الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الإمام النووي رحمه الله: [ باب فضل الزهد في الدنيا والحث على التقلل منها وفضل الفقر:
قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ [فاطر:5]، وقال تعالى: أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ * كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوْنَ الْجَحِيمَ [التكاثر:1-6].
وقال تعالى: وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [العنكبوت:64].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (تعس عبد الدينار والدرهم والقطيفة والخميصة، إن أعطي رضي وإن لم يعط لم يرض).
وعنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (انظروا إلى من هو أسفل منكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم فهو أجدر ألا تزدروا نعمة الله عليكم) متفق عليه.
وعنه أيضاً رضي الله عنه قال: (لقد رأيت سبعين من أهل الصفة ما منهم رجل عليه رداء إما إزار وإما كساء، قد ربطوا في أعناقهم، فمنها ما يبلغ نصف الساقين، ومنها ما يبلغ الكعبين فيجمعه بيده كراهية أن ترى عورته) رواه النسائي ].
ذكر الإمام النووي رحمه الله الآيات والأحاديث التي تدل على فضل الزهد في الدنيا والحث على التقلل منها وفضل الفقر.
ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أمرنا بالزهد، فقد جاء عنه أنه قال: (ازهد فيما عند الناس يحبك الناس، وازهد في الدنيا يحبك الله)، فالإنسان المؤمن إذا أعرض عن الدنيا ولم يطلبها، أتته الدنيا وهي راغمة، وليس المعنى أن يزهد فلا يأكل ولا يشرب ولا ينفق على أهله ولا يعمل، بل ينبغي أن يعمل كما أمره الله سبحانه ويأخذ بالأسباب، وإنما المذموم أن يكون همه الطمع في الدنيا وجمعها أو يبلغ به الحرص عليها حتى يستوي عنده الحلال والحرام، بل ينبغي ألا يأخذ من الدنيا إلا بالقدر الذي يكفيه، أما ما هو أكثر من ذلك فشيء يتركه ولا يسعى لحيازته؛ لأنه قد يضيع عبادته بسبب الكثرة والإكثار من الذنوب.
فلذلك يسعى الإنسان المؤمن لكفايته وكفاية أهله فحسب ولا يضيعهم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وكفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت)، أي: كفى بالمرء إثماً أن يضيع أهله زوجة وأبناءً وآباء تجب عليه نفقتهم.
وفي رواية: (كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يعول)، وبذلك يعلم أن من يعمل لينفق على هؤلاء مأجور غير مأزور، أما إذا كان يعمل الليل والنهار ليجمع المال وأدى ذلك إلى أن يضيع الصلاة أو يضيع الصوم فإن عمله مذموم ينبغي عليه تركه.
إلا أن الشيطان قد أتى إلى أشياء لا تحل لهم فزينها وأراهم إياها على غير حقيقتها، فإذا بالإنسان يحب الدنيا ويتلهى بما فيها فيلهيه بريق الذهب والفضة وغيرها من المغريات، ومع أن الله عز وجل يأمره أن يأخذ من الحلال، وأن ينفق في الحلال فإذا بالشيطان يزين له تلك الأشياء، فإذا به يسرق الذهب ويسرق الفضة، ومع أن الله عز وجل خلقها لمنافع العباد وحرم على الرجل أن يلبس الذهب والفضة، وأخبره أنه إذا لبسها في الدنيا تحرم عليه في الآخرة، فإذا بالشيطان يزين له لبس الذهب والتحلي به، ويقذف في روعه أن لبس الذهب فعل الملوك.
كما بين لنا الله عز وجل أنه زين الخلق فجعل في الرجال جمالاً وكمالاً وجعل في النساء من الصفات الجميلة الشيء الكثير، ثم جاء الشيطان ليفتن العباد بعضهم ببعض، فيدعو الرجل إلى أن ينظر إلى من يحل له ومن يحرم عليه من النساء، وجعل النساء كذلك.
والتزيين من الشيطان يكون بقلب الأشياء عن حقيقتها وبجعل الإنسان يشتهي ما لا يقدر أن يصل إليه، فإنه يزين للمتزوج وعنده امرأته وقد تكون أجمل الجميلات، أن ينفر عن امرأته وينظر إلى امرأة أخرى قد تكون في غاية القبح، ثم يمشي معها ويترك امرأته، فإنه حين وقع في تزيين الشيطان يرى هذه جميلة ويرى زوجته قبيحة، وقد يكون الإنسان مع امرأته في عيش فاضل فإذا به ينظر إلى غيرها.
ومن تزيين الشيطان ما يجعل الإنسان يستمع لأشياء لا يحل له سماعها، وهكذا ديدن الشيطان يزين الباطل ويظهره على أنه حق.
أي: لا تغرنكم الدنيا بما خلق فيها من فتن وأشياء تشتهى، واحذروا أن يغركم بالله الغرور، والغرور هو الشيطان.
والمراد بغرور الدنيا زينة الدنيا وما فيها من ملاذ وما فيها من مشتهيات، أما تغرير الشيطان؛ فهو بأن يدل المرء على ما يغتر به ودفعه إلى معصية الله سبحانه تبارك، وإلهائه وحمله على الطغيان،وكلما ذكر بأمر الله عز وجل فإذا به يغفل.
كان العرب قد ألهاهم التكاثر، والتكاثر هو المفاخرة بالكثرة في عدد الأفراد، وكانت الأسر والقبائل يفتخر بعضها على بعض لكثرة عدد الرجال، سواء منهم الأحياء أو الأموات، وقد دفعهم الغرور إلى أن يذهبوا إلى المقابر مفاخرين بكثرة الموتى منهم التي تدل بزعمهم على أصالتهم، منتقصين لمن كانوا ذوي عدد قليل من القبائل، كما افتخر بعضهم على بعض بالقوة والمال، مما أدى إلى افتخار القبائل بعضها على بعض، ويؤكد ذلك قول شاعرهم:
فغض الطرف إنك من نمير فلا كعباً بلغت ولا كلاباً
أي: غض بصرك وانظر إلى الأرض فلا ترفع رأسك؛ لأنك من قبيلة تعد بالقليل وأنتم أذلة.
فجاء الإسلام ليمنع الخلق من ذلك الافتخار الكاذب وجعل ميزان الفخر والرفعة هو التقوى قال تعالى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13]، والتقوى محلها قلب الإنسان لا مظهره، ولما كانت في قلب الإنسان فإنها تفيض على جوارحه بأفعال ترضي ربه سبحانه وتعالى.
وفي قوله تعالى: أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ [التكاثر:1-2]، معنيان:
الأول: هو ما ذكرنا.
والمعنى الآخر: هو جعل (حتى) غائية، والمعنى: الافتخار بالدنيا إلى أن غرتكم ومتم وكان ذهابكم إلى القبور من أجل أن تنظروا أن الحياة الدنيا كانت متاع الغرور، فقوله: حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ [التكاثر:2]، أي: حملتم إليها أمواتاً.
وقوله: كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ [التكاثر:3-4]، أي: تعلمون حين تموتون وحين تذهبون إلى الله عز وجل، ولو كنتم الآن تعلمون العلم الحقيقي علم اليقين كأنكم تعاينون ذلك لأيقنتم بتحقق وعد الله ووعيده، قال تعالى: كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوْنَ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوْنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ * ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ [التكاثر:5-8].
قوله: وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ [العنكبوت:64]، أي: دار الحياة الهادئة، الناعمة، المطمئنة ودار الحياة الحقيقية، الدائمة الأبدية .. السرمدية.
ثم بين جهلهم بها فقال سبحانه: إِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [العنكبوت:64]، إذ لو كان الناس يعلمون ذلك، لعلموا أن الآخرة خير وأبقى ولعملوا للآخرة وتركوا التكثر من الدنيا.
ومن الأحاديث التي تؤكد هذا المعنى حديث أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لو كان لي مثل أحد ذهباً لسرني ألا تمر علي ثلاث ليال وعندي منها شيء إلا شيئاً أرصده لدين).
أي: لو كان عند النبي صلى الله عليه وسلم مثل جبل أحد من الذهب، ما ادخره ولا جمعه للورثة ولا لغيرهم، بل إن الأنبياء لا يورثون؛ لقطع أمل ذرياتهم عن الدنيا، وإن وجد ميراث لأحد منهم فإنه يوزع على الفقراء والمحتاجين، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (نحن معاشر الأنبياء لا نورث؛ ما تركناه صدقة).
ولذا لو كان عند النبي صلى الله عليه وسلم شيء، ما ادخره أكثر من ثلاثة أيام إلا أن يكون عليه دين فيدخر بعضه لسداده، وذلك لأن قضاء الدين من الأشياء اللازمة، وفي الحديث بيان لخطورة أمر الدين.
وفي صحيح البخاري (إذا نظر أحدكم إلى من فضل عليه في المال والخلق فلينظر إلى من هو أسفل منه).
في الحديث أمر للمسلم أن ينظر لمن هو دونه، إذ النظر إلى الأعلى يتعب الإنسان، فلو كنت تمشي في طريق وأنت تنظر إلى الأعلى غير آبه بالطريق، قد تصطدم بغيرك أو تقع في حفرة، وعلى ذلك قس، فإنك حين تنظر إلى من هو فوقك من الخلق قد تقول في نفسك: عنده مال أكثر مني، بل إذا قيس ما عنده بما عندي لم يساو الذي عندي شيئاً بالنسبة إلى ما عنده. وتظل تقارن ما عندك إلى ما عند هذا الإنسان حتى تحتقر ما عندك، وبذلك تحتقر نعمة الله عز وجل عليك.
ولو نظرت إلى من هو دونك لوجدت نفسك تمتلك مالاً وإن كان قليلاً، أما غيرك فليس عنده شيء، وحينها تدرك أنك في نعمة من الله تبارك وتعالى.
ولذا ينبغي أن ينظر المرء إلى من هو دونه، فإذا كان في صحة فلينظر إلى المرضى وقد حرمهم الله عز وجل هذه النعمة، ولكن ينبغي أن يدرك أن الله ما حرمهم من تلك النعمة إلا لحكمة منه سبحانه وتعالى، فإنه يرفع درجات الخلق بابتلائهم ويمحص ذنوبهم، فإذا تذكر المرء ذلك ثم نظر إليهم فليقل ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم: (الحمد لله الذي عافانا مما ابتلى به كثيراً من خلقه وفضلنا على كثير ممن خلق من عباده تفضيلاً)، وبذلك يحمد الله تبارك وتعالى على ما وهبه من نعمة في جسمه، وفي عقله وفي صحته وعافيته.
أما حين ينظر لإنسان آخر فيه شباب وقوة وحيوية يجري في السباق أو يلعب كمال أجسام، فقد يقول: لماذا لسنا مثل هؤلاء؟ أو نحن ماذا بجانب هؤلاء؟ وبذلك يحتقر نعمة الله عز وجل عليه.
وكذلك إذا مرضت بمرض خفيف من الأمراض التي عادة ما يصاب بها الإنسان فلا تتبرم أو تضجر بل ينبغي أن تنظر إلى مريض السرطان أو غيره من الأمراض الفتاكة، فستجد أنه من شدة مرضه قد يعجز حتى عن الأكل والشرب، فضلاً عن أن يحرم النوم من شدة الألم، حينها ستدرك عظيم رحمة الله بك، وقد يكون هذا المرض سبباً في رفع درجتك عند الله أو تكفير سيئاتك.
قوله: (تعس) إما إخبار وإما إنشاء.
أما الإخبار فالمعنى : أنه يخبر أن هذا هالك سيعيش في تعاسة وسيهلك وسيضيع.
وأما الإنشاء فالمعنى: أنه يدعو على من نسي عبوديته لله عز وجل وصار عابداً للمال، وسعى في تحصيل هذا المال من أي طريق كان، بالتعاسة في دنياه وفي أخراه.
وليس معنى قوله: (تعس عبد الدينار والدرهم والقطيفة والخميصة؛ إن أعطي رضي وإن لم يعط لم يرض)، أن من عبد هذه الأشياء سيصلي لها ويسجد لها ويعمل لها من الطاعات، ولكن المعنى: أن الذي يعبد شيئاً فإنه يستولي عليه هذا المعبود حتى يكون العابد وراءه تابعاً له، فإذا عبد الإنسان ربه سبحانه اتبع هداه سبحانه وتعالى، فنظر في الحلال فأقبل عليه ونظر في الحرام فامتنع عنه، وإذا عبد الدنيا لهث وراءها، يريد أخذها غير ملتفت إلى غيرها.
وسمي عابداً لأنه قد ذلل نفسه وطوع إرادته لهذا الشيء الذي يهواه، فهو عابد للدينار، بتتبع من يعطيه الدينار ويجري وراءه، بل قد يعمل المستحيل لكي يحصل على هذا الدينار، ولا فرق إن أخذه من رشوة أو من سحت أو من سرقة؛ لأنه عابد للدينار، يريد أن يأخذه فحسب.
وقوله: (تعس عبد الدرهم)، وهذا كسابقه في الحقارة والخسة، حيث نظروا لأعراض الدنيا ثم أخذوا يلهثون وراءها ولو أذل الواحد منهم نفسه للخلق.
وقوله: (تعس عبد القطيفة والخميصة)، أي: أنه يأخذ أي شيء مهما كان خسيساً ولو خرقة ملبوسة؛ لأن عينه يملؤها هذا الشيء ويسيره من أعطاه فيما يريد، وهو يجتهد أن يفعل له الذي يريده ولو عصى الله سبحانه تبارك وتعالى، وهو بذلك قد طوع لمن أعطاه فصار عابداً له، إذ إن أصل العبادة من التعبيد.
والتعبيد: التذليل والتيسير للشيء، ومنه الأرض المعبدة، أي: الأرض المذللة، الممهدة، السهلة، يقال: هذه أرض معبدة أي: سهلة لا يصعب المشي عليها، ويقال: عبد الطريق: أي ذلّله وأزال العقبات التي عليها من أجل أن تصير سهلة ميسرة للمشي، ولذا فالمعنى أنه صار عابداً لهذه الدنيا حيث طوع نفسه لها، فليس عنده أي اعتراض على أي شيء ما دام سيأخذ الدنيا، فهو يفعل من أجلها أي شيء، ومن وصل به الحال إلى ذلك فإنه تعس في الدنيا وفي الآخرة؛ لأنه باع دينه بدنياه، وبدل الآخرة بهذه الدنيا، وهو مع ذلك لن يحصل من الدنيا إلا ما قسمه الله عز وجل له، وهذا الإنسان يصدق عليه أنه اشترى لا شيء بأعظم الأشياء وهي الآخرة، فأي عقل في إنسان يبيع الآخرة ليشتري الدنيا، وهو يعلم أن الدنيا لن تدوم له، وأي عقل في إنسان يبدل الشيء العظيم الجليل بالشيء الحقير الذي لا قيمة له، يقول الشاعر في مثل هذا:
أخذت بالجمة رأساً أزعرا وبالثنايا الواضحات الدردرا
وبالطويل العمرعمراً أنزرا كما اشترى المسلم إذ تنصرا
والمعنى: أنك بدلت جمة وهو: الشعر الحسن الطويل الجميل بصلعاء، وصرت أقرع أصلع، ونزعت ثناياك أي: أسنانك الجميلة البيضاء بالدرادير الموجودة، كما اشترى المسلم إذ تنصرا، أي: كما صنع الذي ارتد على عقبه، فقد اشترى الدنيا وباع من أجلها الآخرة.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (تعس عبد الدينار والدرهم والقطيفة والخميصة)، الخميصة: ثوب من الأثواب.
قال: (إن أعطي رضي وإن لم يعط لم يرض)، إن أعطى الناس له الدنيا رضي وفرح بهذه الدنيا وإذا لم يعطه الناس سخط.
وهجرتهم تلك إلى المدينة من مكة كانت فتنة عظيمة،فهم لم يذهبوا إلى المدينة للرحلة كما نفعل الآن فنذهب إلى الحج أو العمرة، فنترك مكة ونذهب إلى المدينة للزيارة وفي كلا البلدين خير، بل كان الواحد منهم يخرج من مكة وهي البلد الذي فيها أهله وماله وأبناؤه، إلى المدينة التي كانت أرضاً وبئة -فيها وباء- وحين يصل المسلمون إليها تصيبهم الحمى فيمرض كل من يذهب إليها، حتى دعا النبي صلى الله عليه وسلم ربه (فرأى في منامه كأن امرأة سوداء ثائرة الشعر خرجت من المدينة وذهبت إلى مهيعة، وهي رابغ، فقص النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه القصة والرؤيا وأولها بأنه هذا الوباء، وأن الله سيزيله من المدينة ويذهب به إلى مكان آخر الذي هو مهيعة).
وقد كان الصحابة وهم في المدينة يتذكرون أيام مكة وما كانوا عليه فيها، فيتمثل أحدهم الشعر مثل بلال رضي الله عنه حيث يقول:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة بواد وحولي إذخر وجليل
وهل أردن يوماً مياه مجنة وهل يبدون لي شامة وطفيل
و بلال يعاني من الحمى يتساءل هل سنرجع إلى مكة مرة أخرى برغم أنها البلد الذي كان يؤذى فيها ويعذب إلا أنهم بعد أن هاجروا إلى المدينة، جعل الله عز وجل حب المدينة في قلوبهم، وعوضهم عما فقدوا من الديار والأموال خير تعويض، وما حكاه أبو هريرة هنا كان من الصور التي كانوا عليها في المدينة، حيث نقل صورة في فقرهم وفي تركهم ديارهم آتين إلى المدينة التي لم يلقوا فيها أي مكان يأوون إليه، وكان أهل الصفة أكثر من سبعين رجلاً، والصفة سقيفة مظللة كانت موجودة في آخر مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ينام تحتها هؤلاء الفقراء من المهاجرين.
أما ثيابهم التي كانوا يرتدونها في الصيف وفي الشتاء فيخبرنا عنها أبو هريرة رضي الله عنه وقد كان أحد أصحاب الصفة فيقول: (ما منهم رجل عليه رداء إما إزار وإما كساء)، إذ إنه من أجل أن يلبس أحدهم رداء لا بد أن يلبس تحته إزاراً فالرداء يقال عنه اليوم البدلة وكانت تسمى أيضاً حلة، وأبو هريرة يذكر أن أحدهم ما كان يلقى هذا الشيء، بل هو ثوب واحد يستر به نفسه من أعلى إلى أسفل يشبه ما يسمى اليوم الملاية القصيرة.
قال أبو هريرة : (قد ربطوا في أعناقهم) أي: يربطها أحدهم في رقبته كما يربط الصبي ثوبه في رقبته؛ لأنه لا يكفيه الثوب الذي عليه أن يفصله ويلبسه، وإنما طرفه في رقبته رضي الله عنه.
ثم قال أبو هريرة : (فمنها ما يبلغ نصف الساقين) أي: أن الطول لهذا الثوب من المنكب إلى نصف الساقين، فلا يصل إلى الكعبين.
ثم قال: (ومنها ما يبلغ الكعبين فيجمعه بيده كراهية أن ترى عورته) أي: أنه في أثناء الصلاة يلمه على نفسه حتى لا ترى عورته وهو راكع أو ساجد رضي الله تبارك وتعالى عنهم أجمعين.
كذلك الدنيا بالنسبة للإنسان المؤمن فإنه في الدنيا لو تتبع الحرام سيأخذ ويأخذ ويأخذ ولكنه يحجم عن كل هذه الأشياء؛ لأنها حرام، أما الإنسان الفاجر فتجده يقول ساخراً: كل شيء حرام حرام! أنتم بصنيعكم هذا ستحرمون علينا كل شيء! لأنه لا ينظر إلى الآخرة ولا يتمنع عما حرمه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، إنما يريد أن يحصل على الدنيا فحسب، فلذلك هي جنة للإنسان الكافر، والفاجر الذي يسافر إلى دول أوروبا فإذا رجع يقول عنها إنها جنة، وكذلك من يسافر ليعمل في أمريكا يقول عنها إنها جنة، هناك تلقى البساتين والأنهار والحدائق وكل ما تتخيله، كما أن العامل في اليوم لو استؤجر بعشرة دولار، فإنه منها يأكل ويشرب ويجمع أيضاً، ولكنها جنة الكافر الذي يعيش فيها، أهلها قد أصبحوا مبرمجين على السعي نحو الأعلى.
إذا حصل أحدهم على مكان وكان أمامه مكان أحسن منه، فإنه يلزم نفسه بعمل أكثر؛ من أجل أن يصل إلى الأعلى، وإذا وصل إلى الأعلى ثم رأى مكاناً أفضل منه عمل لأن يصل إلى المكان الآخر، فحياته في دوامه تدور به، فتجدهم يأكلون ويشربون وهم يتحركون في أعمالهم، إذ ليس عندهم وقت للأكل والشرب، يطمع أحدهم في الدنيا فكلما أخذ شيئاً طلب ما هو أعلى منه.
أما المؤمن فإنه مكتف في هذه الدنيا، ينظر إلى ما يكفيه منها فحسب، وشعاره: خذ من حل وأنفق في حل وتصدق لله سبحانه وتعالى بما قدرك الله عز وجل عليه، فهو دائماً إذا أقدم على عمل يتساءل هل هذا حلال أم حرام؟ إن كان حلالاً عمل فيه وإن كان حراماً أو فيه شبهة ابتعد عنه وتركه، كما أنه إن أعطاه الله كثير الإنفاق؛ لأنه يعلم أن الله توعد الكانزين للذهب والفضة يوم القيامة بنار تدخل من أكتافهم فتخرج من صدورهم وهكذا، فالمؤمن دائم الخوف من الله عز وجل كأنه في سجن، والناس حوله يلهون ويلعبون وينال أحدهم ما يشتهيه، أما المؤمن فإنه دائماً يحاسب نفسه على أعماله وكسبه، فهو يؤمن أن الدنيا ستنتهي بأهلها سواء الغني الذي حصل على الملايين أو الفقير الذي لم يلق ما يأكل ويبيت طاوياً، فكلاهما سيموت، وسيأكل التراب الجميع.
وبذلك يكون المؤمن قد نال من الدنيا عبادة الله عز وجل، ووصل إلى غايته بعد أن صبر على الدنيا، إلا أنه يقيناً سيصل بعد ذلك إلى البساتين والجنات والأنهار، أما الكافر فقد نال الدنيا من أجل أن يحاسب عليها في قبره ويحاسب عليها يوم القيامة ومصيره إلى النار.
وعلى ذلك فالإنسان المؤمن وإن كانت الدنيا سجناً له، ففي النهاية مصيره إلى الدار الآخرة وإلى حسن العاقبة.
فالإنسان إذا كان غريباً في مكان ما، فإنه لا يهتم لهذا المكان؛ لأنه يعرف أنه دار غربة وعما قريب سيعود إلى بيته وإلى بلده مرة أخرى، ولذا لن يهتم بتجميل المكان الذي هو فيه؛ لأنه ليس دار إقامة بالنسبة له.
وكذلك عابر السبيل فإنه في أثناء طريقه قد يمر على شيء يشتهيه ولا يأخذه ويرجئ أخذه إلى أن يصل مأواه، فكأن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم ابن عمر وجميع المسلمين: أن الدنيا سبيلك للآخرة وأنك غريب في الدنيا ومكانك الأصلي عند الله عز وجل في جنة الله، وإنما أهبطت إلى الدنيا بقضاء الله وقدره لتعيش فيها فترة ثم ترجع إلى جنة الله سبحانه، فاعمل لهذه الجنة، وإذا كنت في هذه الدنيا كنت كهذا الغريب وكعابر السبيل تحصل منها ما يحل لك، تاركاً الحرام، ولا توطن نفسك على العيش فيها.
وهنا يقول الراوي: كان ابن عمر رضي الله عنهما يقول: (إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك ومن حياتك لموتك).
تعلم ابن عمر الحكمة من النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (إذا أصبحت فلا تنتظر المساء)، وكأنه يقول: إذا كنت غريباً في هذه الدنيا لعلي لا يأتي علي المساء إلا وقد فارقتها فلا ينبغي أن أؤجل الأعمال التي أعملها في الصباح إلى المساء، فإذا كان عليّ دين أسارع في قضائه، وإذا كان علي حقوق لله عز وجل أؤديها ولا أسوف، وإذا كان علي حقوق للخلق أؤديها، إذ المؤمن دائم النظر إلى الموت لعله يأتيه فجأه.
وقوله: (وخذ من صحتك لمرضك)، وصية جميلة لـابن عمر رضي الله عنه، إذ الصحة عماد القيام بالأعمال والتكاليف، فأنت في صحتك تقدر على القيام كما تقدر على العمل الصالح وتقدر على الإنفاق، ولذا يوجهك ابن عمر أن تأخذ من هذه الصحة فتقوم الليل لله سبحانه وتعالى، وتكثر من الصيام لله سبحانه وتعالى، وتسعى جاهداً لتفعل الطاعات مستغلاً الصحة قبل أن يأتي المرض، فقد يحذرك الأطباء من القيام بكثير من الأعمال كالصوم والقيام وغيرها من أعمال الطاعات.
إن وصية ابن عمر بالأخذ من الصحة للمرض كنز عظيم جداً، فإنه إذا واظب الإنسان على صيام الإثنين والخميس وصيام الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر من كل شهر، ثم جاءه المرض وحذره الأطباء من الصيام، فإنه يكتب لهذا الإنسان ما كان يفعل قبل المرض، فيكتب له أجر صائم وهو مفطر وبذلك يكون قد أخذ من صحته لما ينفعه في مرضه.
وكذلك إذا كان يواظب على صلاة الجماعة في صحته، ويواظب على قيام الليل ثم جاء المرض فأقعده في بيته وأصبح يصلي على سريره، فإن الله عز وجل يأمر الملائكة أن يكتبوا له ما كان يفعله صحيحاً مقيماً، فيكتب له وهو في فراش مرضه كأنه يصلي مع الناس في الجماعة ويكتب له أجر الجماعة كما يكتب كأنه قائم الليل، وذلك من فضل الله ورحمته سبحانه.
قوله: (فخذ من صحتك لمرضك ومن حياتك لموتك).
قال العلماء: معنى الحديث لا تركن إلى الدنيا ولا تتخذها وطناً، ولا تحدث نفسك بطول البقاء فيها، ولا بالاعتناء بها، ولا تتعلق منها إلا بما يتعلق به الغريب في غير وطنه، ولا تشتغل فيها بما لا يشتغل به الغريب الذي يريد الذهاب إلى أهله.
أي: دلني على عمل إذا عملته أحبني الله، فإني أريد الحب من الله سبحانه، وأحبني الناس فإني أريد حب الناس أيضاً.
فقال صلى الله عليه وسلم: (ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس).
يجوز في قوله: (يحبك الناس)، أن تقول: يحبك بالنصب أو بالرفع. ومعنى قوله: (ازهد في الدنيا يحبك الله وازهد فيما عند الناس يحبك الناس)، أي: أنك إذا تركت الدنيا لله أحبك الله سبحانه وتعالى، وإذا زهدت فيما عند الناس أحبوك، فإن الذي يضايق الناس أن تطلب الذي في أيديهم، وأن تضيع عليهم ما عندهم، ولذا فإذا أردت حب الناس فاجعل نفسك بعيداً عن الناس ومشتهياتهم، ونزه نفسك عن أن تطلب ما في أيديهم.
يتذكر عمر رضي الله عنه بعد أن فتح الله عز وجل على الناس من المغانم وصاروا يأكلون ما يشتهون ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم، ويقول لكل مسلم: لا تفرح بهذا الذي أعطاك الله، فإنه لو كان مما يفرح به لأعطاه الله لنبيه صلى الله عليه وسلم، ولكني رأيته يتلوى صلى الله عليه وسلم من شدة الجوع.
قوله: (لا يجد من الدقل)، الدقل: رديء التمر، أي: لا يجد من رديء التمر ما يملأ به بطنه صلوات الله وسلامه عليه، والحديث رواه مسلم .
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما في بيتي من شيء يأكله ذو كبد إلا شطر شعير في رف لي فأكلت منه حتى طال علي فكلته ففني).
فأم المؤمنين عائشة التي هي أحب نساء النبي صلى الله عليه وسلم إليه تخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم توفي في بيتها وما في بيتها شيء يأكله ذو كبد وقولها: (ذو كبد) تريد أي حيوان والإنسان من ضمن الحيوان.
وقولها: (إلا شطر شعير)، أي: كيلة أو شيء من الشعير وقد أصبح الشعير اليوم طعام البهائم، وقد كان يأكله أصحاب النبي صلوات الله وسلامه عليه ويأكله النبي صلى الله عليه وسلم.
قولها: (فأكلت منه حتى طال علي)، أي: أنها كانت تطحن الشعير، ثم تصنع منه خبزاً تأكله رضي الله عنها فأكلت منه زمناً.
قالت: (حتى طال علي فكلته ففني).
وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن أن يكون عند الإنسان الطعام فيظل يكيله في كل وقت ليعرف كم بقي منه، ولذا ينبغي أن يترك ببركته ويؤخذ منه لعل الله عز وجل يبارك فيه، كما حدث مع أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها فقد كان عندها شيء من شعير وضعته داخل الجراب وكانت تأخذ وتأكل إلى أن بقي معها فترة طويلة، ثم كالته ففني.
وهذا من فضل الله عز وجل على عباده، حيث يرزقهم ويبارك لهم في رزقهم ولو كان قليلاً، فشطر الشعير شيء يسير، إلا أن السيدة عائشة رضي الله عنها ظلت تأكل منه زمناً حتى تعجبت، فكان من بركة الله عز وجل على آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم أن جعل لهم البركة في طعامهم وإن كان شيئاً قليلاً، لكن لما كالته فني.
فكانت هذه الأشياء هي تركة النبي صلوات الله وسلامه عليه، فكل ما تركه شيء يسير كان يعده للجهاد في سبيل الله، وترك أرضاً فكانت صدقة، فليأتس المؤمن برسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا حصل من الدنيا شيئاً فليؤد حق الله عز وجل فيما أخذه منها، ولا يطمع في الدنيا وليكن في الدنيا، كأنه غريب أو عابر سبيل.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر