قال الإمام النووي رحمه الله: [باب النهي عن البخل والشح.
قال الله تعالى: وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى * وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى [الليل:8-11].
وقال تعالى: وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الحشر:9].
وعن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم، حملهم أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم) رواه مسلم .
باب الإيثار والمواساة.
قال الله تعالى: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ [الحشر:9].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني مجهود، فأرسل إلى بعض نسائه فقالت: والذي بعثك بالحق ما عندي إلا ماء، ثم أرسل إلى أخرى، فقالت مثل ذلك، حتى قلن كلهن مثل ذلك، لا والذي بعثك بالحق ما عندي إلا ماء فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من يضيف هذا الليلة؟)، وذكر القصة].
هذا باب من أبواب كتاب رياض الصالحين، يذكر النووي رحمه الله باب النهي عن البخل والشح، فمن الناس من يكون بخيلاً لا ينفق الواجب عليه، ومنهم من يكون شحيحاً ممسكاً مقتراً يبخل على الغير بل يبخل على نفسه أيضاً.
كل إنسان في نفسه شح، قال الله سبحانه: وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ [النساء:128] يعني: في نفس كل إنسان قدر من الشح، وكل إنسان مأمور أن يقاوم هذا الشح، ولو لم يوجد في قلب الإنسان الشح لم يؤمر بأن يقاومه، والله عز وجل له الحكمة البالغة، وهو حكيم سبحانه، وإذا أمر العبد بشيء لم يأمره إلا بما فيه مصلحة للعبد ومنفعة له دنيوية وأخروية.
وإذا نهاه عن الشيء لم ينهه إلا عن شيء فيه مضرة عليه في الدنيا وفي الآخرة، ليأمر عباده وينهى عباده: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ [الأعراف:54].
فخلق الإنسان وهو أعلم بما في نفسه، خلقه فسواه فعدله سبحانه وتعالى، وجعل في قلب الإنسان أشياء تدفع الإنسان إلى الضرر إلا أن يهذبها له ربه تبارك وتعالى، فلم يخلقه ملكاً من الملائكة وإنما خلقه بشراً، والبشر يخطئ ويصيب، وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ [النساء:128]، فالنفس خلقت وفيها قدر من الشح، لذلك أمر بمقاومة هذا الشح، ولو لم يكن موجوداً لما احتاج إلى أن يقاومه.
كذلك ركبت الشهوة في الإنسان، وأمر أن يقاوم الخطأ الذي فيها، ويهذب شهوته، فيأخذ الحلال ويمتنع عن الوقوع في الحرام، فلو أن الإنسان لم تخلق فيه الشهوة أصلاً لما أمر الإنسان أن يتزوج، ولما أمر أن يجتنب الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولم ينزل الله عز وجل الحدود في الزنا؛ لأن طبيعة الإنسان تأنف ذلك وتبتعد عنه.
ولكن لما أوجد في الإنسان الشهوة لحكمة الله عز وجل أمره أن يقاوم نفسه فيري الله عز وجل ملائكته كيف أن هذا الإنسان الذي خلقه عز وجل وفيه شهوة، ولكن حبه لله عز وجل يجعله يهذب شهوته فيأتي ما أحل الله، ويمتنع عما حرم الله سبحانه تبارك وتعالى.
الشح بخل مع حرص، فهو حريص على أن هذا المال لا يضيع منه، فإذا هو يبخل به عن الغير ويبخل به عن نفسه أيضاً لشدة حرصه.
ثم تأتي الشريعة تهذب هذا الشيء، فهذا المال انتفع به ولينتفع به غيرك، وأنت خليفة على ذلك ومسئول عنه يوم القيامة، فأنفق على نفسك، وابدأ بمن تعول، وأمره بالإنفاق في وجوه الخير، أمره بزكاة ماله، وأمره بالصدقة والإحسان: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل:90].
وقبلها: فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى [الليل:5-7].
فالله عز وجل ييسر العبد على حسب ما يفعله الإنسان، فالإنسان السخي ينفق ويعطيه الله عز وجل، يعامله بناءً على ذلك، فهو يستحق أن ينفق عليه، والله يعطيه، ولا ينقص مال أبداً من صدقة كما ذكر لنا النبي صلى الله عليه وسلم، لكن الإنسان البخيل الذي يمتنع من إعطاء الواجب يشح على نفسه وعلى غيره، فيعامل بذلك، فيستشعر في قلبه الفقر، فمهما آتاه الله عز وجل مالاً يشعر أنه فقير وأنه محتاج.
وإذا أنفق ينفق القليل ولعله لا ينفق أصلاً إلا لنفسه فقط، فربنا تبارك وتعالى يذكر هذا الذي يبخل ويستغني، فيقول: وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى [الليل:8-9]، فبخل بإنفاق المال واستغنى بالدنيا عن الآخرة، فكأنه اكتفى بها، واستغنى بها، بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى [الليل:8-9].
بالنهاية الحسنة للمؤمنين، وهي جنة رب العالمين سبحانه، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى [الليل:10]، هذا لا يستحق طريق التيسير، ولكن يستحق طريق العسر، فسنيسره للآخرة العسرة الضيقة في نار جهنم والعياذ بالله. وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى [الليل:11] إذا هلك هذا الإنسان لم ينفعه ما ادخره من ماله.
وقال سبحانه: وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الحشر:9] إذا وقاه الله عز وجل شح نفسه، فهو توفيق من الله سبحانه، مثلما قال سيدنا شعيب على نبينا وعليه الصلاة والسلام: وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ [هود:88]، فالله يعطيك هذا المال، وهذا توفيق من الله عز وجل.
الله يوفقك أن تنفق هذا المال فيما يحبه الله، والله يجنبك أن تنفق هذا المال في المعاصي وهذا توفيق من الله سبحانه، ما توفيقك إلا بربك سبحانه وتعالى، قال: وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الحشر:9].
الموفق يجتنب شح النفس فيبذل ويعطي لله عز وجل، وهذا من المفلحين.
عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة).
الإنسان يظلم غيره في الدنيا، ويظلم نفسه إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13]، فالإنسان الذي يشرك بالله عز وجل ظلم نفسه بأن أشرك بالله سبحانه، فوقع في ظلمات الكفر والشرك بالله.
كذلك ظلم الغير، فقد يرى الإنسان ظلمه لغيره انتصاراً ولا يستشعر أنه في نفسه دمار له في الدنيا وفي الآخرة، يفرح بأنه ظلم الغير وأخذ حقه، فإذا جاء يوم القيامة تعسر في مروره على الصراط، أظلمت الطريق الذي أمامه فإذا به يقع في نار جهنم والعياذ بالله، فظلمه أوبقه يوم القيامة، انظروا إلى الإنسان المؤمن يوم القيامة يؤتيه الله عز وجل نوراً نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ [التحريم:8]،
هؤلاء المؤمنون أهل التقوى، أما الإنسان الفاجر والإنسان المنافق فقد يؤتى شيء من النور ووقت ما يحتاجه يظلم أمامه فلا يرى شيئاً، فينادون المؤمنين يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ [الحديد:14]؟ كنا معكم في الدنيا قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ [الحديد:14].
ويقولون للذين آمنوا: انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ [الحديد:13]، (انظرونا) اصبروا من أجل أن نأخذ قليلاً من نوركم ونسير في ضوء نوركم، قال لهم ربهم سبحانه: ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا [الحديد:13]، فلما رجعوا إلى الخلف يبتغون نوراً، ضرب بسور بينهم وبين المؤمنين أصحاب النور، فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ [الحديد:13].
فالإنسان في الدنيا يظلم غيره ولا يدري أن هذا الظلم سيكون عليه يوم القيامة ظلمات حقيقية، وإذا به يتوه يوم القيامة ولا يدري أين يذهب، فلا يجد طريقاً إلا إلى النار، يمر المؤمن فوق الصراط بحسب ما أعطاه الله سبحانه تبارك وتعالى، فإذا به يوم القيامة يمر كالبرق، يمر كالريح، يمر كأجاويد الخيل.
وهذا الإنسان الذي ظلم عندما يمر يوم القيامة يأتيه ظلمه فيظلم عليه الموقف أمامه، فإذا به يكبو وإذا به يتعسر، وإذا به تلفحه النار حتى يسقط فيها والعياذ بالله.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم).
استحلوا الحرام حتى يكتسبوا شيئاً من المال، يغتصب المال ويفعل الفواحش من أجل أن يحصل على المال، فسفكوا دماءهم، واقتتلوا حتى يحوزوا هذا المال، واستحلوا محارمهم وابتغاء هذا المال، فكانت النتيجة النار والعياذ بالله.
والشح أن يؤثر الإنسان نفسه على غيره، فيشح بهذا المال ويبخل به، ولكن الإيثار أن يبسط يده ويعطي غيره، ويرى لغيره فضلاً عليه.
والمواساة أن يواسي غيره ويرحم غيره، ففي قلبه العطف على الإنسان المحتاج، الذي نزلت به نوع من المآسي، فهو يواسيه بماله، ويواسيه بنفسه، ففيه الرحمة وفيه العطف، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء).
قال سبحانه: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ [الحشر:9] يؤثر المؤمن غيره على نفسه، هؤلاء أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الأنصار آثروا المهاجرين على أنفسهم فأعطوهم أموالهم وأشركوهم في تجارتهم، وفي أرضهم، وفي بيوتهم رضوان الله تبارك وتعالى عليهم، قال: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ [الحشر:9].
الخصاصة الحاجة، أي: ولو كان بهم جوع وهم محتاجون لهذا الذي بين أيديهم، فيعطي غيره من هذا المال، قال سبحانه: وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا [الإنسان:8].
(ويطعمون الطعام على حبه)، يعني ابتغاء حب الله سبحانه، وعلى اشتهائهم لهذا الطعام، فيأتيه مسكين يقول له: أعطني لله، فيعطيه لهذا السائل وهو يحب أن يأكل منه، ولكن فضل غيره وآثره على نفسه؛ لأنه ينتظر الأجر من الله سبحانه، ويعلم أن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً.
(فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى بعض نسائه)، ما كان عند النبي صلى الله عليه وسلم ولا أكلة لهذا الإنسان المجهود! (فقالت امرأة النبي صلى الله عليه وسلم: والذي بعثك بالحق ما عندي إلا الماء)، كل بيوت النبي صلى الله عليه وسلم أرسل إليهن، والجواب من جميع نساء النبي صلى الله عليه وسلم: والذي بعثك بالحق ما عندي إلا الماء.
وهي لا تحتاج أن تقسم فهي صادقة رضوان الله تبارك وتعالى عليها، ولكن لتؤكد للنبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يوجد أي شيء، ولو كان عندها تمرة لأخرجتها، ولكن ما عندها إلا الماء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من يضيف هذا الليلة؟ فقال رجل من الأنصار: أنا يا رسول الله! فانطلق به إلى رحله).
وهذا الأنصاري ماذا في بيته؟ هل عنده طعام كثير سيطعم منه نفسه وامرأته؟ قال: (فقال الرجل لامرأته: أكرمي ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم)، ما هو ضيفي أنا، وإنما هو ضيف النبي صلى الله عليه وسلم فنعطيه أفضل ما عندنا.
(فقال لامرأته: هل عندك شيء؟ فقالت: لا، إلا قوت صبياني)، الذي عندي هو طعام الصبيان، أنا وأنت ما عندنا طعام، لكن عندنا طعام العيال الذي سيأكلونه بالليل.
(فقال: علليهم بشيء وإذا أرادوا العشاء فنوميهم، وإذا دخل ضيفنا فأطفئي السراج وأريه أنا نأكل)، وكان هذا قبل نزول آيات الحجاب، فأكل الضيف وباتا طاويين، والضيف كان في غاية التعب والمشقة والجوع، والطعام قليل، فأكل الطعام كله وهما لم يأكلا شيئاً رضوان الله تبارك وتعالى عليهم.
(فلما أصبح غدا على النبي صلى الله عليه وسلم)، وكان الوحي قد سبق إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بما صنع هذا الرجل رضي الله عنه.
فقال له صلى الله عليه وسلم: (لقد عجب الله من صنيعكما بضيفكما الليلة).
يعني: قد صنعتما شيئاً عجيباً ما أحد يعمل هذا الذي فعلتما، فالله سبحانه وتعالى عجب أن هذا الأمر الذي فعلتموه أمراً عجيباً بين الناس، ولكن الله عز وجل ليس كالخلق حاشا لله سبحانه وتعالى، فأعجبه هذا الصنيع الذي فعلتم فأثابكم عليه الثواب العظيم، فيعجبه هذا الذي صنعتم.
أو كأنه عجب ملائكته مما صنعتم، وعجب سبحانه وتعالى من ذلك، وأعجبه ذلك سبحانه فأثابكما عليه، قال: (لقد عجب الله من صنيعكما)، وهذا الرجل شاركته فيه المرأة، فكان الأجر للرجل وامرأته.
وروى مسلم من حديث جابر : (طعام الواحد يكفي الاثنين، وطعام الاثنين يكفي الأربعة، وطعام الأربعة يكفي الثمانية)، وهذا حق من كلامه صلوات الله وسلامه عليه.
والمعنى: إذا نزل بالناس الجوع، ونزل بالناس شدة، فالإنسان إذا أكل طعاماً كاملاً سيعيش وتمر عليه الليلة، وإذا أكل في نصف بطنه فقط فأيضاً ستمر عليه الليلة وينتهي الأمر الذي هو فيه، فيعلمهم النبي صلى الله عليه وسلم أن طعام الواحد يكفي الاثنين، وطعام الاثنين يكفي الثلاثة ويكفي الأربعة، وطعام الأربعة يكفي الخمسة ويكفي الثمانية.
فإذا وجد الإنسان من يحتاج فليطعمه من طعامه، وليعطه وينتظر من الله عز وجل الأجر على ذلك، ولا ينتظر الحمد من الناس، ولو انتظر الحمد من الناس تعب، وقد يطعم من يستحق ومن لا يستحق، فالمعاملة ليست مع الناس، وإنما المعاملة مع الله، والذي يتعامل مع الله سبحانه يستريح أعظم الراحة، فلا ينتظر من الناس جزاء ولا شكوراً، ولا ينظر إلى ما أخذه هذا الإنسان منه، فهو في شأن حاله يقول كما قال السلف الصالح رضوان الله عليهم: إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا [الإنسان:9].
سمي السفر سفراً من الإسفار كأنه يسفر عن الشيء ويكشف عنه، ولأن الإنسان يستكشف به أرضاً جديدة لم يكن يعرفها، ويستكشف أخلاقاً في الرفقة التي معه لم يكن يعرفها، فيرى أخلاقاً عظيمة عالية ما كان يعلمها قبل ذلك، وقد يكون خلاف ذلك.
فهنا النبي صلى الله عليه وسلم كانوا في سفر، وجاء رجل على راحلة، فجعل يصرف بصره يميناً وشمالاً، فهو محتاج، ولم يدر من يسأل، وهو راكب على جمل وقد يحتاج لطعام، ولا نقول له: انحر الجمل وكله في السفر، فكيف سيكمل سفره، فرآه النبي صلى الله عليه وسلم محتاجاً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم هذا الكلام العظيم الجميل: (من كان معه فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له)، يعني: لو أن إنساناً معه راحلتان فليعط راحلة لمن يحتاج إلى راحلة، فكيف يمشي ومعه ما يجعله يركب عليه.
(فليعد به على من لا ظهر له)، وهم في سفر، والمسافر قد يكون غنياً في بلده، عنده رواحل وعنده جمال في بلده، لكن الآن ليس عنده راحلة.
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ومن كان له فضل من زاد، من طعام وشراب ونحوه فليعد به على من لا زاد له)، وذكر أصنافاً من المال.
قال الراوي وهو أبو سعيد الخدري : حتى رأينا أنه لا حق لأحد منا في فضلة، يعني لا حق لأحد منا في زيادة، فالذي معه زيادة وأخوه محتاج في السفر فليعط هذا المحتاج، ولا يبخل عليه، فإن الله يعطي الأجر العظيم، وكلما ضاق الشيء فأعطيت صديقاً كان الأجر أوسع وأعظم من الله سبحانه.
بردة أتت بها المرأة للنبي صلى الله عليه وسلم، وكانت قد نسجتها له ليلبسها وهو محتاج إليها، لأن الإزار الذي كان يلبسه صلى الله عليه وسلم مرقعاً، فاحتاج النبي صلى الله عليه وسلم للباس وليس عنده ما يشتري به، فأتته المرأة بهذه الهدية، فلبسها وخرج إليهم.
قال سهل : (فخرج إلينا وإنها لإزاره، فقال فلان: اكسنيها ما أحسنها! فقال: نعم)، خلق عظيم رفيع من النبي صلوات الله وسلامه عليه، فانظر إلى طيب قلبه صلى الله عليه وسلم، يكسي المحتاج وهو محتاج إليها، وعنده البردة الأخرى المرقعة فيلبسها مرة ثانية، والنبي صلى الله عليه وسلم طيب القلب رحيم، وهو أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وهو لا يشتهي شيئاً من الدنيا، فقام من مجلسه صلى الله عليه وسلم بعدما انتهى المجلس ثم رجع فطواها ثم أرسل بها إليه.
فالقوم غضبوا فقالوا: (ما أحسنت! لبسها النبي صلى الله عليه وسلم محتاجاً إليها ثم سألته وعلمت أنه لا يرد سائلاً! فقال الرجل: والله إني ما سألته لألبسها، إنما سألته لتكون كفني، فقال
وقد كانوا يحبون أن يتبركوا بأثر النبي صلى الله عليه وسلم ولباسه الذي كان على جسده، فلو أحسن لطلب الأخرى المرقعة التي كان يلبسها النبي صلى الله عليه وسلم ويجعلها كفنه، ولكن على كل فهذا صنيعه وهذا كرم النبي صلى الله عليه وسلم مع هذا الصحابي.
هؤلاء هم قبيلة أبي موسى الأشعري رضي الله تبارك وتعالى عنه، مدحهم النبي صلى الله عليه وسلم بل إنه جعلهم منه صلى الله عليه وسلم.
فما هي هذه الخصلة الجميلة التي جعلتهم ينسبون للنبي صلى الله عليه وسلم؟
هذه الصفة العظيمة الجميلة أنهم كانوا إذا أرملوا أي: احتاجوا وقل طعامهم أو كاد ينفد زادهم، يجمعون طعام الجميع في إناء واحد، ثم يقسمونه بين الجميع بالسوية، ولعل بعضهم عنده الكثير، وبعضهم عنده اليسير، فيقولون: كلنا محتاجون، ولا أحد أولى من الآخر بالمال!
فالنبي صلى الله عليه وسلم يمدحهم على صفتهم هذه، فقال: (هم مني وأنا منهم).
يعني: هم من أهل الإيثار ومن أهل الكرم، وقد جبل على ذلك صلوات الله وسلامه عليه، فهم من النبي صلى الله عليه وسلم وهو منهم، وهذا الشيء يسميه الفقهاء شركة التناهد، وهو من شركات الطعام، وهو اجتماع المجموعة على الطعام، أنا آتي بطعام وأنت تأتي بطعام، ثم نقسمه بيننا ونأكل كلنا منه، ولا أحد أولى بالطعام من الآخر.
وإذا صفت النفوس فهذا طعام فيه بركة، لكن إذا لم تصف النفوس فلا داعي أن تأكل من هذا الطعام، وبعضهم نفسه لا ترضى أن تأكل من طعامه، فكل من طعامك أنت، ولكن هؤلاء ما كان في نفوسهم هذا الشيء أبداً، بل نفوسهم فيها الإيثار، وليس فيها الشح، فيجمعون طعام الجميع ويقسمونه فيما بينهم، سواء كانوا في المدينة أو كانوا مسافرين.
ففي الحضر يمكن للإنسان أن يفعل ذلك، لكنه صعب في السفر، فالأخلاق الحسنة تظهر في سفر الإنسان، ويظهر هل هو إنسان شحيح فيظهر منه الوجه القبيح أم هو إنسان منفق فيظهر منه الوجه الحسن، فالسفر يظهر ويكشف أخلاق الناس.
والآن يتنافس الناس في الدنيا، وإن حصل الدنيا كلها فسيموت ويتركها، أو أنها تسلب منه يوماً من الأيام، لكن التنافس في الآخرة لا يضيع أجره أبداً، فالآخرة هي الباقية عند رب العالمين سبحانه وتعالى، فيتنافس المؤمن مع إخوانه في أمر الآخرة، وكل يجتهد أن يحصل الثواب الأكثر.
يقول سبحانه: وَفِي ذَلِكَ [المطففين:26].أي في عمل الآخرة فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ [المطففين:26].
الغلام هو ابن عباس رضي الله تبارك وتعالى عنه، وكان عن يمين النبي صلى الله عليه وسلم، وجيء للنبي صلى الله عليه وسلم بشراب، وعن شماله الأشياخ كـأبي بكر وعمر وغيرهما.
فلما شرب كانت عادته أن يشرب ويعطي اليمين، ولكن الكبار كانوا عن شماله صلى الله عليه وسلم، والسنة أن يستأذن الصغير ليعطي الشراب للكبير، فلأن الصغير أحق فيستأذن في ذلك، فالنبي صلى الله عليه وسلم الذي هو أولى بالمؤمنين من أنفسهم استأذن ابن عباس في أن يعطي الأشياخ قبله.
فرفض ابن عباس وكان فقيهاً، فهو يريد أن يشرب مما شرب منه النبي صلى الله عليه وسلم ولا يؤثر به أحداً، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال له: (أتأذن لي أن أعطي هؤلاء؟ فقال الغلام: لا والله يا رسول الله! لا أوثر بنصيبي منك أحداً، فدله رسول الله صلى الله عليه وسلم في يده) يعني: وضعه في يده رضي الله تبارك وتعالى عنه.
وهذا ابن عباس هو الذي دعا له النبي صلى الله عليه وسلم أن يعلمه الله سبحانه تبارك وتعالى التأويل، وأن يفقهه في الدين، فاستجاب الله تبارك وتعالى دعوة النبي صلوات الله وسلامه عليه له.
أيوب عليه الصلاة والسلام أعطاه الله عز وجل مالاً كثيراً، وقد كان من أنبياء الله ذوي الغناء واليسار، ثم ابتلاه الله عز وجل فأخذ منه ماله وعياله، وإذا به يصبر الصبر العظيم الذي يضرب به المثل: إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ [ص:44]، عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، ثم إذا بالله يعطيه مالاً عظيماً وفيراً، وكان عنده بيدران أحدهما للقمح والآخر للشعير، فإذا بالله يمطر عليه في أحدهما ذهباً وفي الآخر فضة، فامتلأ البيدران بالذهب وبالفضة، ورد الله عليه من ماله وعياله ما شاء الله سبحانه وتعالى.
وبينما هو يغتسل خر عليه جراد من ذهب، فإذا به يحثو منه في ثوبه، وكان عنده بيدران من ذهب ومن فضة، فلماذا يأخذ هذا الذهب؟ فإذا بالله عز وجل يختبره ويسأله فقال له: يا أيوب! ألم أكن أغنيتك عما ترى؟
فقال: بلى وعزتك، ولكن لا غنى لي عن بركتك!
أي فشيء نزل من عندك فيه بركة، فلا أرده أبداً، فكان الرد جميلاً منه صلى الله عليه وسلم، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل المطر من السماء يخرج تحت المطر ويحسر عن رأسه حتى يصيبه ماء المطر، مع أن الماء موجود في البيت، ويستطيع أن يغتسل منه، لكن المطر قريب العهد بالرب سبحانه، فيرجو بركته صلوات الله وسلامه عليه.
كذلك أيوب، فهذا ذهب نازل من عند الله سبحانه، فهو يرجو البركة من ذلك، وليس لكونه ذهباً، ولكن لأنه شيء ينزل من عند رب العالمين، وهي هدية من السماء لعباده، فيستقبلها أيوب ويطلب البركة من ذلك، وهذا هو الذي بوب عليه الإمام النووي بقوله: التنافس في أمور الآخرة والاستكثار مما يتبرك به.
نسأل الله سبحانه العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر