باب: إكرام الضيف.
قال الله تعالى: هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنكَرُونَ * فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ * فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ [الذاريات:24-27].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كان يؤمن بالله واليوم والآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه، ومن كان يؤمن بالله واليوم فليقل خيراً أو ليصمت) متفق عليه.
هذا باب آخر من كتاب رياض الصالحين يذكر فيه الإمام النووي رحمه الله إكرام الضيف.
يقول: باب: إكرام الضيف.
وقد علمنا الله سبحانه وتعالى كيف يكون إكرام الضيف بما ذكر من آيات، وما جاء في سنة النبي صلى الله عليه وسلم من أحاديث ومن أفعال.
فمن الآيات قول الله عز وجل: هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ [الذاريات:24].
و(ضيف): اسم جنس، ولذلك يطلق على المفرد وعلى الجمع، ويجوز أن تقول: ضيوف، ويجوز أن تقول: أضياف. فإذا أردت الجنس قلت: (ضيف) كما قال الله سبحانه وتعالى هنا.
وهنا المراد الجمع؛ لأنه وصفهم بأنهم مكرمون، حيث قال تعالى: هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ [الذاريات:-24-25]، فهم ضيوف كرام كرمهم الله عز وجل، وهم من الملائكة على الحقيقة.
دخلوا على إبراهيم عليه السلام: فَقَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنكَرُونَ [الذاريات:25] فسلموا عليه عليه الصلاة والسلام، فرد السلام وقال: (قَوْمٌ مُنكَرُونَ) يعني: أنتم قوم غرباء، منكرون لا نعرفكم، وإذا كنتم غرباء فإنكم تستحقون علينا أن نضيفكم.
قال تعالى: فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ [الذاريات:26] أي: فأسرع إلى أهله عليه الصلاة والسلام، فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ [الذاريات:26]، وفي الآية الأخرى قال: بِعِجْلٍ حَنِيذٍ [هود:69].
وهنا قال تعالى: (فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ) أي: كبير وسمين، ليس هزيلاً صغيراً ضعيفاً، والعجل: ولد البقرة، يعني: لم يحضر بقرة كبيرة لحمها يتقطع ولا يؤكل، بل جاء بعجل، والعجل: الصغير في السن، وهو كبير في الحجم، ولذلك وصفه بأنه سمين، فانتقى للضيوف أطيب ما عنده عليه الصلاة والسلام.
وفي الآية الأخرى: بِعِجْلٍ حَنِيذٍ [هود:69] أي: ذبح العجل وشواه على النار، وجاء به لهؤلاء الأضياف، وقد كانوا ثلاثة.
لقد ذبح عجلاً سميناً لثلاثة من الضيوف، وشوى لهم العجل وقربه إليهم، ولما قربه إليهم إذا بهم لا يأكلون، أي: كانوا جالسين معه، لكن لا يمدون أيديهم، فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً [الذاريات:28] أي: خاف منهم، قال لهم: أَلا تَأْكُلُونَ [الذاريات:27] وعندما يأتي إنسان غريب ويدخل بيتك فتقدم له طعامه ويرفض أن يأكل فإنك تتوجس منه الشر، فما دام أنه لا يريد أن يأكل الطعام فهذا معناه أنه ينوي الشر.
قال تعالى: فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً [الذاريات:28] فطمأنوه فقالوا: لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ [هود:70] وبذلك عرف إبراهيم عليه السلام أن هؤلاء ملائكة من عند الله سبحانه، ولكن قام بما وجب عليه عليه الصلاة والسلام، ولذلك فإن كرمه العظيم في الضيافة أضفى عليه لقب أبي الضيفان، أو أبي الضيوف؛ لأنه لا ينزل عليه ضيف إلا ويذبح له ويكرمه أعظم الكرم صلوات الله وسلامه عليه.
فلما عرف قومه من امرأته أن عنده ضيوفاً أتوا إليه وقالوا: أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ * قَالَ هَؤُلاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ [الحجر:70-71] يعني: عندكم البنات، والنبي أب لبنات قومه وأب لرجالهم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: (إنما أنا لكم بمنزلة الوالد أعلمكم)، فكل نبي أب لقومه ووالد لهم، فقوله: (هَؤُلاءِ بَنَاتِي) يعني أن بنات قومه نساء كثيرات، فتزوجوا، وما الذي يجعلكم تفعلون هذه الفاحشة وهذه المصيبة العظيمة؟!
قال الله عز وجل: وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي [هود:78].
فالمقصود هنا من إكرام الضيف الدفاع عنه، لأن المضيف لا يسلم الضيف، ولا يؤذي الضيف، ويمنع عنه من يؤذيه، فهؤلاء لم يكونوا قادمين نازلين عليه، وما قالوا له: نحن ضيوف عندك، بل خاف عليهم لكونهم مروا بالقرية؛ لئلا يؤذيهم أهل هذه القرية، لذلك أخذهم واستضافهم في بيته، مع أنه يرى نفسه وحيداً، ويرى نفسه لا جيش معه يحميه، وسيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان يقدر على أن يجمع من يقوم معه ويدافع، وأما لوط عليه الصلاة والسلام فإنه استشعر أنه ضعيف وأنه في بلده وحيد، ولم يكن له أولاد ذكور، بل كان أولاده بناتاً، فلذلك قال الكلمة التي تعجب لها النبي صلى الله عليه وسلم، قال تعالى عنه: قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ [هود:80] كل هذا من أجل حماية الضيوف، حتى لا يتمكن منهم هؤلاء المجرمون.
فالغرض هنا بيان ذكر الله عز وجل إكرام الضيف من فعل إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، ومن فعل لوط عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.
فمن خصال الإيمان التي يقوى بها إيمان الإنسان: إكرام الضيف، فعندما ينزل عليه ضيوف لا يتأذى بضيوفه، ولكن يفرح بمجيء الضيوف، ويكرم الضيوف بحسب ما يسر الله عز وجل لهذا الإنسان.
والإنسان الكريم لا يتركه الله عز وجل أبداً، وكلما كان كريماً مع الخلق فإن الله تعالى يكرمه ويعطيه، والبيت الذي يأكل فيه الضيوف ويكثر أصحابه من الصدقة إذا كان أصحابه فقراء يكرمهم الله تعالى ويشعرهم بالغنى، وإنك قد تجد الإنسان فقيراً ينزل عليه الضيف فيفرح بذلك الضيف الذي عنده، ويتكلف للضيف ويطعمه ويسقيه ويكرمه حتى يخرج من عنده، فهذا الإنسان الكريم إيمانه قوي، وهذا الإكرام للضيف دليل على قوة الإيمان؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه).
ثم قال صلى الله عليه وسلم: (ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه) وصلة الرحم هي أن يزور الإنسان أرحامه ولا يقطعهم، فيزور أباه، ويزور أمه، ويزور أخاه، ويزور أخته، وعمه، وخالته، وأبناء أعمامه، وأبناء أخواله وهكذا.
وقد جعل الله عز وجل عباده شعوباً وقبائل للتعارف، كما قال تعالى: وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا [الحجرات:13]، فالإنسان المؤمن يحب أن يعرف المؤمنين، وأن يصاحبهم، فيرى الخير في ذلك، فإنهم ينفعونه في دينه، وينفعونه في دنياه، وينفعونه في أخراه.
ولذلك جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تصاحب إلا مؤمناً، ولا يأكل طعامك إلا تقي)، فيمشي الإنسان المؤمن مصاحباً إنساناً مؤمناً آخر, فينتفع به في الدين والدنيا.
وقال: (لا يأكل طعامك إلا تقي)، فالضيف الذي أنزله في بيتي لا بد أن يكون إنساناً تقياً، لا إنساناً شرساً غبياً، ولا إنساناً فاجراً شقياً، فالمؤمن يصاحب التقي الذي ينتفع به.
فالتقي إذا نزل عندك في بيتك فقدمت له ما وجدت، فأكل وحمد الله سبحانه وتعالى، ولم يستقل ما قدمته، بل يستكثره، ويخرج من عندك وهو يمدحك ويشكرك، ويكن لك الجميل، ويقول لك: أكلنا مع بعضنا العيش والملح، ولا يقول: أكلنا كذا وكذا، وأقل شيء تقدمه له يرتاح له، ويشكرك على ذلك.
وأما الإنسان السيئ الشرير الشرس في أخلاقه الفاجر فإنه يدخل بيت الإنسان فيطلع على عوراته، ويأكل فلا يعجبه طعامه، فإذا خرج من عنده ذمه وقدح فيه، ويقول: رأيت كذا ورأيت كذا، وبيته فيه كذا، وبيته ينقصه كذا. فمثل هذا لا تصحبه، ولا تدعه إلى بيتك.
قال صلى الله عليه وسلم: (ومن كان يؤمن بالله واليوم فليقل خيراً أو ليصمت)، قوله: (أو ليصمت) معناه: يسكت، فإما أن تتكلم بخير، وإما أن تسكت، فراقب كلامك دائماً، فإن كان في خير فقل الخير ولا تمل الناس، وإذا كان الكلام في شر فكف لسانك وروض نفسك على ألا تتكلم في كل ما تشتهي، واللحظات تمضي والعمر يمضي ويفوت، فمن قال: أنا لا أستطيع أن أمسك لساني، نقول له: جرب ذلك، فأمسك لسانك عندما تجد أنك تتكلم وأنك تذم وتشتم وتغتاب، وقل للسانك: اسكت قليلاً. ولتمض هذه الساعة، وبعد ذلك فكر، فإذا مرت ساعة وراء ساعة فإنك في الأخير سوف تنسى؛ لأن الزمن يمضي والإنسان نسّاء، فإذا اعتدت على ذلك تعود لسانك على أن لا يتكلم كل وقت في كل شيء، فما كان من خير فقله، وما كان من شر فاسكت عنه، واعلم أن الشر يؤذيك في الدنيا وفي الدين، ويوم القيامة ينطق عليك لسانك شاهداً عليك بما قلته وبما آذيت به غيرك، ولذلك فإن المؤمن يخطم نفسه ويكتم لسانه، ويسكت إلا في الخير، فينطق بغير أن يمل من الخير.
قال: (قالوا: وما جائزته يا رسول الله؟ قال: يومه وليلته، والضيافة ثلاثة أيام)، فكأن الجائزة للضيف أن تتكلف له يوماً واحداً وليلة، خاصة إذا كان غريباً آتياً من مكان بعيد ونزل عندك ضيفاً، وإذا كان في مكان ليس فيه فنادق، وليس فيه محلات للأطعمة، فإما أن تطعمه وإما أن يبيت في الشارع، فدليل إيمانك بالله واليوم الآخر أن تكرم هذا الضيف الذي نزل بك.
والواجب الذي عليك في هذه الحالة هو إكرامه يوماً وليلة، والمستحب ثلاثة أيام ولياليهن، فما كان وراء ذلك فهو صدقة عليه، وكأن ذلك إشارة للضيف ألا تثقل، فهل تريد أن تكون مثل السائل الذي يسأل فيُتصدق عليك في هذه الأيام؟ فإذا نزلت على إنسان فإنه يكفيك يوم وليلة، وإذا زاد ذلك فثلاثة أيام ولياليهن، وما زاد على ذلك فمعناه أنك تستجدي منه، فتطلب منه أن يعطيك صدقة فوق الثلاثة الأيام، فلا تحرج الذي نزلت عنده.
وجاء في رواية في صحيح مسلم : (لا يحل لمسلم أن يقيم عند أخيه حتى يؤثمه) ، فهذا مسلم أتى إليه ضيف، فأطعمه وسقاه، وأحضر له الأشياء الغالية، فأعجبه ذلك فمكث في البيت، وفي اليوم الثاني لم يرحل، وفي الثالث لم يرحل، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: لا يحل لك أن تؤثمه. قيل: وكيف يؤثمه؟ قال: (يقيم عنده ولا شيء له يقريه به)، إذاً: فهو ينزل على إنسان ضيفاً، ويعلم أنه مسكين وذو عيال، وقد يكون طعامه على مقدار عياله، ثم يظل عنده قاعداً لا يرحل، فيحرج أهل البيت ولا شيء عندهم يقدمونه لهذا الضيف.
وقد ذكر لنا بعض إخواننا أنه نزل عليه أناس من أقاربه قادمون من الصعيد، ولم يكن لديه شيء، وكان يقدم لهم العدس الذي يملكه ولا يعجبهم، فقالوا: كل يوم تقدمون لنا عدساً، قدموا لنا شيئاً آخر!
فهؤلاء ضيوف لئام؛ إذ من لؤم الطبع أن ينزل إنسان ضيفاً ويعترض على صاحب البيت في نحو ذلك.
فالإنسان يجود بالشيء الموجود عنده ولا يتكلف، وقد يتكلف في اليوم الأول، وهذا يمدح عليه، أما أكثر من ذلك فلا، وعلى الضيف أن يأكل من طعام البيت، ولا يحل للضيف أن يثوي عند إنسان حتى يؤثمه.
وقد ينزل ضيف على شخص وهو يعرف أن بيته مكون من غرفتين، أو من ثلاث غرف تسعه وأولاده، فأين سيذهب بأولاده، وأين سيذهب بزوجته إذا كنت ستنزل عنده؟
وإذا كان المرء في مدينة وفيها فنادق، والضيف غني له مال، فإنه لا يجب عليك مع هذا الحال أن تضيفه، فلا يلزمك أن تقول له: تعال فبت عندي وبيتك على قدرك، وطعامك وشرابك قليل. بل أطعم الضيف بما جاد الله عز وجل عليك به، ولينصرف هو فليبت في أي مكان، أما الوجوب - كما قال كثير من الفقهاء - فإنه يكون فيما إذا نزل الضيف على أهل قرية ليس فيها فنادق، وليس فيها طعام يباع، وهو فقير ليس له شيء، وإذا كان هذا حاله فإنه سيقضي الليل في الشارع فهذا الإنسان يلزمك أن تضيفه، وكان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم الأمر على ذلك، حيث لا فنادق، ولا مطاعم ونحوها، فالذي ينزل على الناس إما أن يضيف، وإما أنه لا يجد مكاناً ينزل فيه، والذين كانوا ينزلون على النبي صلى الله عليه وسلم كان ينزلهم في المسجد، وأما بيته صلى الله عليه وسلم فهو غرفة لكل امرأة من نسائه عليه الصلاة والسلام، فكان ينزل أضيافه في المسجد، أو ينظر في مَن يضيف النازلين به من أصحابه، ويعده بالأجر عند الله، فيضيفه من يشاء الله عز وجل من أصحاب النبي صلوات الله وسلامه عليه.
فالغرض أن الإنسان إذا نزل ضيفاً على إنسان فلينظر في حاله، فلا يحل له أن يقيم عنده حتى يؤثم صاحب المكان، وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم سبب التأثيم بقوله: (يقيم عنده ولا شيء له يقريه به) والقرى هو طعام الضيف.
وقد قال تعالى هنا: فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ [الزمر:17-18]، فالمؤمن الصالح الصادق يستمع وينفذ، ويسارع إلى الخيرات، والله تعالى يبشر عباده بجزائهم عند الله عز وجل، فيقول: يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ [التوبة:21-22]، فالله سبحانه وتعالى يبشر الصالحين.
وقال سبحانه: وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ [فصلت:30].
وقال سبحانه : فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ [الصافات:101].
وقال سبحانه: وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى [هود:69]، وهؤلاء الرسل هم الرسل الثلاثة الذين أكرمهم إبراهيم، فردوا له ذلك الكرم بكرم آخر، وهو البشارة له على نبينا وعليه الصلاة والسلام.
قال تعالى: وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ [هود:71] فهو - عليه السلام - جاء لهم بالطعام، وامرأته كانت تخدمهم وهي قائمة، فهم أهل بيت كرماء، فبشر امرأة إبراهيم بأنه سيأتي لك إسحاق، وإسحاق سيأتيه من ولده يعقوب أيضاً، فهذه بشارة من الله سبحانه وتعالى ذكرها لنا في القرآن.
وقال سبحانه: فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى [آل عمران:39]، فسيدنا زكريا على نبينا وعليه الصلاة والسلام لما دعا ربه فقال: رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ [آل عمران:38] قال تعالى: فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى [آل عمران:39] فجاءت البشارة من عند رب العالمين سبحانه وتعالى.
وكذلك جاءت البشارة لمريم عليها السلام، كما في قوله تعالى: إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ [آل عمران:45] هذه بشارة.
فقد كانت له زوجاً، وكانت له صلوات الله وسلامه عليه كالأم في برها وحنانها وإنفاقها عليه وإكرامها له صلى الله عليه وسلم، وكان يستشيرها فتشير عليه بأفضل الآراء رضي الله تبارك وتعالى عنها.
فهنا جاء جبريل يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: بشر خديجة ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب.
وهذا البيت هو قصر في الجنة من قصب، وليس المراد القصب الذي في الدنيا، بل القصب هو اللؤلؤ، أي: قصر من لؤلؤ في الجنة، لا صخب فيه ولا نصب؛ إذ الإنسان في الدنيا يزعجه الصخب والنصب، فقد تكون جالساً في بيتك فتسمع أحداً يطرق الباب فتنزعج ولا تستطيع النوم، وقد تسمع صخباً وصراخاً وأصواتاً فلا تستطيع أن تنام ولا أن تستريح، أما الجنة فإنها راحة على الدوام، ولا تحتاج فيها إلى النوم أصلاً، فليس في الجنة نوم، بل فيها الراحة والنعيم المقيم.
فبشرها جبريل عليه السلام ببيت من لؤلؤ في الجنة لا صخب فيه، أي: لا أحد يصرخ ويؤذيها فيه، ولا نصب، وكأنها عانت الكثير من كفار قريش، فالسيدة خديجة لم تهاجر مع النبي صلى الله عليه وسلم، بل ماتت في مكة في سنوات الإيذاء، واشتد أذى الكفار على النبي صلى الله عليه وسلم بعد موتها وموت أبي طالب ؛ فالاثنان ماتا في عام واحد، ولذلك سمي ذلك العام عام الحزن.
فـخديجة رضي الله عنها وأرضاها سمعت كثيراً مما صنعه الكفار بالنبي صلى الله عليه وسلم من إيذاء ومن تكذيب، وسمعت صراخهم على النبي صلى الله عليه وسلم، وأقوالهم الكاذبة عليه، فربنا تبارك وتعالى بشرها بأنها ستستريح من هذا كله، حيث ستدخل الجنة في قصر من لؤلؤ لا صخب فيه، أي: لا أذى من أصوات الناس، ولا نصب، أي: لا تعب في الجنة.
قال: (فجاء
قال: (ثم رجعت وجلست، وقد تركت أخي يتوضأ ويلحقني) أي: أن أبا موسى الأشعري ترك أخاه يتوضأ وكان يتمنى أن يأتي لعل النبي صلى الله عليه وسلم يبشره أيضاً بالجنة، قال: (فقلت: إن يرد الله بفلان - يريد أخاه - خيراً يأت به. فإذا إنسان يحرك الباب، فقلت: من هذا؟ فقال:
يقول: سعيد بن المسيب راوي الحديث: فأولتها قبورهم وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم جلس وبجانبه أبو بكر وعمر ، بينما قعد عثمان في الناحية الأخرى، فلذلك دفن عثمان في غير المكان الذي دفن فيه النبي صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر وعمر .
والغرض من الحديث بيان أن الله عز وجل أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يبشر من شاء سبحانه، فبشرهم النبي صلى الله عليه وسلم بما قاله له ربه سبحانه وتعالى.
فانظر إلى مدى حب الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان جالساً معهم، فقام ليقضي حاجته، فلما تأخر عنهم فزعوا.
قال: (فكنت أول من فزع) أي: أول من قام يبحث عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (فخرجت أبتغي رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتيت حائطاً للأنصار لبني النجار، فدرت هل أجد له باباً فلم أجد).
وذلك لأن الإنسان عندما يكون في وقت أزمة وفي وقت ضيق يذهب تفكيره، ويمكن ألاَّ يرى الشيء وهو موجود، فـأبو هريرة رضي الله تعالى عنه دار على الحائط، والحائط هو الحديقة، والحديقة لها سور حولها وليس من المتصور أن يكون هناك سور ليس له باب، ولكن أبا هريرة مع شدة فزعه وبحثه عن النبي صلى الله عليه وسلم دار حول الحديقة، فلم ير لهذه الحديقة باباً.
قال: (فإذا ربيع يدخل في جوف حائط من بئر خارجة).
والربيع: الجدول، أي أن البئر كان يخرج منها جدول ماء يدخل إلى الحائط.
قال: (فاحتفزت فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم).
ومن الضرورة أن يكون الحائط له باب دخل منه النبي صلى الله عليه وسلم ويدخل منه أصحاب الحائط، ولكن مع شدة فزع أبي هريرة لم يجد هذا الباب، ولم ير هذا الباب، فدخل من المدخل الذي يدخل منه الجدول.
قال: (فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بأن يأخذ النعلين لتكونا علامة على أن الذي بعثه إليهم هو النبي صلى الله عليه وسلم.
فلما خرج أبو هريرة رضي الله تعالى عنه وجد أمامه عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه، فقال: إلى أين يا أبا هريرة ؟ قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا وكذا. فقال: ارجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم. قال: ودفعني دفعة وقعت منها، فرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم يبكي، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ما شأنك؟ فذكر ما فعلهعمر ، وكان عمر على أثره رضي الله عنه، فقال صلى الله عليه وسلم: (يا
أي: صحيح أنك تحبهم وهم يحبونك، ولكن إذا بشرتهم بهذا فسوف يتكلون على ما قلت، وسيتركون الصلاة والصوم والعبادة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فلا إذاً).
فحبه صلى الله عليه وسلم لهم جعله يأمر أبا هريرة بأن يبشرهم، ولكن حرصه عليهم جعله يستمع لمشورة عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه في ذلك.
وهنا بيان الشورى، فـعمر أشار على النبي صلى الله عليه وسلم بشيء فيه رأي، وكان هذا الرأي من عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه خوفاً وحرصاً على الصحابة، ولكن مع حرص عمر ، ومع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فلا إذاً) وصل إلينا هذا الخبر، وعرفنا ما قاله، ولكن عرفناه مقروناً بقوله: (يتكلوا)، فالإنسان قد يغتر فيقول: أنا أقول: (لا إله إلا الله)، فأنا داخل الجنة، فيتكل فيكون من أهل النار في النهاية والعياذ بالله، فليحذر الإنسان من أن يغتر بكونه على الإسلام وأنه يقول: (لا إله إلا الله) فيترك العمل فيقع في معصية الله، فيكون من أهل النار.
ولولا ذكاؤه ما أرسله الكفار إلى النجاشي ليأتي بالمسلمين المهاجرين هنالك، وقد كاد للمسلمين كيداً حتى إن عبد الله بن أبي أمية بن المغيرة الذي كان معه خشي عليهم، وقال: إن بيننا وبينهم أرحاماً، فالشر الذي غلب عليه في الجاهلية جعله يريد أن يوقع بين النجاشي وبين المسلمين، وكاد يفعل، لولا أن الله سبحانه تبارك وتعالى منع حصول ذلك بإيمان النجاشي أما البطارقة فرفضوا ما يقوله المسلمون، وذلك أن عمرواً قال: هؤلاء يقولون: إن عيسى ليس الإله. فابعث إليهم واسألهم. فلما أتى بهم وسألهم خاف المسلمون، ومع خوفهم لم يقولوا إلا الحق، فقالوا: المسيح عيسى بن مريم عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم البتول. فقالوا كما قال الله عز وجل وقال النبي صلى الله عليه وسلم، فصدقهم النجاشي ، ونخرت البطارقة، ولم يعجبهم ذلك، فقال: وإن نخرتم، هو عيسى بن مريم كما قال هؤلاء، وإن هؤلاء على الحق.
ثم رجع عمرو بن العاص، وبعد سنين مَنَّ الله عز وجل عليه فأسلم، وبعدما أسلم شهد له النبي صلى الله عليه وسلم ولأخيه بالإيمان فقال: (
فـعبد الله بن عمرو بن العاص كان يبشر أباه بقوله: أليس النبي صلى الله عليه وسلم بشرك بكذا، وبشرك بكذا. قال: فأقبل بوجهه، فقال: إن أفضل ما نعد شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله. أي: أفضل شيء أعددناه لهذا اليوم كلمة التوحيد، والشهادة لله عز وجل بأنه الإله وحده.
ثم قال: إني قد كنت على أطباق ثلاث يذكر عن نفسه أن أحواله كانت ثلاثة أحوال:
قال: لقد رأيتني وما أحد أشد بغضاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم مني - يعني: في الجاهلية -، ولا شيء أحب إلي من أن أكون قد استمكنت منه فقتلته، فانظر إليه في الجاهلية! كان يتمنى أن يقتل النبي صلى الله عليه وسلم، قال: فلو مت على تلك الحال لكنت من أهل النار، فلما جعل الله الإسلام في قلبي أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: ابسط يمينك فلأبايعك. فبسط يمينه، فقبضت يدي، فقال: ما لك يا عمرو ؟ قال: قلت: أردت أن أشترط قال: تشترط ماذا؟ قال: قلت: أن يغفر لي أي: إني عملت مصائب من قبل، فشرطي لأبايعك على الإسلام أن يغفر الله تعالى لي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله)، وهنا فرح بذلك وبايع النبي صلى الله عليه وسلم.
قال: وما كان أحد أحب إلي من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أجل في عيني منه، وما كنت أطيق أن أملأ عيني من إجلاله.
فانظر إلى حب النبي صلى الله عليه وسلم في قلوبهم، وإجلال النبي صلى الله عليه وسلم! فكان لا يستطيع النظر في وجه النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يكن يطيق هذا الشيء، وهو من هو رضي الله تبارك وتعالى عنه في جاهليته وإسلامه؟
قال: فلو سئلت أن أصفه ما أطقت. أي: لو أن أحداً قال: صف لي النبي صلى الله عليه وسلم فإني لا أطيق أن أصفه صلى الله عليه وسلم؛ وذلك من شدة حيائه وإجلاله له، فما كان يطيل النظر في وجهه عليه الصلاة والسلام.
قال: لأني لم أكن أملأ عيني منه، ولو مت على تلك الحال لرجوت أن أكون من أهل الجنة. إذاً: ما الذي حصل؟
قال: ثم ولينا أشياء - يعني الإمارة ومفاسدها - ما أدري ما حالي فيها! أي: عملنا أشياء ونحن أمراء اجتهاداً، وظننا ذلك الصواب، فقد يكون هو الصواب وقد لا يكون هو الصواب، والآن جاء وقت الندم، فما أدري ما حالي فيها.
قال: فإذا أنا مت فلا تصحبني نائحة ولا نار، فإذا دفنتموني فشنوا علي التراب شناً، ثم أقيموا حول قبري قدر ما تنحر جزور يعني: لا تتركوني وتذهبوا بسرعة، ولكن اصبروا، وقفوا عند القبر وادعوا لي قدر ما تنحر جزور، ويقسم لحمها، أي: بمقدار ذبحكم جملاً وتقسيمكم لحمه، قال: حتى أستأنس بكم، وأنظر ما أراجع به رسل ربي.
ومن السنة أن الإنسان يقف على قبر المتوفى زمناً قل أو كثر يدعو فيه لهذا المتوفى، ويكون الدعاء في السر، لا كما يصنع اليوم عند المقابر، حيث تجد أحدهم يدعو والناس يؤمنون حوله؛ إذ لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك، وإنما كان يقوم النبي صلى الله عليه وسلم على القبر ويقول: (سلوا لأخيكم التثبيت؛ فإنه الآن يُسأل)، ولو كان يدعو والصحابة يؤمنون لورد عنه أنه كان يقول: اللهم ثبته وهم يقولون: آمين. ولكن هذا لم يرد.
والغرض من الحديث بيان أن المؤمن يحب البشارة وتعجبه، ولو عند الوفاة، فهي تثبته وتطمئنه.
نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من عباده المحسنين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل - اللهم - وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر