قال الإمام النووي رحمه الله: [ باب: حسن الخلق ]
قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4].
وقال تعالى: وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران:134].
عن أنس رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقا) متفق عليه.
هذا الباب من كتاب رياض الصالحين يذكر فيه الإمام النووي حسن الخلق.
إن أعظم ما يتخلق به الإنسان، وأعظم ما يرتجي عليه الأجر من الله سبحانه حسن الخلق.
وإن حسن الخلق يستطيع به الإنسان أن يسع الناس، لا أن يسع الناس بماله، لا أن يسع الناس بخدماته، ولكن يسعهم بحسن خلقه، فحسن الخلق عظيم، وهو منة من الله سبحانه وتعالى، إذا وهبها لأحد فهي بشارة لهذا الذي وهبه أنه محبوب عند الله سبحانه وتعالى.
أدبه ربه ورباه سبحانه وتعالى، ورزقه حسن الخلق، وقال مادحاً له: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4].
وقال مبيناً أن هذا الخلق فضل من الله سبحانه: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159] فبرحمة من الله سبحانه أعطاك حسن الخلق موهبة منه عز وجل.
فقوله تعالى: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ [آل عمران:159] أي: فبحسن خلق الإنسان يلين للخلق، وبسوء خلقه يتعالى ويستكبر على الخلق.
وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ [آل عمران:159] أي: لو كان فيك جفاء، وكنت غليظاً قاسي القلب، لانفض الناس وابتعدوا من حولك، ولكن الله جمعهم حول النبي صلى الله عليه وسلم حباً له لما فيه من حسن الخلق، ولين الجانب، وحسن الطباع والأخلاق، صلوات الله وسلامه عليه.
هؤلاء من أحسن الناس أخلاقا، فالكاظم الغيظ: هو الإنسان يكظم غيظه، فيؤجر عليه أجراً عظيماً من الله سبحانه وتعالى، وإن أعظم شيء يكظمه الإنسان، وأعظم جرعة يتجرعها، هو غيظ يكظمه ابتغاء وجه الله سبحانه وتعالى، ولذلك هؤلاء الذين يكظمون غيظهم، ينادي عليهم ربهم يوم القيامة، ويخيرون من أي الحور العين شاءوا؛ لأنهم كظموا غيظهم في الدنيا، وعفوا عن الناس، فلذلك يخيرون يوم القيامة أمام الخلق جميعاً بياناً لفضيلتهم.
قال تعالى: وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ [آل عمران:134] فالعفو عن الناس خلق عظيم، وكثير من الناس ينظر إلى العفو أنه خصلة الإنسان الضعيف الذي لا يقدر أن يأخذ حقه، ويأخذ بثأره، فيعفو ويكظم غيظه، لكن لو كان قادراً لفعل، فالله يبين لنا أن الإنسان الذي يكظم غيظه أهل لمحبة الله، وأهل لأن يكون من المحسنين، قال تعالى: وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران:134] فهذا محسن وليس مسيئاً، وهو ممن يحبه الله سبحانه؛ لأنه كظم غيظه وعفا عن الناس.
حديث أنس رضي الله عنه، قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقاً) وحق له صلوات الله وسلامه عليه، فهو رسول الله الذي رباه ربه تبارك وتعالى، فلا أبوه حي يربيه، ولا أمه تربيه، إنما الذي رباه هو ربه سبحانه وتعالى، ووهبه الخلق الحسن، فقال: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4] فقد كان أحسن الناس خلقاً صلوات الله وسلامه عليه.
وقد كان أهل الجاهلية بعد الإسلام وقبل الإسلام يلقبونه بالصادق الأمين، الذي لا يخون، ولا يغدر، بل يفي بالعهود والمواثيق، فإذا اختلفوا حكموه بينهم وهو شاب صغير عليه الصلاة والسلام.
فلما نزل عليه الوحي زاده من فضل الله سبحانه وتعالى أخلاقاً عظيمة، علمه ربه، ورباه، وأدبه سبحانه وتعالى، فمن عليه بذلك، وعرفنا أن الفضل بيد الله يعطيه من يشاء، فكان أحسن الناس خلقا.
فهذا أنس الذي خدم النبي صلى الله عليه وسلم وهو صبي له عشر سنوات، حتى توفي النبي صلى الله عليه وسلم، وعمره عشرون سنة، قال: (ما مسست ديباجاً ولا حريرا ألين من كف رسول الله صلى الله عليه وسلم) يذكر أنه يمس يده صلى الله عليه وسلم عندما يسلم وليست يده قاسية ولا غليظة، فليس هو الشديد الذي يقسو ويجمد على من يسلم عليه، ولكن يده كريمة عليه الصلاة والسلام وناعمة، وإن كان هو أقوى الناس عليه الصلاة والسلام.
يقول الصحابة: كنا إذا احمر البأس اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم، وكنا نتحدث أنه أعطي قوة أربعين رجلاً عليه الصلاة والسلام، هذا أمية بن خلف أقسم أن يقتل النبي صلى الله عليه وسلم، فجهَّز فرسه، وجهز رمحه، وركب الفرس وانطلق، فقام الصحابة يريدون أن يدافعوا عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (دعوه، فأنا قاتله إن شاء الله).
والنبي صلى الله عليه وسلم ليس راكباً وليس لديه سلاح، فأخذ رمحاً عليه الصلاة والسلام لا نصل له، وهذا الرجل قد تجهز على فرسه، وجاء برمحه، يريد قتل النبي صلى الله عليه وسلم، فما أن جاء الرجل وهو يعدو على فرسه، حتى استقبله النبي صلى الله عليه وسلم برمح لا نصل فيه، فوجأه في عنقه، فأسقطه عن دابته، فرجع إلى قومه وهو يصرخ، فقالوا له: لا بأس عليك، إذا ضربك برمح ليس فيه نصل، لن يحصل لك شيء، فقال: إنه أخبر أنه قاتلي، وهو لا يكذب! فقتل الرجل بذلك.
هذا النبي الصادق الأمين عندما يسلم على أصحابه، يربت على صدورهم، ويسلم عليهم بيد ليِّنة، يقول أنس وكان صغيراً رضي الله تعالى عنه: (ما مسست ديباجاً ولا حريراً)والديباج من الحرير، أي: حريراً غليظاً ولا حريراً ناعماً ليناً (ألين من كف رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا شممت رائحة قط أطيب من رائحة رسول الله صلى الله عليه وسلم) فرائحته صلى الله عليه وسلم أطيب من الطيب، وكانوا إذا أرادوا تطييب طيبهم ينتظرون نوم النبي صلى الله عليه وسلم فيعرق، وكانوا قد فرشوا له جلداً عليه الصلاة والسلام، وكان غزير العرق عليه الصلاة والسلام، فيأخذون من عرقه يطيبون به طيبهم صلوات الله وسلامه عليه.
قال: (ولقد خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين، فما قال لي قط: أف) عشر سنوات وهو يخدم النبي صلى الله عليه وسلم، وهو صبي صغير لابد أن يخطئ، ولابد أن يفعل أشياء تضايق النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان أحياناً يرسله ليأتيه بشيء، فيذهب ويلعب وينسى الشيء الذي أمره النبي صلى الله عليه وسلم، ويأتي إليه النبي صلى الله عليه وسلم ويقول: يا غلام! فيستحيي أنس من النبي صلى الله عليه وسلم، فيقول له النبي صلى الله عليه وسلم: اذهب لما أمرتك، ولا يقول له أكثر من ذلك صلوات الله وسلامه عليه.
يقول أنس رضي الله عنه: (ولقد خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين، فما قال لي قط: أف، ولا قال لشيء فعلته لمَ فعلته) أي: لم يقل له: ما الذي جعلك تفعل كذا، (ولا لشيء لم أفعله) أي: تلكأ فيه، ولم يفعله، (ألا فعلت كذا!) فكان صلى الله عليه وسلم لا يزجره وإن أخطأ رضي الله تعالى عنه، هذا فعله مع خادم عنده صلى الله عليه وسلم، فكيف بفعله مع باقي الناس!
فقد أهدى الصعب بن جثامة النبي صلى الله عليه وسلم وهو محرم بالحج هدية، وذلك أن الصعب اصطاد حماراً وحشياً ولم يكن الصعب محرما، فلذلك يجوز له أن يصطاد ما ليس في الحرم، فاصطاد وأهدى ما اصطاده للنبي صلى الله عليه وسلم، فرده النبي صلى الله عليه وسلم، فكأن الرجل كره أنه أهدى هدية للنبي صلى الله عليه وسلم فردها عليه، وشرف للصعب أن يهدي للنبي صلى الله عليه وسلم هدية ويقبلها.
فلما لم يقبلها اعتذر النبي صلى الله عليه وسلم عن عدم قبولها، فقال صلى الله عليه وسلم: (إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم).
فإذا سأل سائل: هل يحرم عليه أن يقبل مثل هذه الهدية صلى الله عليه وسلم؟
فالجواب: جاء حديث آخر عنه صلى الله عليه وسلم أن ما يصطاده الحلال إذا لم يكن صاده من أجل المحرم، فيجوز أن يأكله، إذاً: صيد البر حلال، إذا لم يصده المحرم، ولم يصد له.
فهذا الرجل صاد صيدا وخشي النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون صاده من أجله، فقد صاد هذا الحمار الوحشي من أجل أن يهديه النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يجوز له أن يأكله صلى الله عليه وسلم، فبين العذر في عدم القبول، وقال: امتنعنا من ذلك لأنا حرم.
وهذا القول فيه التلطف في الاعتذار، وعدم إيقاع الغير في الاعتذار بالكذب، لعله يقول له صلى الله عليه وسلم: أنا خائف أنك تكون اصطدته من أجلي، فيقول: لا، لم أصطده من أجلك، ويكون قد صاده فعلاً من أجله، ولكن الحياء منعه أن يقول ذلك، لذلك قال الكلمة اللطيفة منه صلى الله عليه وسلم: (إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم).
ففيه أن الإنسان إذا أهدي له هدية، ولم يكن عليه شيء في قبولها، فليقبل الهدية، فإذا تأذى منها أو ظن من ورائها شيئاً، تلطف في الاعتذار.
فهذا الرجل يسأل النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه يريد أن يعمل براً، والبر: كلمة تجمع مجامع الخير كله، من صلاة وصيام وزكاة... إلخ.
فلم يقل له النبي صلى الله عليه وسلم ذلك؛ لأنه صعب، ولكن قال له النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً آخر، فقد علم النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا يعلم أشياء من الدين، ولكن مجامع الدين في حسن الخلق، فإذا كان خلقه حسناً، فإنه سيكون مع حسن الخلق، قبول النصيحة، والتعلم، وسيعرف دين الله سبحانه وتعالى؛ لأنه اشتمل على حسن الخلق، ويبتغي وجه الله سبحانه، فيصل إلى مجامع البر والإحسان، بحسن الخلق، الذي يجعله لا يستكبر وهو متعلم، ولا يستكبر وهو عالم، فيعلم من يحتاج إلى ذلك.
فالإنسان إذا حسن خلقه كان على خير، وكان جديراً بأن يعلمه الله، وأن يرزقه العمل بما يعلمه، ويرزقه حب الخلق له.
قال: (والإثم ما حاك في نفسك، وكرهت أن يطلع عليه الناس).
فكل إنسان في قلبه ما يدله على الشيء إن احتار فيه، فالحلال بين والحرام بين، وبعض الأشياء تكون فيها شبهات، هذه الأمور تشتبه على الإنسان، فيقال لك: استفت قلبك وإن أفتاك الناس وأفتوك، ومن الممكن أن تسأل إنساناً، ويجيبك بما تريده أنت، بناء على فهمه لسؤالك، ومن الممكن أن يسأل الإنسان نفسه سؤالاً وهو جالس، ويضع له قيوداً بحيث يأخذ الجواب على مزاجه في هذا السؤال.
فلما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الإثم ما حاك في نفسك) فمعناه أنك ستعمل شيئاً ثم أنت شاك فيه.
فإذا كنت تستحي أن تصنع هذا الشيء أمام الناس، فاعلم أنه من الإثم، فالإثم ما حاك في نفسك، وتخاف أن تفعل ذلك أمام الناس، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: (وكرهت أن يطلع عليه الناس).
وهذا الحديث في صحيح مسلم.
يقال: فلان فاحش، أي: بطبعه، فطبعه فيه الفحش.
(ولا متفحشاً) أي: متكلفاً لذلك، فمن الممكن أن يكون الإنسان مهذباً، ولكن وجد نفسه في وسط مجموعة من أصدقاء السوء، فأخذ يقلدهم، ويفعل مثلهم، ويتكلم بلسانهم، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أبر الخلق، لا هو فاحش بطبيعته، ولا يتكلف ذلك عليه الصلاة والسلام، فهو أنقى الناس لساناً وقلباً.
وفي الحديث بقية وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (إن من خياركم أحسنكم أخلاقا) أي: إن من خيار الناس في الناس أحاسنهم أخلاقاً.
والميزان غيبي نؤمن به، إذْ يحضر الإنسان ميزانه يوم القيامة، فإما أن يخف وإما أن يثقل، فإذا خف هوى في النار والعياذ بالله، وإذا ثقل بأعمال صاحبه، يكون من أهل الرجحان، ومن أهل الجنة، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أهلها.
فأثقل الأشياء التي تثقل الميزان يوم القيامة، كلمة: لا إله إلا الله، فالأفعال التي يفعلها العباد من طاعات، ومن بر ومن إحسان تثقل الميزان، فأثقل ما يثقل الميزان يوم القيامة للإنسان المؤمن، هو تحصيل كلمة: لا إله إلا الله، ولكن من أعظم ما يثقل ميزانهم: حسن الخلق. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من حسن الخلق، والله يبغض الفاحش البذيء).
فالإنسان إذا كان لسانه بذيئاً فاحشاً يبغضه الله سبحانه وتعالى، وإن أحبه البعض ممن هم على شاكلته، فإن الطيور على أشكالها تقع، فالإنسان البذيء محبوب إلى أهل البذاءة والسفاهة، ولكنه بغيض إلى أهل الإيمان.
لذلك فإن الإنسان المؤمن، عفيف اللسان، إذا تكلم فصوته منخفض، لا يتكلم بالفحش من القول، ولا يشتم أحدا، ولا يسب أحدا، ولا يلعن شيئا، فالمؤمن حسن الخلق، والإنسان قد يكون يتكلم بالكلمة لا يلقي لها بالاً -كما قال النبي صلى الله عليه وسلم- تهوي به في النار سبعين خريفاً، أي: سبعين سنة، كأن يشتم إنساناً، أو يلعن إنسانا، أو يشتم أبا إنسان، أو أم إنسان، ويتكلم بغيبة ونميمة، أو بكلام بذيء يقوله، ولم يكن على باله أنها تودي به في مصيبة، فتهوي به في النار سبعين خريفاً.
هذا الإنسان حين يكون على الصراط، وهو يحاول أن ينجو من النار، فهو يمشي تارة ويكبو تارة، وتارة تلفحه النار، فتأتي هذه الكلمة الخبيثة التي قالها، فتجعله يسقط في نار جهنم سبعين خريفاً.
تقوى الله، أي: يتقي العبد ربه سبحانه وتعالى، ولا يقع في المعاصي، ولا يتكلم إلا بما يرضي الله سبحانه وتعالى، فإن تقوى الله تدخل الإنسان الجنة.
وكذلك حسن الخلق من أكثر ما يدخل العبد الجنة.
و(سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أكثر ما يدخل الناس النار، فقال: الفم والفرج).
لأن فم الإنسان يأكل حراما، وينطق بحرام وفحش، فيدخله النار والعياذ بالله، وأكثر أهل النار دخولاً النار بذلك، والفرج يقع في الزنا، ويقع في الحرام والعياذ بالله، وهذا أكثر ما يدخل الناس النار.
فقوله: (أكمل المؤمنين إيماناً) أي: أن المؤمن يتقي الله سبحانه، ويعمل الأعمال الصالحة، فهو يبتغي الكمال في الإيمان، فهو يحلي إيمانه وعمله بحسن الخلق، فيصير إيمانه كاملاً، بل أكمل المؤمنين إيماناً هذا الذي هو على حسن الخلق، وأكمل الخلق إيماناً هو نبينا صلوات الله وسلامه عليه الذي مدحه ربه فقال: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4].
وقال صلى الله عليه وسلم: (وخياركم خياركم لنسائهم) وهذا فيه حث للرجال على أن يحسنوا إلى زوجاتهم، فقد يتخلق الإنسان بحسن الخلق مع الإنسان الغريب، ولكن مع أهله يكون فظيعاً، يكون ذا لسان يقع في المرأة ويشتمها، ويشتم أباها.
فالإنسان يكون على حسن الخلق في كل أحواله، كذلك مع أهل بيته، وهم أحق أن يتحلى الإنسان بحسن الخلق معهم، ومع غيرهم، فالذي يكون حسن الخلق له سجية وطبيعة يتعامل مع زوجته، ومع أولاده، ومع جاره، ومع الغريب ومع كل الناس بحسن الخلق، فأحسن الناس خلقاً من اتقى الله سبحانه وتعالى، وحسن خلقه مع الناس، ومع أهله خاصة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خياركم خياركم لنسائكم).
وكذلك المرأة تكون مع زوجها حسنة الأخلاق، لا ترفع صوتها على زوجها، ولا تخونه، ولا تخبئ عنه مالها، ولا تغدر به، وتفعل في غيابه خلاف ما تقوله أمامه.
فلابد أن تكون المرأة مع زوجها أمينة، فهي مؤتمنة على مال زوجها، مؤتمنة على عيالها، لا تأخذ من ورائه مالاً وتنكر أنها أخذت مالاً.
فالرجل يتعامل مع امرأته بحسن الخلق، وتكون المرأة مع زوجها كذلك؛ لأنهما يتعاملان مع الله سبحانه وتعالى.
والتعامل مع الله سبحانه أن يخاف من العقوبة يوم القيامة، وأنه سيسأله لماذا فعلت هذا الشيء، فيخاف أن يقع فيما يحرمه الله سبحانه.
أي: أن هناك أبواباً في الجنة: باباً للصائمين، وباباً للمصلين، وهكذا، فيأتي الإنسان يوم القيامة، فإن كان من أهل الصيام دخل من باب الصيام واسمه: باب الريان، وإن كان من أهل الصلاة دخل من باب الصلاة، وإن كان من أهل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دخل من بابها.
فالإنسان المؤمن الحسن خلقه قد لا يكون مكثراً من صيام النافلة، ولا من صلاة النافلة، ولكنه حسن الخلق، فهذا قد يدرك أن يدخل الجنة مع هؤلاء الذي أكثروا من صيام النافلة، ومن صلاة النافلة، ولم يكونوا على هذه الدرجة من حسن الخلق.
والزعيم: الضمين، أو الضامن، أو الكفيل، أو الكافل، أي: وضامن لكم، وهو الصادق المصدوق صلوات الله وسلامه عليه، يضمن لكم ذلك، لكن افعلوا ما شرطه عليكم.
وقوله صلى الله عليه وسلم (ببيت في ربض الجنة) الربض: الحوش الذي خارج البيت، والجنة لا يوجد أحد يكون خارجها، بل كلهم داخل الجنة، وكأنه يقصد هنا أسفل الجنة، والجنة درجات بعضها فوق بعض، والنار دركات بعضها تحت بعض.
فربض الجنة هنا أدنى منزلة في الجنة، ويعلوها أوسط الجنة، وأعلاها أعلى الجنة، فالنبي صلى الله عليه وسلم وعد أنه زعيم، وأنه ضمين وكفيل ببيت في أدنى الجنة.
قال: (لمن ترك المراء) أي: الجدل، فالإنسان الذي يجادل بحق أو بباطل، ينهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك؛ لأن المراء لا يأتي بخير، والإنسان حين يجادل في مسألة علمية إما أن يجادل أهل العلم، أو يجادل الناس ليظهر أنه أفضل منهم، فمن كان يجادل الناس، ويماري السفهاء بالعلم، مصيره النار والعياذ بالله، والإنسان الذي يماري العلماء ليظهر قدر نفسه، وليرى الناس أنه أعلى منهم، وأفضل منهم، مصيره النار والعياذ بالله.
وأما الذي يجادل ليحق الحق، ويجادل أهل الباطل ليعلمهم الحق، ويرد عليهم ما يقولون، فهذا يستحق الثواب.
فالأصل أن الإنسان لا يجادل المؤمن؛ لأنه لا يتعلم العلم بالجدل، وإنما يتعلم العلم بالتحصيل، ويتعلم العلم بالحفظ، وبالإتقان والممارسة؛ لأن الجدل يضيع الوقت، فيظل الإنسان يجادل حتى يضيع عليه وقت طويل، ولعله لا يعرف غير هذا الذي جادل فيه ولعله لا يتقنه، فالنبي صلى الله عليه وسلم يأمره أن يوفر على نفسه وقته، وأن يترك الجدل، فهو زعيم له ببيت في أسفل الجنة إن ترك الجدل.
والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (لمن ترك المراء وإن كان محقاً)، فكيف إن كان على باطل؟!
(وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب) أي: لا يكذب ولو مازحاً، فهذا الذي يمزح فيقول كلاماً كذبا، يقول له النبي صلى الله عليه وسلم: أنا كفيل لك إن تركت الكذب جاداً أو مازحاً ببيت في وسط الجنة لا تكذب إلا فيما يجوز: في إصلاح بين الناس، وفي كلام الرجل مع امرأته، وفي كذب إنسان في الحرب، فالحرب خدعة، لكن غير ذلك لا يجوز الكذب فيه، فيترك الكذب مازحاً أو جاداً.
قال: (وببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه).
فبحسن الخلق ينال أعلى الدرجات.
فالإنسان الذي حسن خلقه حين يمر على الصراط فإن حسن خلقه يدفعه سريعاً حتى يتجاوزه، ويدخل الجنة، ويأتي على أبواب الجنة، ويسابق أهل الصيام، وأهل الصلاة وأهل الطاعات بحسن خلقه.
هذا الإنسان الذي حسن خلقه، إذا دخل الجنة، صعد إلى أعلى الجنة بحسن خلقه، وإذا كان في أعلى الجنة كان قريباً من النبي صلى الله عليه وسلم بحسن خلقه، وأقرب الناس من النبي صلى الله عليه وسلم أحاسنهم أخلاقاً، فانظر إلى حسن الخلق كيف جمع الخير كله في الدنيا والآخرة، نسأل الله عز وجل أن يحسن أخلاقنا.
الحديث فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم يخبر عمن هو أحب الناس إليه يوم القيامة، وأقربهم منه صلوات الله وسلامه عليه في المجلس.
إذاً: هناك درجة عالية جداً في الجنة، وقريبة من النبي صلوات الله وسلامه عليه: (إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا).
قال: إن أبغضكم إلي، وأبعدكم مني يوم القيامة: الثرثارون: وهو الذي يتكلم كثيراً، رجلاً كان أو امرأة.
(والمتشدقون) المتشدق: الإنسان الذي يتطاول على الناس بكلامه، يزعم أنه فصيح وأنه بليغ، وأنه يعرف ما لا يعرفه غيره، ويتكلم بما لا يتكلم به غيره، فهو يريد أن يتفاصح على الناس، ويريهم أنه أحسن منهم، هذا المتفاصح هو المتشدق، أي: الذي يملأ شدقيه بالكلام.
(والمتفيهقون): أصله من الفهق، وهو الامتلاء وكأن هذا الإنسان يملأ فمه بالكلام وليس في عقله شيء من الفهم، ليس لديه إلا كلام يقوله فقط.
وفرق بين متفيهق ومتفقه، فالمتفقه: هو العالم الذي صار الفقه له سجية، فالإنسان المتفقه يطلب العلم الشرعي، فهو متفقه، في دينه، والمتفيقه: صغير في طلب العلم، وقد يكبر يوماً من الأيام ويصل إلى درجة فقيه.
والمتفيهق: الذي يقول الكلمة دون أن يفهم معناها وقلبه فارغ، وعقله فارغ، وليس فيه إلا لسان يتكلم به، فيفتي في دين الله وهو لا يفهم فيه شيئا، وما أكثر من يتعاطى الفتوى في كتاب الله، وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو لا يفهم شيئاً من ذلك.
فقال: إن هؤلاء أبعد الناس مجلساً عن النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة، وهم: الثرثارون، والمتشدقون، والمتفيهقون.
(قالوا: فما المتفيهقون؟ قال: المتكبرون) أي: يستكبر بشيء ليس عنده، وهو ليس من أهل العلم، فيجعل نفسه من أهل العلم، فهو المتفيهق، الذي يملأ فمه بالكلام، قال الله، وقال الرسول عليه الصلاة والسلام، وهو لا يفهم ما يقول، ولا يصح الذي يقوله.
فالمتفيهق المستكبر في العلم بما لم يحصله، هذا من أبعد الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة.
انظروا إلى حسن الخلق كيف كسب به الإنسان في الدنيا رضا الله سبحانه، ورضا الناس عنه، فلما كان يوم القيامة أدخله الله جنته، وجعله من أقرب الناس من النبي صلى الله عليه وسلم.
نسأل الله عز وجل أن يجعلنا كذلك، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر