اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الإمام النووي رحمه الله: [باب النهي عن سؤال الإمارة، واختيار ترك الولايات إذا لم يتعين عليه أو تدع حاجة إليه.
قال الله تعالى: تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [القصص:83]، وعن أبي سعيد عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا
وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا
وعنه قال: قلت: (يا رسول الله! ألا تستعملني؟ فضرب بيده على منكبي، ثم قال: يا
هذا باب آخر من كتاب رياض الصالحين، يذكر فيه الإمام النووي رحمه الله النهي عن سؤال الإمارة، أي: أن المسلم لا يطلب أن يكون أميراً.
ويذكر لنا النبي صلى الله عليه وسلم العلة من ذلك فيقول: لا تطلب الرياسة، ولا تطلب الإمارة، فإذا أتتك فخير تعان عليها، وإذا لم تأتك لم تكن قد طمعت في شيء لم تصبه، ولعلك تطمع فيه وتصيبه ولا تعان عليه.
فالجنة في الدار الآخرة يجعلها الله سبحانه وتعالى للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً، لا يريدون أن يعلوا، لا يريدون أن يفسدوا، بل يريدون أن يتواضعوا، ومن تواضع لله رفعه الله، وأبى الله أن يرفع شيئاً إلا وضعه، والتواضع من الضعف، فإن كان يجعل نفسه قليلاً شأنه، فيتواضع ويحقر من شأن نفسه، فقد عرف قدر نفسه، فهو عند الله عز وجل له منزلة عظيمة، ويرفعه الله سبحانه.
فالإنسان الذي يرى نفسه عظيماً ويرى أنه يستحق أن يعظم، يأبى الله إلا أن يضعه، فمهما ترفع على الخلق احتقره الخلق، حتى وإن أظهروا له المحبة، وإن أظهروا أنهم يشرفونه ويرفعونه، ولكن يأبى الله إلا أن يحقره، ويجعله حقيراً عند الخلق، فأبى الله أن يرفع شيئاً إلا وضعه.
وحديث النبي صلى الله عليه وسلم في هذا المعنى معلوم، وذلك لما كانت العضباء وهي ناقة النبي صلى الله عليه وسلم سريعة جداً، ففي يوم من الأيام جاء أعرابي على قعود، أي: راكب على جمل فسابق العضباء فسبقها، فحزن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لهم: (أبى الله أن يرفع شيئاً إلا وضعه).
فالنبي صلى الله عليه وسلم يطمئنهم بذلك، ويطيب خاطرهم، ويخبرهم أن الله أن يرفع شيئاً من الأشياء إلا وضعه الله سبحانه وتعالى، والإنسان في الدنيا لا يزال يرتفع ويرتفع ويرتفع إلى حد معين، فينخفض بعد ذلك في هذا الحد إلى أن يرجع إلى أصله مرة ثانية، فيأبى الله أن يرفع شيئاً ويدوم له الارتفاع، فالله وحده له الكمال سبحانه، والله هو الخافض الرافع سبحانه وتعالى، يخفض ما يشاء، ويرفع ما يشاء.
فقوله صلى الله عليه وسلم: (أبى الله أن يرفع شيئاً إلا وضعه)، يعلم المسلمين أن يتواضعوا، وأنك مهما ارتفعت فلا تفرح بارتفاعك، ولا تفرح بغرور الدنيا، فالإنسان يفرح بشبابه، ويفرح بقوته، ويفرح بماله، فيأتي عليه زمان يفقد فيه المال، ويفقد فيه شبابه، وينتقل إلى الهرم والشيخوخة، ويأتي عليه زمان يفقد فيه قوته وهكذا.
فلا تفرح بشيء تبختراً، فلابد أن تستمع إلى النصح وإلى الحق من غيرك، ولا تظن أنك في غنى عن الناس؛ فإن الله يأبى أن يرفع شيئاً إلا ويضعه.
فقد كان قارون من بني إسرائيل، وكان الأحرى بهذا الإنسان أن يأتسي بموسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وهو يعرف أنه نبي الله عليه الصلاة والسلام؛ ولكن لاختلاط قارون بفرعون، ولكثرة أموال قارون أعجب بنفسه، فوافق فرعون في شغله بملكه، وهامان شغلته وزارته، وقارون شغله ماله، وكل منهم أرانا الله سبحانه وتعالى فيهم الآيات.
فهذا فرعون أهلكه الله وأغرقه وهو يظن أنه يدرك موسى ومن معه ويأتي به، فإذا بالله عز وجل يملي له، ثم يهلكه.
وهذا موسى الذي كان مستضعفاً، وكان قومه مستضعفين، فآمنوا بالله سبحانه، فإذا بالله يمكن لهم في الأرض، ويجعلهم الوارثين ويفعل الله ما يشاء.
فقد كان قارون من قوم موسى فبغى عليهم، وآتاه الله من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة، فنصحه قومه، وقالوا له: لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ [القصص:76]، فأبى إلا أن يكون مثل فرعون، ففرعون له ملكه وماله، فأراد أن يقلد فرعون فيما هو فيه، ولا يستمع لـموسى ولا لنصحه، ولا ينظر إلى بني جلدته من بني إسرائيل، أنهم قوم مستضعفون فآمنوا مع رسول الله عليه الصلاة والسلام، وحاول أن يعلو ظناً منه أنه أحسن منهم.
خرج قارون على قومه في زينته مفتخراً يريهم أمواله، ويريهم حلله، ويريهم قوته وشبابه وجماله، فإذا بالله يأمر الأرض فأخذته هو ومن معه، فضاع الرجل وضاع ماله، قال تعالى: فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ [القصص:81]، وعقب ذلك ربنا سبحانه بقوله: تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ [القصص:83]، أي: هذه الجنة العظيمة نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [القصص:83]، فالذي يتقي الله له العاقبة الحسنة، والذي يكفر بالله سبحانه له ما رأينا من آيات الله سبحانه وتعالى فيه في الدنيا، ثم النار في الآخرة.
قال: أو تدع حاجة إليه، أي: إذا دعت الحاجة إلى ذلك، والناس لم يجدوا إلا هذا، فهو معذور في هذا الشيء، وهنا قال صلى الله عليه وسلم: (إنك إن أعطيتها -أي: الإمارة فكنت أميراً على الناس- عن غير مسألة أعنت عليها، وإن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها)، وطالب الإمارة العادة أنه لا يعان عليها، ولهذا قال: (وكلت إليها) أي: تركت ونفسك إليها، أي: لن يعينك عليها.
كفارة اليمين إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون به أهليكم، أو كسوتهم، أو تحرير رقبة.
إذاً: تطعم عشرة مساكين، والسائل دائماً يقول: أو أصوم ثلاثة أيام، ونحن نقول لك: ليس لك أن تصوم ثلاثة أيام، إلا إذا لم تقدر على إطعام عشرة مساكين، فأنت معذور أن تصوم ثلاثة أيام.
فإذا كنت تستطيع أن تصوم ثلاثة أيام، وتقدر أن تطعم عشرة مساكين، فكفر بالإطعام، فإذا صمت لم يجزئ عنك، فإذا كنت تستطيع إطعام عشرة مساكين فيلزمك إطعام عشرة مساكين، ولا يجزئ عنك الصوم؛ لأن الله عز وجل لم يبدأ بصيام ثلاثة أيام، بل قال: فَمَنْ لَمْ يجد فصيام ثلاثة أيام [المائدة:89]، أي: أن الذي لا يستطيع إطعام عشرة مساكين هو الذي يلزمه أن يصوم ثلاثة أيام.
والآية فيها الجواب: مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ [المائدة:89]، أي: الطعام الوسط الذي تطعمه أهلك، (من أوسط ما تطعمون أهليكم)، فمن أكلك الوسط الذي لك ولأسرتك تطعم عشرة مساكين، ولعلك قد تأكل وجبةً تكلفك عشرين جنيهاً، لكن لا يتكرر هذا الشيء، وقد تأكل وجبةً تكلفك نصف جنيه، لكن لا يتكرر ذلك، فالغالب أنك تأكل وجبةً تكلفك ثلاثة جنيهات، إذاً: تطعم المسكين من مثل هذه الوجبة.
ولا يجوز دفع المال كفارة؛ لأنك قد تدفع المال للمسكين فيأخذه فيشتري به شيئاً آخر غير الطعام الذي أمرت أن تطعمه، فقد يأخذ المال ويشرب به الدخان، فعلى ذلك أنت لم تطعم هذا المسكين.
وقد يأخذ المسكين المال منك ومن الثاني ومن الثالث ويذهب ويشتري به حذاء، أو يشتري بها ثوباً، والله أمر: كسوة عشرة مساكين، وليست بكسوة مسكين واحد، فعلى ذلك تطعم عشرة مساكين وليس واحداً.
فإذا قيل: هل من الممكن أن نطعم مسكيناً واحداً عشرة أيام؟ الجواب: إذا كان هناك ضرورة، ولم يوجد مساكين، ولكن لو فرضنا أن قيمة الوجبة خمسة جنيهات، فتكون خمسين جنيهاً للمسكين، فتعطيه خمسين جنيهاً فيشتري بها أحذية فهنا لم تأت بالكسوة المطلوبة منك، ولم تطعم الطعام الذي أمرت به.
ولذلك الشريعة أمرتك بإطعام عشرة مساكين، فإن قلت: قد أطعم عشرة مساكين فيأخذ المساكين الوجبات ويبيعونها، فهنا فعلت ما عليك، ولا تلزمك الشريعة بأكثر من ذلك.
إذاً: إذا أردت أن تطعم في كفارة اليمين عشرة مساكين فلا بد من عشرة، فإذا تعذر وجود عشرة مساكين أطعمت خمسة مساكين، كل مسكين يومين، والإطعام يكون من طعامك الوسط، وجبة لكل مسكين، فتطعم عشر وجبات، فإذا تعذر وجود العشرة جاز أن تطعم مسكيناً عشرة أيام.
وجاء للنبي صلى الله عليه وسلم في المدينة، وكان يصدع بالحق رضي الله تبارك وتعالى عنه، إذ كان أبو ذر صدوعاً بالحق، وكان ذلك سبباً في أن الناس يبتعدون عنه، وفي آخر حياته أمره عثمان رضي الله تبارك وتعالى عنه أن يكون في الربذة، وقال: أنت شديد على الناس، فـأبو ذر كان شديداً على الناس، فكان يأمرهم، وكان مذهب أبي ذر أن من كان معه فائض من المال فيجب عليه أن يخرجه، وأن يتصدق به، أي: أن الفائض من المال ليس من حقك أن يبقى معك، ولم يعلم أن هذا يجوز، فإن النبي صلى الله عليه وسلم نزل عليه الوحي في تحريم ذلك، ثم نزل الوحي بعد ذلك بالترخيص في ذلك، فـأبو ذر اطلع على الأمر الأول فعلم أنه لا بد من المواساة بالمال، فلما نزلت الزكاة وتقدير الأنصبة في الزكاة، فكان للناس أن يدخروا، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لـسعد بن أبي وقاص : (إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير لك من أن تذرهم عالة يتكففون الناس)، فدل هذا على أنه يجوز للإنسان أن يدخر من ماله حتى يترك للورثة بعده.
لكن أبا ذر رضي الله عنه لم يطلع على ذلك، فكان يخرج على الناس في مجالسهم وفي حلقاتهم، ويأمرهم بذلك، ويحدثهم بحديث النبي صلى الله عليه وسلم، فكان هذا الأمر يضايقهم، أنه كلما رآهم يأمرهم بأن يتصدقوا بجميع أموالهم، فتضايق الناس منه، فشكوه لـعثمان رضي الله عنه، فلما رفض أن يسكت، وقال: طالما أنا بين الناس فسوف آمرهم بهذا، فلما أخبروه بأن الأمر فيه سعة، وهذا كان في وقت الضيق، أبى إلا أن يحدث بما سمع رضي الله تبارك وتعالى عنه.
فأمره عثمان رضي الله عنه أن يعتزل الناس، طالما أنه يرفض أن يحدث إلا بذلك فليعتزل الناس.
إذاً: أبو ذر كان شديداً، وهنا قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (إني أراك ضعيفاً)، فالشدة شيء، والقوة على العمل شيء آخر، فالقوة على أداء الأمانة هذا هو شيء آخر تماماً، أن يكون الإنسان أميراً على الناس ويقيم فيهم شرع الله سبحانه وتعالى، ويؤلف الناس حوله ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ولا ينفرهم، هذا هو الذي لا يقدر عليه أبو ذر رضي الله تبارك وتعالى عنه، ولذلك قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (إني أراك ضعيفاً).
فليست مهنتك الإمارة ولست أهلاً للإمارة، فإن الإمارة لها أهلها، وأنت لست أهلاً لها، وقال له صلى الله عليه وسلم: (وإني أحب لك ما أحب لنفسي)، يحب لنفسه صلى الله عليه وسلم الخير ويحب لـأبي ذر ذلك، فأنت يا أبا ذر لا تطيق ما أطيقه أنا، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان هو القائم على أمر المسلمين عليه الصلاة والسلام، وهو الذي يأمرهم ويقيم فيهم شرع الله سبحانه، لكن أبا ذر كان ضعيفاً، لا يقدر على ذلك، فقوله: (أحب لك ما أحب لنفسي) أي: أحب لك الخير كما أحب لنفسي الخير، ولكن فرق بينه وبينه، فالنبي صلى الله عليه وسلم قادر على أداء هذه الأمانة؛ ولذلك اختاره رب العالمين رسولاً للعالمين وللخلق كافة، إنسهم وجنهم عليه الصلاة والسلام.
و أبو ذر لا يقدر على ذلك، فقال له: (إني أحب لك ما أحب لنفسي)، أي: أحب لك من الخير ما أحب لنفسي، فأنصحك في ذلك.
قال: (لا تأمرن على اثنين)، أي: لا تكن أميراً ولو حتى على اثنين، فإذا كنتم مسافرين معاً فلابد من الإمارة وأنت لا تصلح لذلك.
قال: (ولا تولين مال يتيم)، أي: لا تتول مال يتيم خوفاً عليه من نفسه، وخوفاً عليه من مال اليتيم، ووقد رأينا أبا ذر رضي الله عنه حتى آخر حياته يصدع بالخير، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فليس هذا خوفاً عليه أن يفتن رضي الله عنه، ولكن لا يقدر أن يقوم بحق هذا المال.
وكم ترى من إنسان يموت وهو يعول اليتيم ويقول: لا تحط المال في مكان كذا، لكيلا يكون فيه ربا.. فيأخذه ويشغله، ولكنه يأكله، ويضيع على اليتيم ماله.
ولذلك نقول: إذا كان هناك أيتام فالأولى أن توضع أموالهم مع الدولة، حتى لا يضيع المال على الأيتام بدعاوى كثير من المدعين، وكم سمعنا وكم رأينا من ذلك، إذ يأخذ مال اليتيم ويشغله له، فإما أن يهرب، وإما أن يخسر فيضيع مال اليتيم، فلذلك النبي صلى الله عليه وسلم حذر أبا ذر ، فأنت من باب أولى أن تبعد عن مال اليتيم، ولا تتدخل بمال اليتيم، ولا تقل: أشغله له، وإذا أردت أن تتصدق على اليتيم فأعطه صدقةً مما معك.
أما أن تأخذ مال اليتيم فاحذر من مال اليتيم، قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا [النساء:10]، وهنا قال النبي صلى الله عليه وسلم لـأبي ذر : (ولا تولين مال يتيم).
فالنبي صلى الله عليه وسلم ضرب بيده على منكبه رضي الله تبارك وتعالى عنه ثم قال: (يا
قال: (إنك ضعيف وإنها أمانة - الإمارة أمانة - وإنها يوم القيامة خزي وندامة)؛ لأن الأصل فيها أن كل أمير في الدنيا يأتي بخزي وندامة يوم القيامة، ويقول: يا ليتني ما توليت شيئاً، قال: (إلا من أخذها بحقها، وأدى الذي عليه فيها)، وكل الناس يزعم أنه لو كان الأمير أو الرئيس لفعل من الخير ما فعل، فهنا الإمارة ليست في التمني، إنما الإمارة في الحقيقة، فكم من إنسان تمنى ونال وضيع دينه وضيع أمانته وغرته الرياسة وغرته الأمانة، هل رأيتم الرئيس الذي كان مسلماً، ومن أجل أن يكون رئيساً على النصارى تنصر؟! وهو كارلوس منعم ، كان مسلماً وتنصر حتى يكون رئيساً على الأرجنتين، الإنسان في الدنيا تراه في دين ربه سبحانه وتعالى، ولا يدري متى تأتيه الفتن، فتراه يجاري ويجاري مع الناس إلى أن يضيع هذا الإنسان في النهاية، ويتسمى بأسماء غير المسلمين طلباً للدنيا فخسر الدنيا والآخرة.
فتكون الأماني لكل من كان هذا مثاله، يقول: اليوم سأعمل وغداً سأتوب، ولا يأتي هذا الغد، ويفرح بما هو فيه.
وهذا هرقل عرف أن النبي صلى الله عليه وسلم رسول حق، وكاد يسلم ويدخل في دين النبي صلى الله عليه وسلم، وفي النهاية لما قال لقومه: اتبعوا هذا النبي صلى الله عليه وسلم، وجدهم هاجوا، وكان قد أقفل عليهم الأبواب، فقال لهم: إنما أنا أمزح معكم، وأختبركم هل أنتم متمسكون بالدين أم لا؟ مع كونه سأل أبا سفيان عشرة أسئلة أو أكثر، والأسئلة كلها تدل على ذكاء خارق لهذا الإنسان، وعلى أنه فعلاً فاهم وواع ويعرف تماماً أن هذا نبي صلوات الله وسلامه عليه.
ففي أسئلته لـأبي سفيان قال: قلت لك: هل كان من آبائه ملك؟ فقلت: لا، فقلت: لو كان في آبائه ملك لقلت: هذا رجل يطلب ملك أبيه، وسألتك: هل يتبعه ضعفاء الناس أم أقوياء الناس؟ فذكرت أنهم ضعفاؤهم، وكذلك أتباع الرسل، وسألتك هل يكذب؟ فذكرت: أن لا، وقد أعلم أنه لم يكن ليدع الكذب على الناس، ثم يكذب على الله، وسألتك: هل يرتد أحد منهم سخطة لدينه؟ فذكرت: أن لا، وكذلك الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب، فقد كان رجلاً واعياً حينما سأل أبا سفيان وأجابه بما أجابه، وفي النهاية كاد يسلم، وإذا به يطبع على قلبه فلا يسلم، ويظل على ما هو فيه من كفره.
فلذلك الإنسان لا يغتر بإمارته، فإن النبي صلى الله عليه وسلم يخبرك أنك إذا كنت ضعيفاً فابتعد عن هذه الأشياء ولا تطلبها، فإذا أتتك من غير طلبك فسوف يعينك الله عز وجل عليها، قال عليه الصلاة والسلام: (إنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها، وأدى الذي عليه فيها).
فقوله: (أخذها بحقها) أي: عمل بالحق وأدى الواجبات التي عليه، فيكون له ذلك نجاة يوم القيامة.
وقد عرفنا في حديث النبي صلى الله عليه وسلم أن الذي يطلب القضاء لا يعان عليه، قال: فكأنما ذبح بغير سكين، هذا الذي يطلب القضاء ويناله كأنما ذبح بغير سكين.
ويتخلى عن الإنسان يوم القيامة أتباعه وأشياعه وجنوده، ويأتي وحده ليسأل عن كل ما كان تحت يديه، ولذلك فالإنسان يتفكر أنه سوف يسأل عن نفسه، وعن أولاده، والذي يتولى زمام الأمور والذي يكون رئيساً على الناس سوف يسأل عن كل الناس الذين تحته، فيا ترى متى سينهي الله حسابه؟ ولذلك على المسلم ألا يطمع نفسه في ذلك، ولا يحرص عليها، فلا خير فيها.
نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر