصحفة! فيأكل كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه وعلمهم.
ومما ورد من تعليمه صلى الله عليه وسلم أصحابه حديث عمر بن أبي سلمة قال: (كنت غلاماً في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم) .
وذلك لأنه كان ابن زوجة النبي صلى الله عليه وسلم؛ إذ إنَّ أمه أم سلمة زوجة النبي صلى الله عليه وسلم، وعمر ولد في السنة الثانية من الهجرة إلى الحبشة، وكان مع أبيه ومع أمه في الحبشة رضي الله تبارك وتعالى عنهم.
ثم قدم مع أبيه وأمه إلى المدينة عند النبي صلى الله عليه وسلم، ومات أبوه أبو سلمة رضي الله تبارك وتعالى عنه، ودعا له النبي صلى الله عليه وسلم، وطلب من أم سلمة رضي الله عنها أن تسأل الله عز وجل أن يخلفها خيراً من أبي سلمة ، وعلمها أن تقول: (اللهم اؤجرني في مصيبتي واخلف لي خيراً منها).
ولم تكن تدري ما هو الخير من أبي سلمة ، فقالت: ومن خير من أبي سلمة ؟! ولم يخطر على بالها أن النبي صلى الله عليه وسلم سيتزوجها، وإنما نظرت في الصحابة لترى من هو خير من أبي سلمة ، فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يخطبها بعد انقضاء عدتها!
وتصير أم سلمة أماً للمؤمنين وزوجة للنبي صلوات الله وسلامه عليه، ويصير ابنها هذا في حجر النبي صلى الله عليه وسلم، أي: أنه يتيم في حجر النبي صلى الله عليه وسلم يرعاه ويحوطه وينظر في أمره، وهو في بيته عليه الصلاة والسلام، فكان ربيب النبي صلى الله عليه وسلم.
وكان وهو صبي صغير يأكل مع النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يكن قد تعود آداب الطعام بعد، فكانت يده - كما يقول -: تطيش في الصحفة، يعني: إذا أكل يضع يده في أي مكان، ويغمسها في الصحن الذي يلي النبي صلى الله عليه وسلم.
فعلمه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (يا غلام! سم الله تعالى)، يعني: قل: (باسم الله) حين تأكل، (وكل بيمينك، وكل مما يليك).
وهذه آداب من آداب الطعام عظيمة جداً، فعلى الإنسان أن يعود أولاده على آداب الطعام وهم صغار لتبقى تلك الآداب عادة للصبي سواءٌ أكان وحده، أم مع أقربائه، أم مع الغرباء عنه، فلا ينتقد أمام الناس حين يأكل.
وكم من إنسان يكون كبيراً وإذا جلس ليأكل يقوم الناظرون فينظرون إليه بنظرة انتقاد لأنه لا يعرف كيف يأكل، فيده تطيش في الطعام، ويأكل بشماله، ويشرب بشماله، ويقذر المائدة؛ إذ ليس عنده من آداب الطعام شيء.
وقد علم النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أن لا يفعلوا ذلك، فقال: (يا غلام! سم الله تعالى، وكل بيمينك، وكل مما يليك)، وهذا تأديب، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يربي الكبار والصغار ويؤدب الجميع عليه الصلاة والسلام.
ثم إن عمر بن أبي سلمة صار بعد ذلك رجلاً كبيراً، وشهد مع علي رضي الله عنه يوم الجمل، واستعمله علي رضي الله عنه على فارس، واستعمله على البحرين، فاستحق أن يتولى أمر الناس ويكون أميراً على بلاد فارس وعلى بلاد البحرين، رضي الله تبارك وتعالى عنه.
وعاش زمناً طويلاً، حيث مات في حدود سنة ثلاث وثمانين رضي الله تبارك وتعالى عنه، أي أنه عمر أكثر من خمسة وثمانين عاماً رضي الله تبارك وتعالى عنه.
والغرض هنا: بيان تعليم الأطفال كيف يأكلون، حتى لا يمد الصبي يده إلى طعام ليس له.
ولعلنا نذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى تمرة من تمر الصدقة مد الحسن أو الحسين يده إليها فأخذها ووضعها في فمه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد شرفه الله عز وجل عن ذلك، وكذلك آل بيته عليه الصلاة والسلام إلى يوم القيامة؛ إذ تحرم عليهم الصدقة، فلا يجوز لآل بيت النبي صلى الله عليه وسلم أن يأكلوا من الصدقة.
بل شرف بذلك موالي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم العبيد الذين أعتقهم النبي صلى الله عليه وسلم فانتسبوا إليه بالولاء.
فلما أخذ الحسن أو الحسين تمرة من الصدقة ووضعها في فمه رآه النبي صلى الله عليه وسلم، فأخرجها صلى الله عليه وسلم من فمه، وقال: (كخ كخ. أما علمت أنا لا نأكل الصدقة؟).
والنبي صلى الله عليه وسلم أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وهو أرحم خلق الله بالخلق عليه الصلاة والسلام، ومع ذلك يعود هذا الصغير على أن لا يأكل هذه التمرة ولو كان قد وضعها في فمه.
ولو أن أحدنا رأى ابنه يفعل ذلك، فهل - يا ترى - سيفعل مثلما فعل النبي صلى الله عليه وسلم أم أنه كحال الكثير سيقول: ليس في ذلك شيء، فهذا ولد صغير لا يعرف، وسأدفع ثمنها؟! ولم يقل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما أخرج التمرة من فمه، لأنه لا يحل له أن يأكلها، ولم يقل صلى الله عليه وسلم: (كخ) لطفل عمره سبع سنين، بل قال ذلك لولد عمره سنتان أو نحوهما، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول ذلك ويردفه بقوله صلى الله عليه وسلم: (أما علمت أنا لا نأكل الصدقة؟)، وقد يفهم الصبي وقد لا يفهم هذه الكلمة.
ولكن ليفهمها الكبار الذين كانوا حول النبي صلى الله عليه وسلم، فيتعلمون كيف يربون أبناءهم على ذلك، وهو أنه ما يحرم عليك لا يجوز لك أن تمد يدك إليه.
وقد نجد اليوم العكس، فالأب يأخذ ابنه ويذهب به إلى السوق، ويمد الولد يده إلى تمرة فيأكلها وأبوه ساكت كأنه لا يعنيه هذا الأمر، ويمد يده إلى خيار أو نحوها ويأكل، والأب والأم لا يتكلمان بشيء.
بل قد يقول: ليس في ذلك شيء! وهذا ليس من الأدب، وإنما هو أكل حرام بغير إذن من صاحب الطعام، فليس لك أن تمد يدك إلى طعام إنسان إلا بعد أن يأذن لك في ذلك، فإذا قال لك: ذوق فلتذق وحدك دون أن تدع أحداً معك يمد يده إلى هذا الطعام.
وكذلك قال الله عز وجل مقسماً: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65]، فعلى كل مؤمن أن يسلم بما يقوله النبي صلى الله عليه وسلم.
فلو إن إنساناً كان أعسر يأكل بيده الشمال، وهو متعود على ذلك، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (كل بيمينك)، فالخير أن يأكل بيمينه، لكن بعض الناس فيهم استكبار، فهذا الرجل يستكبر على النبي صلى الله عليه وسلم، ويقول: (لا أستطيع) مع أنه يحرك يديه، فلما قال ذلك وعلم النبي صلى الله عليه وسلم قدرته وعلم استكباره قال: (لا استطعت).
يعني: إذا كان الأمر كذلك فلا استطعت أن تأكل بها. قال: (فما رفعها إلى فيه) يعني أنه كان قد رفع اللقمة بشماله من أجل أن يضعها في فمه، فلما قال: لا أستطيع أن آكل باليمين، قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (لا استطعت )، فلم يرفعها إلى فمه.
وقد كان في قدرته أن يأكل بيمينه مع سلامة شماله، فدعا عليه النبي صلى الله عليه وسلم فشلت يده التي رفعها فما استطاع أن يرفعها.
فهنا يقول جبلة بن سحيم : (أصابنا عام سنة مع
فقوله: (عام سنة) يعني: عام جدب وقحط وشدة، قال: (فرزقنا تمراً) يعني: قسم علينا تمراً، قال: وكان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يمر بنا ونحن نأكل. وذلك في عام مجاعة لم يصيبوا فيه إلا التمر فكانوا يأكلون التمر، فقال عبد الله بن عمر رضي الله عنه: (لا تقارنوا؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الإقران) يعني: لا تأكلوا اثنتين اثنتين، ولا يمد أحدكم يده ليأخذ تمرتين تمرتين، بل ليأخذ كل منكم واحدة واحدة من الطعام الذي أمامكم.
وذلك ليعلم المرء أنه كما أن له حقاً في الطعام فللذي يأكل معه - أيضاً - حق في الطعام، فإذا كان سيأكل أكثر من واحدة فإنه سيقول: اسمحوا لي بأن آكل اثنتين اثنتين.
وهذا صعب على نفس الإنسان، وحينئذ سيستأذن مرة وسيستحي بعد ذلك فلن يستأذن، وحينئذ سيأكل واحدة واحدة.
فهذا أدب يؤدبنا به النبي صلى الله عليه وسلم، فلا تأكل طعام غيرك، وإلا فإن الجميع سيقومون وفي نفوس بعضهم شيء على الآخرين، فتسمع بعضهم يقول: فلان هذا لا أحب أن آكل معه؛ لأنه يقعد ليأكل معنا فيمد يده ليأكل الطعام كله، كما جاء الأعرابي وأكل الطعام الذي أمام النبي صلى الله عليه وسلم وكان يكفي ستة أفراد، فأكله هو كله، ولم ير أن غيره محتاج إلى أن يأكل، بل نظر إلى نفسه فقط!
فهذا الذي يكون بهذا المنظر يكون بغيضاً عند الناس، فالناس لا تحبه ولا تحب أن تأكل معه، وفي النهاية سيحصل أن الطعام سيُخفى عن هذا الإنسان، ومما يذكر في ذلك أنه في الاعتكاف كان الطعام يوضع في الدور الأرضي من المسجد، وكان الأكل مباحاً لمن شاء، وكان الناس يراعي بعضهم بعضاً، ثم إذا بناس من الشارع يدخلون ليأكلوا فكان أحدهم يمد يده أول الأمر إلى اللحم فيأكله ويترك المعتكف في المسجد ليل نهار من غير أن يصيب حاجته، فكان الحاصل في النهاية أن منع هذا الأمر، وصار الأكل في الدور الثاني أو الدور الثالث بعيداً عن الناس، وصار ممنوعاً أن يأكل أحد إلا المعتكفين، فانظر إلى هذا الجاني كيف مُنع من الطعام ومنع غيره؛ لأنه أكل شيئاً ليس له، أكل طعام غيره ولم يعرف أن هذا معتكف وأن هذا طعامه، وهذا الداخل ممن يأكل ويخرج ويذهب إلى بيته ليأكل، فلما مد يده إلى أشرف الطعام الموجود عوقب بعد ذلك بأن يحرم منه.
وكذلك كل إنسان طماع، لو أنه اتقى الله سبحانه تبارك وتعالى وراعى غيره في طعامه وعرف آداب الطعام؛ فإن الناس سيحبون أن يأكلوا معه؛ لأنه طيب؛ ولأن قعدته فيها بركة للناس.
وأما الإنسان الطماع فإنه لا أحد يحب أن يأكل معه، ولسان حال الآكل معه: سأترك لك طعامي، لكن ليس في كل يوم أترك لك الطعام؛ لأني محتاج إلى أن آكل لأقوم للصلاة وللعمل، فلن تأكل طعامي كل يوم.
فهنا تعلمنا الشريعة آداب الطعام.
والتسمية عظيمة جداً؛ فإنها تمنع الشيطان من أن يجلس معك على الطعام، وتمنعك شر نفسك، فالإنسان إذا كان في نفسه شيء من الشر فنوى أن يأكل الطعام طمعاً فإنه يذرك الله سبحانه تبارك وتعالى فيستحيي ويتأدب بآداب الطعام حين يأكل.
فإذا كان الإنسان يأكل ولا يشبع، ويريد أن يأكل كثيراً فإنه يعمل بما رواه الإمام أبو داود بإسناد فيه ضعف وله شواهد بمعناه عن وحشي بن حرب رضي الله عنه أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: (يا رسول الله! إنا نأكل ولا نشبع)، وطعامهم كان قليلاً، ومع قلة الطعام كان كل واحد يأخذ نصيبه ويقعد ليأكل، فلا يكيفهم الطعام.
لما قالوا ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فلعلكم تفترقون)، فقالوا: نعم. قال: (فاجتمعوا على طعامكم، واذكروا اسم الله يبارك لكم فيه)، فالجواب من النبي صلى الله عليه وسلم كان متعلقاً بأمر ليس على بالهم فلماذا كانوا يأكلون متفرقين؟
إن العادة أن كل واحد يقول: أريد نصيبي؛ إذ الطعام قليل، فلو قعدت آكل مع الناس سيأكلون نصيبي، فكان واحد يأخذ نصيبه من أجل أن لا يأخذ أحد حق الآخر، وكان الطعام لا يكفيهم، وكان أحدهم يأكل ولا يشبع من قلة الطعام، فكان جواب النبي صلى الله عليه وسلم على عكس ما توهموه، ومع الإيمان وتقوى الله سبحانه وتعالى يحدث ما ليس في حسبانك، فالبركة تنزل من عند رب العالمين سبحانه. فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بأن يأكلوا جميعاً فقال: (فاجتمعوا على طعامكم واذكروا اسم الله)، فإذا حصل ذلك جاءت البركة من عند رب العالمين، ويبارك في هذا الطعام، فكان الأمر على ما قاله النبي صلوات الله وسلامه عليه.
والبركة شيء لا يراه الإنسان، بل شيء يستشعره بقلبه ويستشعره بما يكفيه من هذا الطعام الذي دخل في فيه.
فالطعام هو هو، وقد كان كل واحد يأخذ نصيبه لوحده ويأكل ولا يكفيه الطعام، ولما وضعوا الطعام كله وجلسوا جميعاً، جاءت البركة من عند ربنا سبحانه، فأكلوا وشبعوا، فما هو الذي حصل هنا؟ لقد زاد الطعام وإن لم يزد أمامهم في النظر، ولكن جاءت البركة من عند الله سبحانه.
فعلم النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة وعلم من بعدهم الاجتماع على الطعام؛ حتى تأتي البركة من عند الله سبحانه.
وقد كانوا أحياناً يرون هذه البركة أمامهم شيئاً حقيقياً، وأحياناً تكون شيئاً مدركاً في النفس.
ومن ذلك ما روي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فقد جاءه ضيوف في يوم من الأيام، وقد كانوا ضيوف النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يكن عند النبي صلى الله عليه وسلم طعام يطعمه هؤلاء الضيوف، فأخذهم أبو بكر رضي الله تبارك وتعالى عنه، ونادى ابنه عبد الرحمن ليطعم هؤلاء الضيوف، ثم تركهم وانصرف إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فسهر مع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم رجع فوجد الضيوف لم يأكلوا، فلما سألهم عن سبب ذلك قالوا: انتظرناك! فقال: والله لا آكل من هذا الطعام. فقالوا: والله لا نأكل. أي: ونحن - أيضاً - لن نأكل. وهذا تعنت من الضيوف، حيث وضع الطعام، وإذا وضع فما هو المعنى لانتظارهم إلى أن يأتي أبو بكر ليأكل معكم؟ فلذلك غضب أبو بكر وأقسم أنه لا يأكل هذا الطعام، ولما وجد أن الضيوف لن يأكلوا رجع في يمينه؛ فاليمين يسهل أن أكفرها، ولا داعي لأن أحرج الضيوف، ولا داعي لانصرافهم من غير أن يأكلوا.
فلما قالوا ذلك قال: إنما كانت هذه من الشيطان. وجلس وأكل، وأكل الضيوف، وإذا بالطعام يزيد، فقد كان ما في الصحفة يربوا من أسفله، وحين قاموا عنها كانت أكثر مما وضعت أمامهم! فهنا شيء ملحوظ محسوس كانوا يرونه أمامهم.
فإذا به يأخذ الصحفة ويذهب إلى امرأته فيقول: ما هذا يا أخت بني فراس؟! أي: ما هو الذي حصل في الطعام؟ فقالت: والله لهي الآن أكثر مما وضعناها. فأخذها وذهب بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ففرح النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، وأخبره أنها بركة من عند الله سبحانه تبارك وتعالى.
وليست هذه هي المرة الوحيدة، بل حدث ذلك مرات ومرات، فقد خرجت البركة من أصابع النبي صلى الله عليه وسلم في ماء قليل يسقي به جيشاً كاملاً صلوات الله وسلامه عليه في يوم الحديبية وفي غيره.
ووضع صلى الله عليه وسلم سهماً في عين ماء بالحديبية كان الماء فيها قليلاً وإذا بالعين تجيش بالماء، ويشرب منها الجيش، ويسقون إبلهم وما معهم من هذه العين.
فالبركة هنا شيء حقيقي يراه الإنسان زائداً أمامه، وقد لا يرى زيادة، ولكن يعلم أنهم كانوا عشرة أنفار يقعدون على مثل هذا الطعام فلا يكفيهم، فصار يكفيهم، فهذه بركة لم ترها، ولكن الله سبحانه وتعالى جعلها في الطعام.
وأورد الحديث الذي يرويه أبو داود والترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (البركة تنزل وسط الطعام، فكلوا من حافتيه ولا تأكلوا من وسطه).
وقد جرت عادة الناس بأن الأكل من وسط الطعام يقذره في أنفسهم ويجعل شكله غير لائق.
وهذا صحيح، إلا أن هناك أمراً أهم، وهو أن ربنا سبحانه وتعالى - إذا تعلمنا آداب الطعام - ينزل بركة من السماء في وسط الصحفة، فإذا بالطعام يزيده الله سبحانه وتعالى ويبارك فيه.
فهذه القصعة كان يقال لها: الغراء، وكأنها كانت بيضاء، أو لما يوضع فيها من لحوم وغيرها، قال: (يحملها أربعة رجال) فهذه القصعة كان لا يقدر على حملها إلا أربعة رجال، وهذا من كرمه صلوات الله وسلامه عليه، فكان يملأ هذه القصعة ويضعها لأصحابه ليأكلوا قال: (فلما أضحوا وسجدوا الضحى أتي بتلك القصعة) أي: كان من عادة النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي الفجر ويجلس في مصلاه يذكر الله سبحانه إلى وقت الضحى، فلما صلوا الضحى أتي النبي صلى الله عليه وسلم بتلك القصعة، قال: (وقد ثرد فيها) يعني أنه موضوع فيها خبز عليه اللحم، قال: (فالتفوا حولها، فلما كثروا جثا رسول الله صلى الله عليه وسلم).
فالقصعة كان يحملها أربعة رجال، فحجمها قد يكون مثل الطست، فإذا جلسوا حولها وهم مجموعة لن يسعهم المكان، فكان لابد أن كل إنسان يأخذ ويبتعد عنها قليلاً لتتسع الدائرة ويكفي المكان للجميع، فلما وجدهم قد كثروا جثا عليه الصلاة والسلام أي: اعتمد على ركبتيه، أي: جلس على ركبتيه على هيئة القاعد للتشهد في الصلاة، فرآه أعرابي فقال: (يا رسول الله! ما هذه الجلسة؟) ولم يكن الأعرابي متعوداً على ذلك؛ إذ تلك الجلسة جلسة إنسان خاشع في صلاة.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله جعلني عبداً كريماً ولم يجعلني جباراً عنيداً)، فهو عبد لله سبحانه، كرمه الله بهذه الرسالة العظيمة.
وأما الجبابرة والملوك وأشباههم، فإن أحدهم يجلس ليأكل لوحده، وحوله الحراس قائمين يحرسونه، أما النبي صلى الله عليه وسلم فقد كان يجلس مع غيره ويأكل كما يأكل غيره، ويقول صلى الله عليه وسلم: (إنما أنا عبد أجلس كما يجلس العبد، وآكل كما يأكل العبد)، فعليه الصلاة والسلام.
وكان يمنعهم أن يمدحوه بما ليس فيه عليه الصلاة والسلام، وقال: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد الله ورسوله فقولوا: عبد الله ورسوله)، عليه الصلاة والسلام.
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن كان يأكل: (كلوا من حواليها ودعوا ذروتها يبارك فيها)، فالقصعة كانت كبيرة يحملها أربعة رجال، ولكن مع ذلك كان عددهم كبيراً، ويمكن أن تنفذ بسرعة، فأمرهم بأن يتأدبوا بأدب الطعام، فكل واحد يأكل مما يليه ولا أحد يمد يده إلى وسط الصحفة.
والعادة أنه في وسط الصحفة يوضع لحم أو نحوه فيصبر الإنسان حتى يبلغ هذا المكان فيأخذه منه، فعلمهم النبي صلى الله عليه وسلم هذا الأدب، وعلمهم تلك الجلسة، فلم يجلس متكئاً، وهذا الأدب يجيء في الباب الآتي، حيث يقول الإمام النووي : [ باب كراهية الأكل متكئاً ].
والمراد بذلك التمكن من الأرض، وقد جاء في ذلك حديث رواه البخاري عن أبي جحيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا آكل متكئاً) والمتكئ إذا كان قاعداً متربعاً على الطبلية أو على الأرض فمعنى ذلك أنه سيأكل كثيراً.
أما النبي صلى الله عليه وسلم فما كانت هذه عادته، وليس بحرام أنك تجلس متربعاً من أجل أن تأكل، إنما قال صلى الله عليه وسلم: أنا لا أعمل هذا ففيه بيان أن ذلك خلاف الأولى، ولم يحرم ربنا علينا ذلك، بل قال: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ [الأعراف:31].
ولكن النبي صلى الله عليه وسلم علمنا أدباً من الآداب، وهو أنك إذا أكلت أن تأكل شيئاً وتدع شيئاً، فاجعل في معدتك الثلث لطعامك والثلث لشرابك والثلث لنَفَسِك، فإذا جلست متكئاً فمعنى ذلك أنك ستأكل كثيراً، ولعلك تتخم بهذا الطعام.
يقول الخطابي : المتكئ هو الجالس المعتمد على وطاء تحته قال: أراد أنه لا يقعد على الوطاء والوسائد كفعل من يريد الإكثار من الطعام.
وهذا ليس بحرام، ولكنَّه صلى الله عليه وسلم قال: لا أعمل هذا الشيء. فلا يجلس جلسة تدعو للإطالة، وكذلك النوم، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان ينام على سرير من حبال، فيوضع له عليه شيء عليه الصلاة والسلام، كثوب مثني ثنيتين، فينام عليه وتؤثر حبال السرير في جنبه صلى الله عليه وسلم.
وفي مرة ثني ما يوضع على السرير أكثر مما كان يثنى، فوجد النبي صلى الله عليه وسلم تلك النومة مريحة زيادة على ما يلزم، ومعنى ذلك أن الإنسان لن يقوم ليصلي صلاة الليل، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يثنى كما كان.
ونحن اليوم ننام على قطن لم يره النبي صلى الله عليه وسلم، ولا نام عليه عليه الصلاة والسلام، ولم يحرم ذلك، ولكن يعلمنا أن مثل هذا الشيء يعود الإنسان على الراحة، فإذا تعود على الراحة يبقى دائماً يريد أن ينام على السرير الوثير من أجل أن يستريح، فإذا أراد أن يصلي بالليل وجد السرير ممتعاً فيقول: لا أريد أن أقوم، ويضيع الفجر، ثم يقوم في الضحى وقد فاته الصبح.
فكان النبي صلى الله عليه وسلم أزهد خلق الله عليه الصلاة والسلام في نومه، وكذلك إذا قعد كان يقعد على الأرض صلى الله عليه وسلم، ولا يجعل تحته وسادة، ولا يجعل تحته شيئاً، خاصة عند الأكل، وإن كان في غير الأكل قد يجلس على وسادة عليه الصلاة والسلام.
يقول الخطابي هنا: بل يقعد مستوفزاً لا مستوطئاً، ويأكل بلغة، وأشار غيره إلى أن المتكئ هو المائل على جنبه، وهذا أشد فالمتكئ يقعد متربعاً، وهذا ليس حراماً، ولكن لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم؛ خوفاً من كون هذه الجلسة تدعو للإكثار، بحيث يقعد فيأكل فترة طويلة فيمتلئ، فما كان يفعل ذلك، إنما كان يجلس صلى الله عليه وسلم مستوفزاً، وهي جلسة الجاثي يجثو على ركبتيه، أو أنه يقعد على رجل وينصب الأخرى ويضع عليها يده صلى الله عليه وسلم، وهي جلسة الذي لا ينوي أن يقعد طويلاً؛ لأنها جلسة متعبة، فكان في طعامه يجلس كذلك عليه الصلاة والسلام.
وقال البعض ممن فسر الحديث: المتكئ الذي كره النبي صلى الله عليه وسلم جلسته أن يجلس متكئاً على أحد جنبيه، كما يحصل أحياناً أن يكون الإنسان متكئاً على الأرض على مرفقه ويأكل بيده الثانية وهو على هذه الحال، فهو قاعد مستريح همه في الطعام، فالنبي صلى الله عليه وسلم ما كان يفعل هذا، بل قال: (لا آكل متكئاً)، وفي حديث لـأنس رواه مسلم قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً مقعياً يأكل تمراً) أي أنه جالس على مقعدته.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر