قال الإمام النووي رحمه الله: [ باب تحريم الكبر والإعجاب.
قال الله تعالى: تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [القصص:83].
وقال تعالى: وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا [الإسراء:37].
وقال تعالى: وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ [لقمان:18] .
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر، فقال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسنة. قال: إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق، وغمط الناس) رواه مسلم .
وعن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه: (أن رجلاً أكل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بشماله فقال: كل بيمينك، قال: لا أستطيع. قال : لا استطعت، ما منعه إلا الكبر، قال:فما رفعها إلى فِيه) رواه مسلم ].
هذا باب آخر من كتاب رياض الصالحين يذكر فيه الإمام النووي رحمه الله تحريم الكبر والإعجاب.
فالكِبْر أو الاستكبار: أن الإنسان يرى نفسه كبيرة، والكُبْر يكون في السن، وأيضاً في الحجم، فإذا كان في بدنه، فالاستكبار هو أن يرى نفسه كبيراً فوق غيره، ويتعالى على غيره، ويظن نفسه أفضل من الخلق.
الكبر صفة من الصفات التي لا تكون إلا لله وحده لا شريك له، فهو المتكبر سبحانه وتعالى، وهو الكبير سبحانه المتعالي، ويأبى أن تكون هذه الصفة لأحد من خلقه؛ لأنها صفة لا تليق إلا بعظمته سبحانه، فهي له صفة كمال وجلال، ولذلك يقول: (الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني فيهما أدخلته النار).
من نازع الله في عظمته وكبريائه سبحانه فقد أتى ما لا يجوز له، إذ لا ليس لأحد أن ينازعه في ذلك، فإذا أبى الإنسان إلا أن يستكبر وأن يعطي لنفسه صفةً لا تكون إلا للخالق سبحانه، فيأبى الله أن يترك هذا على ما هو فيه حتى يذله ويذيقه الذل في الدنيا والآخرة، وأبى الله أن يرفع شيئاً إلا وضعه كما ذكرنا قبل ذلك.
فاحذر من الكبر، ويكفيك أن تعلم أنه صفة لا تليق إلا بالله، فلا يجوز لك أن تنتحل هذه الصفة، فتستكبر على خلق الله سبحانه وتعالى وأنت مثلهم.
جاء في القرآن تحريم الاستكبار، وتحريم إعجاب الإنسان بنفسه والفخر على غيره، قال تعالى: تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [القصص:83] العاقبة الحسنة في الدار الآخرة للأتقياء الأنقياء الذين قلوبهم نقية تقية، يخافون من الله سبحانه وتعالى ويحقرون أنفسهم، وينظرون إلى غيرهم على أنهم أفضل منهم، فهذا الإنسان التقي يستحق أن تكون له العاقبة العظيمة المحمودة وهي الجنة العالية.
تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ [القصص:83] (تلك) أشار باسم الإشارة الذي يشير إلى البعيد لتعظيم الجنة، وتعظيم الآخرة، يعني: هذه الآخرة العظيمة.
وفرق بين أن يقول: هذه الدار الآخرة، فهو إشارة للقريب وللشيء اليسير، ولكن إذا أشار للشيء المعروف بإشارة البعيد فهو يحمل معنى التعظيم له.
تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ [القصص:83] هذه الدار العظيمة الآخرة الباقية نَجْعَلُهَا [القصص:83] النون نون العظمة، يخبر عن نفسه سبحانه: أننا نجعلها للذين لا يستكبرون لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأَرْضِ وَلا فَسَاداً [القصص:83] فهم تواضعوا فاستحقوا أن يرفعهم الله سبحانه وتعالى، قنعوا باليسير وبالقليل من الدنيا ولم يطلبوا شهرة ولا شيئاً يعلون به على غيرهم، فإذا بالله يعطيهم أعلى الأشياء.
تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا [القصص:83] للمؤمنين المتقين الذين يبتغون في هذه الدنيا أن يحسنوا عبادة ربهم سبحانه، ويتخلقوا بالأخلاق الحسنة فيها، لا يطلبون علواً ولا يبغون في الأرض بغير الحق، لا يفسدون في الأرض، لا يريدون علواً ولا فساداً في الأرض، قال الله سبحانه: وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [القصص:83] .
نهى عباده أن يمشوا على الأرض بالمرح، وهو أشد البطر، وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا [الإسراء:37].
الإنسان الذي يمشي على الأرض يتمطط عليها فرحان بنفسه، يرى أنه لا أحد على الأرض غيره، فهو يمشي وربنا يقول له: لا تمش على الأرض مشية الخيلاء والاستكبار، لأنه يتكبر على الناس وكأنه أعلى وأعظم من غيره، متقدم بصدره أمام الناس، مصعر خده للناس.
وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا [الإسراء:37] ، مهما بلغت من قوة، لو ضربت الأرض بقدمك انكسرت قدمك أنت ولم تكسر الأرض، لو تعاليت وانتفخت في نفسك فأنت قصير لن تبلغ الجبل في طولك.
تتعالى على ماذا؟ الأرض تحتك أعظم منك، فهذه التي تمشي عليها أنت مخلوق منها، علام تضرب الأرض برجلك وهي أقوى منك؟! لو نطحت الجبل برأسك انكسر رأسك أنت، فلماذا تتطاول؟ لا تتعالَ على الخلق: وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا [الإسراء:37]
قال تعالى: وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ [لقمان:18] ، هذا لقمان يوصي ابنه وينصحه، والصعر: داء يأخذ الجمل في رقبته فتشد العضلة فلا يستطيع أن يلتفت.
وهكذا المتكبر ينظر للناس بتعالى، معوج على الناس وهو كغيره من الناس، ويوم القيامة سيجعل الله هؤلاء المتكبرين من أذل الخلق، ومن أحقر الخلق بين الناس، ومهما تعالى على الناس زماناً بل أزمنة لا بد وأن يقصمه الله سبحانه، ويري الناس فيه آيات وعبراً.
وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ [لقمان:18] ، لا يحب المختالين الفخورين، والاختيال يوصف به كل من فيه صفة الفخر، فهذا لا يحبه الله سبحانه وتعالى.
كان قارون إسرائيلياً من قوم موسى، فتعالى على قومه، وذهب إلى فرعون ومن معه، وقد كان من أغنى خلق الله عز وجل، ولكنه قلد إبليس وافتخر على قومه، فقال عنه ربنا سبحانه: إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى [القصص:76].
البغي هو الظلم والتعالي والإفساد وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ [القصص:76] آتيناه نحن، ليس بقوته أو بجده واجتهاده، ولكن من فضل الله سبحانه وتعالى.
وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ [القصص:76] كنوز عظيمة جداً، ولك أن تتخيل عظمها عندما تعلم أن مفاتيحها يحملها من الرجال عشرة.
إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ [القصص:76] ، كل إنسان يفرح، ولكن هذا فرح مخصوص، فالفرح الذي هو سرور في قلب الإنسان ليس ممنوعاً منه، كمن يفرح لشيء آتاه الله عز وجل إياه، أو لنعمة أحدثها الله له، لكن لا تتجاوز بهذا الفرح حده إلى أن يكون فرح المستكبرين، يعني: كأن يمشي متعالياً على الناس يقول: أنا أحسن منكم، أنا عندي وعندي، قالوا له: لا تفرح هذا الفرح الذي يدل على بطرك واستكبارك وعلوك وبغيك: إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ [القصص:76].
قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ [القصص:78] هذا أعطيته لأني أستحقه، وقد آتاني الله على علم أني أستحق ذلك.
أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا [القصص:78] ولكن أبى إلا أن يستكبر على قومه، فجمع كنوزه وأشياعه وخرج على الناس في زينته يريهم أن عنده ما ليس عند أحد، دفعه إلى ذلك الاستكبار.
والعادة أن كثيراً من الناس يشتهون مثل ذلك، فنظروا إليه وقالوا: يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [القصص:79] صدقوا هذا الكذب، وهذه المظاهر البراقة، صدقوا أنه أوتي هذا على علم، وأنه يستحق هذا الشيء.
لكن أهل العلم والتقوى لما نظروا إلى ذلك لم تأخذهم هذه المناظر ولم يبهتهم الإعجاب، وعلموا أن هذا كله سوف يزول، وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ [القصص:80] ، اصبروا ولكم الجنة بعد ذلك، وهي أعظم من هذا الذي فيه هذا الإنسان.
فإذا بهذا الإنسان في تعاليه: فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ [القصص:81] يأتي الخسف من عند رب العالمين، يا أرض خذيه وخذي هذا الذي هو فيه.
وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا [القصص:82] ، كنا نتمنى مثله، ولو أن الله حاسبنا عليه واستجاب وأعطانا مثلما أعطى قارون لكان حالنا الآن مثله.
وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ [القصص:82] لا يفلح الإنسان الذي يكفر نعمة ربه سبحانه ويجحدها، أو ينسبها إلى نفسه أو إلى غير ربه سبحانه، فالذي يرى لنفسه حظاً وعظمة فيقيس الآخرة على الدنيا مثل هذا الإنسان، فإذا بالله يجعله آية.
فيذكر النبي صلى الله عليه وسلم فيه وفي غيره: (بينما رجل يمشي على الأرض قد أعجبه ثوباه فهو يتبختر على الأرض، فإذا به تخسف به الأرض، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة).
قال الله عز وجل: فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ [القصص:81] من ينصره من دون الله؟ معه مال يجند به من يشاء من جنود، ولكن فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ [القصص:81].
الذرة: النملة، يعني: من كان في قلبه قدر النملة من الاستكبار، فهذا لا يستحق أن يدخل الجنة؛ لأنه متطاول على الناس، يرى أنه أعظم منهم، لا يكلمهم إلا بترفع وتطاول، فحال من في قلبه مثقال ذرة أنه لا يدخل الجنة، فكيف بمن كان في قلبه الكبر كله؟!
سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً، ونعله حسنة) ، يحب أن حذاءه يكون حلواً وأن ثوبه يكون حسناً، فهل هذا كبر؟! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله جميل يحب الجمال) أي: لا مانع من أن تلبس الثوب الحسن والنعل الحسن، بل الله عز وجل إذا أنعم على عبد نعمة يحب أن يرى أثر هذه النعمة عليه.
إذا أنعم عليك بمال فلا تلبس لبس امرأة، بل البس لبسة الرجل، لكن أن تلبس حذاءً حسناً من أجل أن تمشي فتضرب برجلك على الأرض فهذا هو الكبر؛ لأنك تريد أن تتعالى ويظهر فضلك على الناس، وهذا ما لا يحبه الله عز وجل.
ثم قال صلى الله عليه وسلم: (الكبر بطر الحق، وغمط الناس) غمطهم وغمصهم بمعنى واحد، أي: أن الإنسان يرى أن الناس تحته مغموصين، كل الناس ليس لهم قيمة عنده ولا وزن.
بطر الحق، يعني: عدم قبول الحق، إذا عرف أن الحق في هذا الشيء لا يفعله، يقول: قال الله كذا قال الرسول عليه الصلاة والسلام كذا ولا يقبل أن يصنع، مستكبر، إذا دعوا إلى الله وإلى رسوله إذا هم معرضون عن ذلك، وغمط الناس: احتقار الناس، فيراهم أسفل منه.
روى مسلم عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه: (أن رجلاً أكل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بشماله)، هذا نوع من أنواع الكبر، ويقد يكون الفاعل جاهلاً (فقال له: كل بيمينك) كعادته في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والنصح لكل مسلم، فنصحه النبي صلى الله عليه وسلم، فأنف هذا الرجل واستكبر على النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: (لا أستطيع) كثير من الناس تقول له: اعمل كذا وهو يعرفه ويجيده، ولكن يستكبر، قال: (ما منعه إلا الكبر) علم النبي صلى الله عليه وسلم أنه يده سليمة، لكنه يأكل بشماله استكباراً، فدعا عليه النبي صلى الله عليه وسلم، فما كان إلا أن شلت يد الرجل فما رفعها إلى فيه.
ومثله ذلك الرجل الذي زاره النبي صلى الله عليه وسلم وكان مريضاً وعنده حمى فقال له: (لا بأس طهور إن شاء الله) كلامه جميل ودعوته مباركة صلوات الله وسلامه عليه، ولكن الرجل بسبب الجهالة والحماقة يقول: (بل حمى تفور على شيخ كبير تزيره القبور) ، انظر إلى الرد السخيف على كلام النبي صلى الله عليه وسلم!
هذا الإنسان العتل الجواظ المستكبر ألفاظه تناسب شكله، من أجل صعوبة ما هو فيه من جحود، ونكران للنعمة، واستكبار على الخلق، فهو إنسان غليظ بطبيعته، صعب أن تتعامل معه أو تكلمه كلمة.
المؤمن إلف مألوف، المؤمن طيب، المؤمن تأخذ منه لساناً حلواً، تعتاد عليه، ويعتاد عليك، المؤمن يحفظ نفسه ويحفظ لسانه، ولكنه قريب من الناس، سهل أن يتكلم مع الناس وتكلمه، ليس عنده تعالٍ على أحد، يعلم أن أصله من طين فهو متواضع.
أما هذا فهو عتل غليظ جافٍ جواظ جموع منوع، له عشيرة وله أهل، وعنده رجال، عنده من يدفع عنه.
وأيضاً (جموع منوع) يطلق على الإنسان المنتفخ البطن من كثرة الأكل وكثرة حرصه على الدنيا، فهذا الإنسان أيضاً من صفاته أنه جواظ يختال في مشيته، كأن غناه ظاهر على جسمه وحجمه، فهو منوع عنده عتاد ورجال، ويختال بذلك على الناس، فهذا الجواظ المستكبر قال عنه: (ألا أخبركم بأهل النار؟ كل عتل جواظ مستكبر).
عن أبي سعيد رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (احتجت الجنة والنار، فقالت النار: في الجبارون والمتكبرون، وقالت الجنة: في ضعفاء الناس ومساكينهم، فقضى الله بينهما، قال للجنة: إنك رحمتي أرحم بك من أشاء) من صفات رب العالمين: الرحمة العظيمة فهو الرحيم الحنان سبحانه، فهذه الجنة دار كرامته، يكرم بها من يشاء.
كما أن من صفات الله عز وجل أنه القوي العزيز: إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ [البروج:12] فهذه النار انتقام الله وعذاب الله عز وجل، وهنا صفة أخرى من صفات رب العالمين سبحانه وتعالى.
(وقال للنار: إنك عذابي أعذب بك من أشاء ولكليكما عليَّ ملؤها).
وعد من الله أن يملأ هذه وهذه، والنار كلما ألقي فيها فوج تقول: هل من مزيد؟ ثم يلقى فيها فوج يعذبون فتقول: هل من مزيد؟ ولا تكتفي، فالله عز وجل يضع فيها قدمه فتقول: قط، قط.
ووعد الجنة أن يملأها سبحانه وتعالى، فدخل فيها الخلق المؤمنون ولم يملئوها، ولا تمتلئ الجنة حتى يخلق الله لها خلقاً جديداً، لأنها كبيرة واسعة جداً، مهما أعطى للناس في هذه الجنة فهي واسعة تسع أكثر وأكثر من ذلك، حتى إن آخر أهل الجنة دخولاً الجنة رجل يعطيه الله عز وجل مثل ملك من ملوك الدنيا، وعشرة أضعاف ملكه، هذا أقل أهل الجنة منزلة فكيف بأعلاها منزلة؟ ومع ذلك لا تمتلئ الجنة حتى يخلق الله لها خلقاً آخر يسكنون هذه الجنة. نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أهلها.
هناك فرق بين أني أنظر إلى إنسان ولا آراه، ولكن الله عز وجل لا ينظر إليهم سبحانه وتعالى، ولكنه يرى كل شيء، ويبصر كل شيء، فكأنه يعامل هؤلاء معاملة المنسيين، فلا ينظر إليهم نظر رحمة وهم في نار جهنم، ولكنه يعلم كل شيء عنهم ويراهم سبحانه وتعالى، فهم لا يستحقون أن يرحمهم سبحانه.
فالنظر هنا نظر مخصوص، فيستشعرون بهذا النظر أنه يكرمهم.
وكذلك لا يجيبهم مع أنه يرد عليهم، ويقول: اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ [المؤمنون:108] ، فهو لا يجيبهم جواباً ينتفعون به، ويستشعرون أنه يعطيهم شيئاً من رحمته، فلا ينظر إلى مستكبر جَرَّ إزاره على الأرض، أي: غني عنده أموال يضيعها في الأرض، ويمشي ليجرجر ثيابه على الأرض، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فلا تلبس الثياب مجرجرة على الأرض، ولكن اقطعها بحيث تكون عند الكعبين، هذا للرجال، أما المرأة فلها أن تستر قدمها.
قوله: (لا يكلمهم الله)، أي: يسألون فلا يكلمهم في أي حال من الأحوال، فإذا أجابهم لا يأخذون جواباً يفرحون به، بل جواب يحزنهم الدهر كله: اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ [المؤمنون:108].
(ولا يزكيهم) لا يطهرهم إلا بنار جهنم والعياذ بالله.
(ولا ينظر إليهم) وهو يراهم سبحانه وتعالى، وهو هنا نظر مخصوص، فلا ينظر إليهم نظر رحمة، أو لا ينظر إليهم على وجه من الوجوه الذي يستشعرون به أنه يعطيهم شيئاً من رحمته.
وهم: (شيخ زان، وملك كذاب، وعائل مستكبر) ، أناس قد منع الله عز وجل عنهم أسباب الاستكبار، وأسباب المعاصي، أولهم:
الشيخ الزاني: شيخ كبر سنه، وذهبت نهمته ولذته، فالمفترض أن الذي وصل إلى سن أربعين سنة قد وصل إلى سن كمال، كما ذكر الله عز وجل في القرآن: حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ [الأحقاف:15].
فهذا الذي بلغ إلى الأربعين سنة ينبغي أن يقول ذلك، فكيف بالذي وصل إلى الستين والسبعين ثم يزني، هذا لا يستحق إلا نار جهنم -والعياذ بالله- هذا الشيخ الذي منع الله عز وجل عنه هذه الشهوة، قد وصل إلى اكتمال عقله بالابتعاد عن هذا الشيء الفاحش ومع ذلك يقع فيه، هذا لا يستحق إلا النار.
(وملك كذاب) ملك يملك الناس، ويحكم الناس، فيكذب عليهم لماذا؟
وصل إلى درجة عالية، والناس قد ملكوه وجعلوه فوقهم، ومع ذلك يكذب عليهم، فهو يكذب على الناس ويضر الناس بكذبه.
(وعائل مستكبر) العائلُ: الإنسان الفقير الذي عنده عيال ومحتاج لمال، ومع ذلك يستكبر على الخلق، ويكلم الناس من أطراف أنفه، لماذا يفعل هذا الشيء وقد منع الله عز وجل عنه ذلك بأن جعله فقيراً، كأن الله يريد بك خيراً لذا جعلك فقيراً من أجل أن تدخل الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام، وجعلك فقيراً حتى لا يكون حسابك طويلاً يوم القيامة، وتأبى إلا أن يطول حسابك، فما وجدت المال فلجأت إلى شيء آخر تستكبر به على الناس من أجل تدخل به النار، لذا كان الفقير المستكبر على الناس من المستحقين للنار.
وهل معنى ذلك أن الغني له أن يستكبر؟ لا، ولو كان أغنى الناس، ولكن المعنى: أن الغني إن استكبر فهو معذب، وقد كان معه أسباب الاستكبار في الدنيا، فهل هذا الفقير الذي رحمه الله عز وجل ومنع عنه أسباب النار يجلبها لنفسه؟ إذاً: ادخل النار بهذا الشيء الذي جلبته لنفسك.
الله عزيز قاهر سبحانه وتعالى، غالب لا يغالب ولا يمانع، إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82].
فالله يقول: (العز إزاري) يعني: هذه أشياء خاصة بي، كما يقول الإنسان: أنا لابس إزاراً ورداءً، ولله عز وجل المثل الأعلى فيضرب لنا المثل: إذا كان ما تختص به من أشياء تأبى أن تعطيه لغيرك، فهل ربنا سبحانه الذي اختص هذا الشيء لنفسه، يحق لأحد أن ينازعه فيه؟
عن أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (بينما رجل يمشي في حلة تعجبه نفسه مرجل رأسه يختال في مشيته؛ إذ خسف الله به، فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة).
الإنسان المؤمن عندما يلبس ثوباً جديداً يحمد الله سبحانه وتعالى عليه فيقول: (الحمد لله الذي كساني هذا من غير حول مني ولا قوة، اللهم إني أسألك خيره، وخير ما لبس له، وأعوذ بك من شره، وشر ما لبس له).
أما الإنسان المستكبر فيلبس الثوب من أجل أن ينظر الناس إليه، وأن معه ثوباً حسناً سواء كان امرأة أو رجلاً، يفعل ذلك مستكبراً، فهذا رجل فعل ذلك في حلة تعجبه نفسه مرجل رأسه، يختال في مشيته يميناً وشمالاً، يستكبر على الخلق، إذ خسف الله به الأرض، فهو يتجلجل في الأرض ويغوص إلى ما يشاء الله عز وجل إلى يوم القيامة.
ولكن إسناده فيه ضعيف، والمعنى صحيح: (من تشبه بقوم فهو منهم)، فهو يرى نفسه مثل هذا الجبار، فمن يقلد فرعون فنهايته نهاية فرعون، أو يقلد قارون فنهايته نهاية قارون، فهذا الإنسان الذي يستكبر فوق الخلق ويرى نفسه أعظم الناس، أبى الله أن يرفع شيئاً إلا وضعه.
ولذلك يتفكر الإنسان من أين أتى؟ وإلى أين هو ذاهب؟ هو أتى من الأرض، وذاهب إليها مرة ثانية، فمهما علا فوق الناس فسوف ينزل في التراب مرة ثانية كما جاء منه، فليتواضع من البداية.
جاء عن رجل من الصالحين: أنه رأى أميراً من الأمراء يتعالى على الناس فقال له بيتين من الشعر:
وهب أن قد ملكت الأرض ودان لك العباد فكان ماذا
أليس غداً مصيرك جوف قبر ويحثو الترب فوقك هذا ثم هذا
لماذا ترى نفسك أعظم من الناس؟ لو فرضنا يا سيدي أنك ملكت الدنيا كلها، ودان لك العباد فماذا سيحصل؟ لو فرضنا أن الناس يدينون ويخضعون لك، أليس مصيرك غداً جوف قبر، ويحثو الترب فوقك هؤلاء الناس الذين تتعالى عليهم!
إذاً: لا تستكبر فوق الخلق، فإنك سوف ترجع إلى هذه الأرض، ثم إلى الله عز وجل ليحاسبك.
نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من عباده المتواضعين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر