قال الإمام النووي رحمه الله: [ باب استحباب العزلة عند فساد الزمان، أو الخوف من فتنة في الدين، أو وقوع في حرام وشبهات ونحوها .
قال الله تعالى: فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ [الذاريات:50] .
وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي) ، رواه مسلم .
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (قال رجل: أي الناس أفضل يا رسول الله؟! قال: مؤمن مجاهد بنفسه وماله في سبيل الله، قال: ثم من؟ قال: ثم رجل معتزل في شعب من الشعاب يعبد ربه - وفي رواية - يتقي الله ويدع الناس من شره) ، متفق عليه.
وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يوشك أن يكون خير مال المسلم غنماً يتبع بها شعف الجبال، ومواقع القطر؛ يفر بدينه من الفتن) ، رواه البخاري ].
هذا باب آخر من كتاب رياض الصالحين يذكر فيه الإمام النووي رحمه الله استحباب العزلة عند فساد الزمان، والعزلة أن يعتزل الإنسان الناس عند كثرة الشرور، فإذا كان الإنسان لو اختلط بالناس سيصل به ذلك إلى أن يهوي معهم، وإلى أن يضيع ويفتن في دينه، ويفتن عن هذا الأمر العظيم الذي في قلبه وهو الإيمان، فعليه أن يبتعد عما يكون سبباً في ذلك.
فالمؤمن يختلط بالناس اختلاطاً ينتفع به وينتفعون به، وأما اختلاط يضيع على الإنسان دينه، فالمسلم يضن بدينه أن يضيع، فلذلك إذا لم تكن هناك وسيلة إلا أنه يعتزل الناس فهذا آخر ما يلجأ إليه المؤمن.
فليس الأصل هو الاعتزال، وإنما الأصل الاختلاط بالناس، ولذلك جاء فيها أحاديث كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، بل هو فعله صلى الله عليه وسلم وفعل أصحابه والتابعين من بعدهم أنهم يختلطون بالناس، ويدعون الناس إلى الله عز وجل ، ويجاهدون في سبيل الله، ولكن حين يضيق الأمر بالمؤمن ولا يجد مكاناً يذهب إليه إلا وفيه الفتن، فإنه يعتزل إما اعتزالاً مخصوصاً لأناس معينين ويختلط بغيرهم، أو أنه يعتزل الجميع إذا كان يخشى أن يضيع باختلاطه بالناس .
إذاً فتستحب العزلة عند فساد الزمان، فتفسد أحوال الناس، ويصير الحرام هو الذي يشيع بين الناس في كل شيء: في أخلاق الناس، وفي معاملاتهم؛ في أخذهم وعطائهم، فيعتزل هؤلاء الذين يخاف منهم على دينه .
إذاً فعند فساد الزمان أو الخوف من فتنة الدين، أو يخاف على نفسه الردة، ويخاف على نفسه أن يصير فاسقاً بعدما كان مؤمناً، ويخاف أن يقل إيمانه فله ذلك.
وأما إذا كان يختلط بالناس فيزداد إيماناً فليختلط.
قال الله تعالى: فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ [الذاريات:50].
فالنبي صلوات الله وسلامه عليه نذير من عند الله عز وجل مبين، أي: نذير واضح جلي مبين لشرع الله عز وجل بياناً واضحاً عظيماً جلياً، فلم يستسر بالدعوة وإنما أعلنها، وهو نذير مبين للناس الأحكام الشرعية، فلم يخفِ شيئاً عنهم من دين رب العالمين، بل بينه، فهو نذير يخوفهم عذاب الله عز وجل، وما أعده للقادمين، فقال: فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ [الذاريات:50] فهو يدعوهم إلى أن يفروا من الناس وأن يلجئوا إلى الله تبارك وتعالى، فهو الملجأ سبحانه، وهو الذي يغيث عباده ويعصمهم، إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ [الذاريات:50].
وقد جاء في حديث أبي هريرة قبل ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (اتق الحرام تكن أعبد الناس) أي: إذا أردت أن تكون أفضل العبّاد لله فلا تقرب الحرام، فصفة العبودية لله صفة تشريف، فالله سبحانه وحده هو الخالق، وما سواه مخلوقون، فهم عبيد لله، فهو سبحانه يحب من عباده من كان متصفاً بهذه الصفات: أن يكون تقياً غنياً خفياً.
فالتقي هو الذي يتقي الحرام، ويتقي غضب الله، ويتقي المعاصي والذنوب، فهو تقي وهو غني.
قال لنا النبي صلى الله عليه وسلم في تعريف الغنى: (ليس الغنى عن كثرة العرض) أي: ليس الغنى أن يكون لديك مال كثير، (ولكن الغنى غنى القلب)، أي: امتلأ قلبه إيماناً فاستغنى بهذا الإيمان، وامتلأت نفسه شبعاً بتقوى الله سبحانه، فلا ينظر إلى الدنيا ولا يأبه لها مهما أوتي الناس من كنوز، فكنزه في قلبه وهو إيمانه العظيم، فقد علم أنه مهما أوتي من مال فسيتركه يوماً من الأيام، فاستغنى بما عنده من إيمان وبعمله الصالح، فغناه في قلبه وليس محتاجاً إلى أحد، وإنما هو محتاج إلى الله عز وجل، فقد ركن إلى الله ولم يركن إلى الذين ظلموا، فقد امتلأ قلبه غنى.
قال: (إن الله يحب العبد التقي الغني) يعني: أن قلبه غني غير محتاج إلى أحد، فلا يستشرف إلى شيء من الدنيا.
قوله: (الخفي) يعني: الذي يداوم على العمل ويخفي هذا العمل، فلا يعلن العمل أمام الناس وهو في السر لا يعمل شيئاً، فهذا عمله صالح، وأكثر ما يكون من عمله في الخفاء، فالله عز وجل يحب هذا.
فإذا أحبه الله كان الأمر كما قال الله تعالى في الحديث الآخر: (فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها؛ ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه).
فالعبد الذي يحبه الله عز وجل عبد قريب من الله، وهو عبد إذا طلب من الله أعطاه، ومع ذلك فهو لا يطلب من الله دنيا؛ لأن الدنيا أحقر من أن يطلبها، وإنما يطلب الآخرة، ويطلب أن يكون مع النبي صلى الله عليه وسلم: مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا [النساء:69]، فتجده يطمع الطمع الحقيقي، وهو الطمع فيما عند الله عز وجل.
وأما الطمع في الدنيا فهو شيء حقير؛ لأنك مهما أوتيت من الدنيا فستتركها يوماً من الأيام، ولو كانت الدنيا تساوي عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء، لذلك فهذا العبد يطمع فيما عند الله سبحانه، يطمع في جنة الله سبحانه، فهذا هو الطمع الحقيقي، وهذه هي المنافسة الحقيقية، وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ [المطففين:26]، فالله عز وجل يحب من عبده أن يكون تقياً غنياً خفياً.
إذاً: فالاختلاط بالناس أمر حسن وجميل إذا كان على هذه الهيئة، فهو مجاهد بنفسه وماله، فيبذل نفسه في سبيل الله عز وجل، ويجاهد الكفار، ويجاهد المنافقين بيده وبلسانه وبقلبه، ويختلط بالناس فيأمرهم بالمعروف، وينهاهم عن المنكر، ويعلمهم الخير وينهاهم عن الشر، فهو مؤمن مختلط بالناس مجاهد في سبيل الله عز وجل، فهذا أفضل ما يكون، ونفعه متعدٍ فكان أفضل.
والذي يليه قال صلى الله عليه وسلم: (ثم رجل معتزل في شعب من الشعاب)، فليس كل الناس يستطيعون أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم، فالرجل يسأل النبي صلى الله عليه وسلم: ثم من؟ أي: فالذي لا يقدر على هذا الشيء، فمن الذي يلي هذا؟ قال: (ثم رجل معتزل في شعب من الشعاب).
والشعب هو الطريق بين الجبلين، وكأن الدنيا قد ضاقت عليه، فالدنيا كلها فتن وبلاء ومصائب، فكلما ذهب إلى ناحية وجد الفتنة، وكلما ذهب إلى معاملة وجد الحرام، فإذا به يذهب إلى الشعب بين جبلين؛ من أجل ألا يرى أحداًً من الناس.
ويكون معه غنم في ذلك الشعب؛ من أجل ألا يحتاج إلى أحد من الناس، فهو يلبس من صوفها، ويأكل مما يستخرجه منها، ويشرب من ألبانها، فزهد هذا في الدنيا لأنه يخاف على نفسه من الفتن، فإذا به يعتزلها إلى أن يصل به الحال إلى هذه الصفة.
وليس ذلك مطلوباً من الناس كلهم، ولكن إذا ضاقت على المؤمن الدنيا فوجد الملجأ في البعد عن الناس فله ذلك، وكل إنسان يبتعد بحسب ما يقدر عليه، فهذا يجد مثلاً في الحي الفلاني فتناً فيبعد عنهم، وهذا يجد في القبيلة الفلانية الفتن فيبعد عنها، أو في البلدة الفلانية فتناً بعد عنها، فيعتزل الإنسان أهل الفتن وأهل المعاصي، ويكون أصحابه ورفقاؤه هم أهل الله عز وجل، وهم عباد الله سبحانه، هم أصحابه في بيت الله، فيصلي مع المسلمين، ويكون مع الناس في طاعتهم لله سبحانه، ويقلل من رفقاء السوء قدر المستطاع، وهذا طالما أنه لا يقدر على أن يدعوهم إلى الله، بل يخاف أن يفتنوه.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم للرجل الذي سأله عن المخرج: (ابك على خطيئتك، وليسعك بيتك)، إذاً فابق في بيتك وقلل من الخروج إلى الناس طالما أن المخالطة مع الناس تؤذيك وتفتح لك طريق النار.
إذاً: فهذا الإنسان يلزم بيته ويبتعد عن شرور الناس، وأفضل شيء أن يدعو إلى الله عز وجل، وأن يختلط بالناس ليدعوهم إلى الهدى، ولكن إذا وصل أمر الاختلاط إلى أنه سيضيع فليتدارك نفسه وليبتعد عن شرار الخلق، قال لنا صلى الله عليه وسلم: (ثم الرجل معتزل في شعب من الشعاب يعبد ربه)، وفي رواية: (يتقي الله ويدع الناس من شره).
فهذا أفضل أموال المسلم، وقوله: (يوشك) يدل على أنه سيكون قريباً، وما هو آت فهو قريب، كما قال الله سبحانه: وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا [الأحزاب:63] ، بل يقول: أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ [النحل:1] ، فالساعة قريبة وآتية لا ريب في ذلك، فما هو آت فهو قريب .
وانظر إلى أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم العجيبة، فهو لا ينطق عن الهوى، وإنما ذلك وحي من الله سبحانه يوحيه إليه، فهو يخبر بأشياء فتكون كما قال، فقد قال: (لا يأتي على الناس زمان إلا والذي بعده شر منه)، وهذا ما نراه ونلمسه.
وقال: (صنفان من الناس لم أرههما: رجال معهم سياط كأذناب البقر، ونساء كاسيات عاريات مائلات مميلات)، فأحد هذين الصنفين هم الشرط، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يرهم، ومع ذلك أخبر أنهم سيكونون، فكانوا كما قال صلى الله عليه وسلم.
قوله: (ونساء كاسيات عاريات مائلات مميلات)، مثل أن تلبس المرأة ثياباً خفيفة تشف عما تحتها، أو أن تلبس ثياباً ضيقة تفصل الجسد تحتها، أو أن تلبس ثياباً قصيرة لا تستر إلا بعض الجسم.
وهذا كله قد وجد في عصرنا هذا، فصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم!
فإذا صارت الفتن تحيط بك ولا تقدر على مدافتعها، فاعتزل هذه الفتن، وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك.
يقول صلى الله عليه وسلم: (يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال)، شعف الجبال هي رءوس وقمم الجبال، يعني: يأخذ معه غنمات فيها كل ما يحتاج إليه الإنسان، فهي طعامه وفيها شرابه وكسوته، فاكتفى بهذا الشيء اتقاء لغضب الله سبحانه، فابتعد عن الفتن بذلك .
قال: (يتبع بها شعف الجبال، ومواقع القطر)، يعني: يبحث عن المكان الذي وقع فيه المطر؛ من أجل أن تشرب الغنم، ومن أجل أن يكون هناك كلأ تأكل منه الغنم.
وبعض الناس يجد أمامه الفتن فيقول: ماذا أعمل، فالدنيا كلها فتن ومثلي مثل الناس! فهو إمعة إذا أحسن الناس أحسن، وإذا أساءوا أساء، نسأل الله العفو والعافية.
وفي حديث آخر يرويه البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما بعث الله نبياً إلا رعى الغنم، فقال: أصحابه: وأنت؟ قال: نعم، كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة)، فكان يرعى الغنم صلوات الله وسلامه عليه.
وهنا عندما يقول: (يوشك أن يكون خير مال المسلم غنماً) لعل بعض الناس يأنف أن يرعى الغنم فنقول له: إن النبي صلى الله عليه وسلم قد رعى الغنم يوماً من الأيام، فلا يأنف الإنسان المسلم من مثل ذلك.
وفي هذا حكمة من الله في كون الأنبياء يرعون الغنم، فالغنم فيها الكبير وفيها الصغير وفيها الضعيف، وصاحب الغنم يكون فيه حنان على غنمه، فتحتاج أن يحوطها، وأن يرعاها، وأن يذهب بها إلى مكان الرعي.
وأما صاحب الإبل فإنه عندما يرى نفسه فوق الناس يأتيه الغرور، وأما صاحب الغنم فيستشعر التواضع، فإذا وجد غنمه مريضة حملها على ظهره، أو أكلها بنفسه، فيستشعر التواضع، ففي تربية الغنم تعويد للإنسان على سياسة الناس، فما من نبي إلا وقد جعله الله عز وجل يرعى الغنم .
فراعي الغنم يكون فيه حنان على الغنم، فيجمعها ولا يفرقها، وانظر لو دخل صاحب الغنم بالعصا في وسط الغنم فإنها تتفرق وتهرب كلها، وحين يسقيها فإنه يضع لها الماء ويبعد عنها عصاته؛ من أجل أن تأتي وتشرب، وإذا رفع العصا نفرت كلها، فهنا يعود الله عز وجل أنبياءه ويربيهم على ذلك، فرعي الغنم تحتاج إلى نوع من السياسة في التأليف والوفاق بينها، فإذا كان يسوس الناس كان متعوداًعلى هذا الأمر: أنه يجمع ولا يفرق الناس .
فالنبي صلى الله عليه وسلم رعى الغنم، وهنا يقول لنا: (يوشك) أي: سيأتي يوم من الأيام يكون فيه خير مال المسلم غنمات يتبع به شعف الجبال، ومواقع القطر، والقطر هو المطر، ويفعل ذلك فراراً من الفتن.
فهذا من خير المؤمنين، وهو من أفضل الناس وأحب الناس إلى الله عز وجل، فهو أنفع الناس للناس، وأنفع المسلمين للمسلمين، فهذا المجاهد في سبيل الله عز وجل بمجرد أن يأتي العدو إلى المكان فهو يطير إلى هذا المكان؛ من أجل يكف الشر عن الناس، فهذا يضحي بنفسه من أجل غيره من المسلمين، ويطلب القتل في مظانه.
قال: (ممسك عنان فرسه في سبيل الله، يطير على متنه -أي: على ظهر الفرس- كلما سمع هيعة -صيحة الفزعة- أو فزعة طار عليه يبتغي القتل مظانه) يعني: هو حريص على الشهادة في سبيل الله سبحانه.
قال: (أو رجل في غنيمة في رأس شعفة من هذه الشعف).
وانظروا إلى هذا التعبير: (أو رجل في غنيمة)، فلو كان لديه قطيع من الغنم فمعناه أنه يريد الدنيا، لكن هذا في غنيمة قليلة، والنبي صلى الله عليه وسلم لما فتح الله عز وجل عليه الفتوح وأصبح يملك مائة غنمة قال: (لا أحب أن تزيد) أي: لا أريد أكثر من ذلك.
وقد كان نصيبه صلى الله عليه وسلم في المغانم خمس الخمس، وكان له من الفيء الخمس، ومع ذلك ما كان عنده أكثر من مائة غنمة، فكان إذا ولدت واحده منها ذبح واحدة مكان هذه المولودة حتى لا تزيد. وكأنه يعلم المؤمنين ألا يطمعوا، بل يأخذون من الدنيا على قدر حاجتهم، فإذا كان عندك مائة غنمة فلا تتمن أن تكون ألفاً وإنما تطلب الحاجة التي تحتاجها فقط.
فهنا النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (أو رجل في غنيمة في رأس شعفة من هذه الشعف -أي: في رأس جبل من الجبال- أو بطن واد من هذه الأودية، يقيم الصلاة، ويؤتي الزكاة، ويعبد ربه حتى يأتيه اليقين).
فهو يعطي الحقوق لأصحابها، فيقيم الصلاة، أي: لا يصلي فقط، بل يصلي ويقيم الصلاة، فيحسن صلاته، ويستقيم فيها، ويواظب عليها ولا يضيعها، ويحسنها كما يريد الله سبحانه.
(ويؤتي الزكاة)، وقد يقال: لمن سيعطي الزكاة إذا كان معتزلاً للناس؟!
والجواب: أنه لا يعتزل كل الناس، بل سيكون في وسط أناس يحتاجون، فيؤتي زكاة ماله لهؤلاء، إذاً: فليس المراد بالاعتزال أن يعتزل كل الناس، ولكن يعتزل أهل الشر من الناس ولو أن ينفرد وحده، أو ينفرد في مجموعات من الناس من أهل التقوى وأهل الإحسان .
(ويعبد ربه حتى يأتيه اليقين) يعني: حتى يموت.
فالمؤمن يحب للناس الخير ولا يضن عنهم بخير، وهو لا يحسد أحداً على ما آتاه الله عز وجل من خير، بل يتمنى زيادة الخير، فيخالطهم كي ينفعهم، فإذا وجد المضرة في المخالطة اعتزل الناس إلا من خير .
وترجمة الباب تدل عليها أحاديث كثيرة جداً، من عادة النبي صلى الله عليه وسلم، ومن أفعاله صلى الله عليه وسلم: كجهاده في سبيل الله، ودعوة الناس في خطب الجمعة، ودروسه وتذكيره للناس صلى الله عليه وسلم، ففي هذا كله مخالطة لهم، فلا نحتاج أن يقول: كان يختلط بهم في كذا وكذا، فقد كانت كل حياته صلى الله عليه وسلم اختلاطاً بالناس من المؤمنين وغيرهم يعلمهم ويهديهم إلى ربه سبحانه.
فكأنه يريد أن يقول: إن الاختلاط بالناس بأن تعلمهم فيهديهم الله عز وجل على يديك، فهذا أفضل من أن تعتزل الناس، فتحضر الجمع وتحضر صلاة الجماعة مع الناس، وتحضر دروس العلم ومشاهد الخير مع الناس، وتحضر مجالس الذكر وتعود المرضى، وتحضر جنائز المسلمين، وتواسي المحتاجين، وترشد الجاهلين، وغير ذلك من المصالح لمن يقدر على ذلك، فيأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويقمع نفسه عن الأذى.
إذاً: فهو لا يؤذي الناس، وإذا حضر مع الناس كان حضوره خيراً، فخير الناس وأحب الناس إلى الناس وإلى الله عز وجل الذي ينتفع به الناس، فيعلمهم الخير ولا يتعالى عليهم، ويرشدهم إلى الخير ابتغاء وجه الله سبحانه، فيقمع نفسه عن الإيذاء فلا يؤذي أحداً من الناس، بل هو خير حيثما كان، فإذا احتاج إليه الناس فإنه يعلمهم ويهديهم إلى ربهم سبحانه، وتراه ينفق عليهم ويتصدق ويفعل الخير الذي أمر الله عز وجل به، ويصبر على هذا.
يقول النووي: (قمع نفسه عن الإيذاء، وصبر على أذى الناس)، فالمؤمن لا يؤذي أحداً، ولا يدفع الضرر بالضرر، فإذا أوذي صبر على ذلك ونصح، ولعل الإنسان بحسن خلقه وصبره على غيره أن يقتدي به الناس في ذلك ويفعلون كما يفعل، فيكون قد سن للناس سنة طيبة.
وللحديث بقية إن شاء الله، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر