الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الإمام النووي رحمه الله: [ باب الرجاء.
وعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم ومعاذ رديفه على الرحل، قال: (يا
وعن أبي هريرة وأبي سعيد رضي الله عنهما، قالا: (لما كان غزوة تبوك، أصاب الناس مجاعة فقالوا: يا رسول الله! لو أذنت لنا فنحرنا نواضحنا فأكلنا وادهنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: افعلوا، فجاء
وهناك أحاديث أخرى يذكرها الإمام النووي رحمه الله في كتابه القيم رياض الصالحين في باب الرجاء، وهذا الباب معقود في الإنسان المؤمن الذي يرجو رحمة الله سبحانه، ويتعلم منه أنه لا ييئس من رحمة الله ولا من فضله سبحانه، وأنه إذا وقع في الذنوب فليسرع بالمبادرة إلى التوبة إلى الله عز وجل، فإنه يتوب على من تاب سبحانه.
وإن الإنسان لا يستكثر ذنوبه، فرحمة الله أكثر وأعظم قال تعالى: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ [الأعراف:156].
فالعبد يرجو رحمة الله ولا يخاف من عقوبته، ومن أخذه فإنه عزيز ذو انتقام سبحانه تبارك وتعالى، فالخوف من الله لا يدفعه إلى اليأس، والرجاء في رحمة الله لا يمنعه من العمل، ولكن يعمل بالاثنين، ففي الخوف يخاف من الله ويرجو رحمته، فإذا أذنب بادر إلى التوبة إلى الله سبحانه، فالخوف من الله لا يدفعه إلى اليأس، والرجاء في رحمة الله لا يمنعه من العمل، فإن الله شديد العقاب، وإن الله غفور رحيم قال تعالى: نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ [الحجر:49-50].
فالإنسان يطمع في رحمة الله، ولا يؤدي به هذا الطمع إلى أن يفرق في طاعة رب العالمين سبحانه، راجياً الرحمة، وناسياً العقوبة .
وسعديك: من المساعدة والخدمة في الطاعة أي: أنا خادم لك، أنا مطيع لك، أنا باق على خدمتك وطاعتك، ومسارع إلى ذلك.
بعدما كرر ذلك ثلاث مرات كلها ليشد انتباه معاذ حتى ينتبه ما الذي يريده النبي صلى الله عليه وسلم.
قال: (ما من عبد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله صدقاً من قلبه) وهنا القلب مستيقن، القلب مصدق بأن الله هو وحده الذي يعبد لا إله إلا هو، وهذا الصدق في القلب يدفعه إلى العلم، وأن يوجه عبادته إلى الله فلا يشرك به أحداً سبحانه وتعالى، وأن محمداً عبده ورسوله صلوات الله وسلامه عليه، عبد قد أوحى الله عز وجل إليه بهذه الرسالة العظيمة وبدين الإسلام، فيصدق العبد أن هذا الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم هو من عند رب العالمين، وأنه واجب عليه أن ينفذ ذلك فيطيعه في أمر الله وأمر رسول الله صلوات الله وسلامه عليه .
فإذا كان على ذلك فيحرمه الله على النار، قال: (إلا حرمه الله على النار، فقال
لكن لما جاءت وفاة معاذ رضي الله عنه أخبر بها تأثماً، يعني: خائفاً من الإثم، خاف أنه يموت ولم يبلغ حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبر بها، فهو الآن يخبر، والذي يسمع ذلك يفهم المعنى الذي أراده النبي صلى الله عليه وسلم منه أنك تقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله مستيقناً بذلك من قلبك، فتأتي بهذه الشهادة بشروطها كما ذكرنا قبل ذلك، وهي: العلم واليقين والقبول والانقياد والصدق والإخلاص والمحبة والولاء والبراء، فتأتي بشروط لا إله إلا الله، فيجعلك الله عز وجل من أهل الإيمان.
فاستأذنوا النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: (لو أذنت لنا) وهذا من أدب الصحابة كل واحد منهم يملك ناضحاً له، ولكن قبل أن يذبح الناضح الذي معه يسأل النبي صلى الله عليه وسلم متسأذناً، فأذن لهم صلى الله عليه وسلم.
قالوا: (لو أذنت لنا فنحرنا نواضحنا فأكلنا وادهنا)، بمعنى: لو أذنت لفعلنا، ولو لم تأذن لم نفعل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (افعلوا، فجاء
فاقترح عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه هذا الاقتراح العظيم، فقال: (يا رسول الله! ولكن ادعهم بفضل أزوادهم، ثم ادع لهم بالبركة، لعل الله أن يجعل في ذلك البركة) وهو مستيقن، أنه سيكون في ذلك البركة بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم، ففعلاً قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك.
النبي صلى الله عليه وسلم كان بالمؤمنين رءوفاً رحيماً ظهرت رأفته ورحمته وحنانه عندما استأذنوه، فلو قال: لا، لرجع كل واحد يفكر: سنجوع ولن نجد الأكل، فهنا من رحمته صلى الله عليه وسلم أنه أذن لهم، فجاء عمر واقترح اقتراحاً آخر: أن دعوة النبي صلى الله عليه وسلم مباركة، فما هو المانع بأن تدعو بفضل الأزواد، والله تبارك وتعالى يبارك في ذلك؟ ثقة من عمر في ربه سبحانه، وفي بركة دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: نعم ودعا بفضل أزوادهم، فجعل الرجل يجيء بكف ذرة، وهو طعامه الذي بقي معه، وكانوا يأكلون ذلك في الطريق، فكيف سيأكلون كف الذرة وهم في الطريق؟! هل هذا أكل جيش ذاهب ليجاهد في سبيل الله؟!
ويجيء الآخر بكف تمر، ويجيء الآخر بكسرة خبز، حتى اجتمع على ذلك النطع من ذلك الأكل شيء يسير، ومن ثم فرش نطع - وهي قطعة جلد - على الأرض من أجل أن يأتوا بما معهم من أزواد، فاجتمع قليل من الطعام فوق ذلك النطع من الجلد، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله ينزل البركة والنماء والزيادة والفضل على هذا الطعام، فإذا بالطعام يزيد، فقال: خذوا في أوعيتكم، فأخذوا في أوعيتهم، حتى ما تركوا في العسكر وعاءً إلا ملئوه، وأكلوا حتى شبعوا وفضل فضلة، وهذه بركة من بركات رب العالمين بدعاء النبي صلوات الله وسلامه عليه!
وهذه ليست أول مرة، فقد رأينا قبل هذا في الحديبية كيف دعا النبي صلى الله عليه وسلم حتى كثر الماء، وهنا أكل الجيش من هذه الكسر ما ملئوا به بطونهم وملئوا أيضاً أوعيتهم.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك: (أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله) وهو يعرف ذلك صلى الله عليه وسلم يقيناً، ولكنه يعلمهم ما الذي ينبغي أن يقال في هذا الوقت، من الشهادة بأنه رسول حق، وهذه معجزة من الله سبحانه وتعالى.
قال صلى الله عليه وسلم: (أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، لا يلقى الله بهما عبد غير شاك فيحجب عن الجنة)، أي: لا يشك بأنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن الله واحد لا شريك له، وهذا التصديق يدفع صاحبه إلى العمل، فإذا قال ذلك مصدقاً بقلبه غير شاك في ذلك استحق أن يدخل الجنة.
معنى ذلك أنه إمام لقومه رضي الله تبارك وتعالى عنهم، وهم بنو سالم.
ومعنى (فأنكرت بصري) أنه بدأ يضعف مع تقدم السن فإذا جاء المطر سال الوادي فأصبح من الصعب أن يصل إلى المسجد ليصلي بالناس ، فذهب يستأذن النبي صلى الله عليه وسلم بأن يعمل مسجداً في داره في المكان الذي هو فيه، بحيث يصلي في هذا المكان ويصلي الناس معه فيه.
وهنا انظروا إلى أدب الصحابي رضي الله عنه، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من بنى لله مسجداً ولو كمفحص قطاة بنى الله له بيتاً في الجنة)، فهذا إذن عام، ولكنه رضي الله عنه خاف من تفرقة المسلمين عندما يبني المسجد، فقال: لا بد أن أستأذن النبي صلى الله عليه وسلم أولاً.
قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (فوددت أنك تأتي تصلي في بيتي مكاناً أتخذه مصلى) ، فهو عندما يبني هكذا من نفسه الناس سينكرون عليه، سيقولون له: كيف تعمل هذا لوحدك؟! أنت تريد أن تفرق بين المسلمين فعندما يأتي النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه ويصلي في هذا المكان فهو دليل على أنه موافق ومقر بذلك.
فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: (سأفعل! قال: فغدا علي رسول الله صلى الله عليه وسلم و
جاءه النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه، ومعه أبو بكر رضي الله تبارك وتعالى عنه، واستأذنه فأذن له.
قال: (فلم يجلس حتى قال: أين تحب أن أصلي من بيتك؟) ، وانظروا إلى إكرام النبي صلى الله عليه وسلم للصحابي الجليل، يكرمه بأنه لم يجلس أول ما دخل، وإنما قال: أين تريد أن أصلي لك؟ فهذا أدب عظيم منه صلى الله عليه وسلم، ورحمة عظيمة، وتلطف مع أصحابه.
ولاحظ أنه لم يختر المكان صلى الله عليه وسلم؛ لأنه سأل صاحب البيت، قال: (فأشرت إلى المكان الذي أحب أن يصلي فيه، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فكبر وصففنا وراءه، فصلى ركعتين، ثم سلم وسلمنا حين سلم، فحبسته على خزير تصنع له) ، صلوات الله وسلامه عليه، والخزير هي دقيق مطبوخ بدهن أو بشحم.
قال: (فسمع أهل الدار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي) ، كانت بيوتهم متجاورة يجمعهم حوش واحد، وهذا الآن نسميه عمارة، فهذا يسمى الدار، فهو مجموعة بيوت في مكان واحد أو سور واحد.
فسمع أهل الدار -يعني: مجموعة البيوت التي حوله- بأن النبي صلى الله عليه وسلم عنده، قال: (فثاب رجال منهم حتى كثر الرجال في البيت) ، جاءوا كلهم لينالوا بركة وجود النبي صلى الله عليه وسلم في المكان.
(فقال رجل: ما فعل
يعني: الله ورسوله أعلم، ولكن الذي نراه أنه دائماً يجالس المنافقين، فهم أصحابه وأحباؤه يتكلم معهم، فهو مثلهم، وهنا لعل الرجل يجلس معهم ليدعوهم؛ لأن بينه وبينهم نوعاً من المعاملة، وجلوسه معهم ليس فيه دليل على أنه منافق خارج عن هذا الدين.
فلذلك رد النبي صلى الله عليه وسلم عليهم ما قاله، فقال صلى الله عليه وسلم: (فإن الله قد حرم على النار من قال: لا إله إلا الله، يبتغي بذلك وجه الله) .
هذا حديث عظيم جداً في معرفة حرمة الإنسان المسلم الذي يقول: لا إله إلا الله، فله حرمة لا ينبغي لأحد أنه يغتابه أو يذمه، فينبغي إحسان الظن، وأنه إذا رئي على شيء يتأول له: يمكن قصده كذا.. يمكن قصده كذا.. إلا إن ظهر نفاقه واشتهر به، فهذا أمر آخر.
أما كونه يتعامل مع فلان أو فلان من المنافقين أو الكفار فهذه معاملة في بيع أو شراء، ولكن حبه لله ولرسوله صلوات الله وسلامه عليه.
إذاً: لا تسيئوا الظن إلا بأمارة ظاهرة، وبدليل قوي بين، وإلا فأحسنوا الظن في المسلم.
وهنا صورة من صور حنان الأم مع ولدها لن تفوت على النبي صلى الله عليه وسلم أن يعطي أصحابه العظة فيها، فهذه مجموعة من السبي وفيهم هذه المرأة تبحث عن صغير لها، فوجدت الطفل فأخذته بمنتهى الحنان، وضمته إلى صدرها فأرضعته.
يا ترى وهي في هذه الحال هل ممكن أن تأخذ الصبي وترميه على الأرض مثلاً؟ هل ممكن أن تأخذ هذا الصبي وتلقيه في النار مثلاً؟ هذا غير ممكن، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: (أترون هذه المرأة طارحة ولدها في النار؟ فقلنا: لا والله، فقال صلى الله عليه وسلم: لله أرحم بعباده من هذه بولدها).
ورحمة رب العالمين عظيمة، الله أرحم بعباده من هذه بولدها، فإذاً لن يدخل النار إلا من عق والديه أو ترك أوامر الله سبحانه وتعالى وأشرك بالله سبحانه، وخالف وعاند واستكبر عن طاعة رب العالمين، هذا الذي يستحق عذاب رب العالمين.
فالإنسان الذي يتوب إلى الله، فالله رحيم ورءوف بعباده سبحانه، فإذا دعا العبد ربه استجاب له، وإذا استغفر ربه غفر له، وإذا طلب من ربه أعطاه تبارك وتعالى، فربنا رحيم عظيم الرحمة، وانظروا إلى قدر رحمته في حديث أبي هريرة المتفق عليه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لما خلق الله الخلق كتب في كتاب فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي تغلب غضبي) ، قد يغضب الله عز وجل على عبد من عبيده، وهذا العبد يبادر فيستغفر ربه تبارك وتعالى، فهنا غضب الله عليه لمعصيته، فإذا به يتوب، فالرحمة تغلب الغضب وتسبقه، وربنا يرحم هذا العبد الذي تاب إليه.
قسم الله عز وجل الرحمة أجزاءً، فجعلها مائة جزء، أنزل في الأرض جزءاً واحداً من الرحمة، يا ترى هذه الرحمة التي نزلت في الأرض هل هي كثيرة أم قليلة؟ هذه لا شك أنها رحمة عظيمة جداً، والجزء من الرحمة الذي نزل إلى الأرض به يتراحم الخلق، يرحم الأب ابنه، وترحم الأم ولدها، وترحم الدابة صغيرها.
يقول صلى الله عليه وسلم: (وأنزل في الأرض جزءاً واحداً، فمن ذلك الجزء يتراحم الخلائق حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه) من هذا الجزء من الرحمة الذي وزع على كل الخلق من أولهم إلى آخرهم إلى أن تقوم القيامة يتراحم الخلائق.
كم ستكون رحمة رب العالمين يوم القيامة؟! ويرفع هذا الجزء مع التسعة والتسعين فكمل يوم القيامة مائة جزء، فبها جميعها يرحم الله عز وجل عباده يوم القيامة.
الذي يسمع بذلك يحسن الظن في رب العالمين سبحانه وتعالى، ويرجو رحمة الله مهما وقع فيه من ذنوب ثم تاب إلى ربه سبحانه؛ لأنه يعلم أن الله علي قادر سبحانه تبارك وتعالى، وأن عذابه شديد لا طاقة للعبد به، فيتوب إليه ويرجو رحمته، فرحمته تغلب غضبه سبحانه تبارك وتعالى.
وفي رواية من هذا الحديث قال: (فإذا كان يوم القيامة أكملها بهذه الرحمة).
فإذاً: غفر الله عز وجل لهذا العبد، لأنه أذنب فتاب وقال: أذنبت، فاعترف وندم على ذنبه وتاب إلى الله، فتاب الله عليه؟ ثم أذنب مرة أخرى، فعلم أنه أذنب وتاب إلى الله.
رحمة عظيمة من رب العالمين سبحانه، هنا: (فليفعل ما شاء) ليس المعنى أنه يعصي كما يريد، ويذهب يشرك بالله كما يريد، وإنما المعنى: أنك قد تقع مرة ثانية وثالثة طالما أنت على ذلك، وكلما وقعت في ذنب ندمت واستغفرت، فالله يغفر وإن تكرر ذلك مائة مرة، طالما أنك تجرد التوبة، وترجع إلى ربك سبحانه، وكل بني آدم خطاء، وما من مؤمن إلا وله ذنب يعتريه الفينة بعد الفينة، وكل مرة لعله يقع في شيء فيرجع يلوم نفسه ويتوب إلى الله عز وجل، ولعله بعد فترة يقع مرة أخرى، فإذا كان العبد يسرع في التوبة إلى الله، ويندم على الذنب، وينوي ألا يفعله، ومن ثم تأتي الأقدار فيقع فيه مرة ثانية مع كراهته للذنب وحبه للرب سبحانه، وتوبته إلى الله، فالله عز وجل يغفر له وإن وقع مراراً وتكراراً في هذا الذنب أو في غيره بهذا الشرط، أن يتوب العبد إلى ربه سبحانه، وأن ينوي ألا يعود إلى ذلك .
أما الذي يقع في الذنب ولا يهمه ذلك، واستغفر الله وهو مقيم على هذا الذنب، ويفعله وينوي أن يفعله مرة ثانية وثالثة ورابعة، فهذه التوبة ليست المذكورة في هذا الحديث، لكن من تاب إلى الله وهو ينوي ألا يعود إلى ذلك فهو المقصود.
قال الإمام النووي : [قول الله تبارك وتعالى: (فليفعل ما شاء)، أي: ما دام يذنب ويتوب غفرت له، فإن التوبة تهدم ما قبلها].
إذا كان كل الخلق لا يذنبون فسيغفر لمن؟ خلق الله سبحانه وتعالى الإنسان وهو يعلم أنه يعصي، وأنه يرجع إلى ربه، وأنه ينسى، ثم يتذكر ويتوب إلى الله، فالملائكة لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6]، لكن الإنسان خطاء: (كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون) ، فخلق الله عز وجل الخلق وعلم أنهم يذنبون، وخلقهم في الأرض فمنهم من يصلح ومنهم من يفسد، هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ [التغابن:2] فيبتلي العباد بعضهم ببعض سبحانه وتعالى، ويذنب العبد ويتوب إلى الله، ويستغفر ربه؛ فيغفر الله عز وجل للعبد.
والمعنى أنك لا تيئس أبداً من رحمة الله ومغفرته، فمهما وقعت في ذنب سواء كان صغيراً أو كبيراً، حتى الشرك بالله، إذا وقع فيه العبد فتاب ووحد ربه ورجع إلى الإيمان والتوحيد فإن الله يغفر الذنوب جميعاً.
إذاً: متى لا يغفر الشرك؟ إذا مات العبد مشركاً بالله تبارك وتعالى، إما إذا كان كافراً وجاء في آخر حياته فتاب وأسلم، فالإسلام يجب ما قبله، فالله سبحانه تبارك وتعالى يغفر الذنوب جميعاً.
فجأة قام وتركهم لحاجة من حوائجه صلى الله عليه وسلم، فلما تأخر فزعوا وتهامسوا: أين ذهب النبي صلى الله عليه وسلم؟! فبحثوا عنه، وكان أول من خرج للبحث عنه أبو هريرة رضي الله تبارك وتعالى عنه .
قال: (حتى أتيت حائطاً للأنصار) ، كأنه ظن أن يكون فيه النبي صلى الله عليه وسلم، فبحث عن باب لهذا الحائط فلم يجد، ولعله من شدة فزعه واندهاشه من غياب النبي صلى الله عليه وسلم لم ير باب الحائط، فوجد جدولاً صغيراً فدخل منه حتى وجد النبي صلى الله عليه وسلم بالداخل.
كأنه دخل إلى هذا المكان فنزل عليه الوحي بذلك صلوات الله وسلامه عليه، فكأن النبي صلى الله عليه وسلم علم أن الناس سيقولون: من أين أتيت بهذا الكلام، نحن لم نجد النبي صلى الله عليه وسلم؟ فأعطاه النعلين أمارة وعلامة على أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي أمره بذلك وفعلاً خرج فكان أول من لقيه عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه، فقال له: إلى أين يا أبا هريرة ؟ فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرني أن أبشر من وجدت وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله مستيقناً بها قلبه بالجنة.
فإذا بـعمر يخاف من اتكال الناس، فيأمر أبا هريرة بالرجوع، فوكزه حتى أوقعه رضي الله تبارك وتعالى عنهما، وقال: ارجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تفعل!
يا ترى! هل عمر لا يريد قول النبي صلى الله عليه وسلم أن يبلغ للناس؟! هنا ذهب أبو هريرة إلى لنبي صلى الله عليه وسلم يبكي، ووراءه عمر رضي الله تعالى عنه، فسأله النبي صلى الله عليه وسلم لم فعلت ذلك؟! فكان جواب عمر قال: (يا رسول الله ! إذاً يتكلوا) ، فهي نفس الكلمة التي قالها النبي صلى الله عليه وسلم لـمعاذ رضي الله تعالى عنه: (إذاً يتكلوا)؛ لأن الناس لو علموا ذلك من غير أن يفهموا المعنى لاتكلوا على اللفظ، فأنا أقول لا إله إلا الله وأعمل الذي أريد، وسأدخل الجنة، فالأمر ليس كذلك.
لقد ذكر الله عذاب أهل النار من الكفار والموحدين الذين يقولون: لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنهم توزن أعمالهم يوم القيامة، فمن رجحت سيئاته على حسناته أدخله الله عز وجل النار.
إذاً: هناك نار لعصاة الموحدين يدخلونها يوم القيامة، فلو سمعوا أنهم سيدخلون الجنة ولا يوجد نار لقالوا: نحن كلنا سندخل الجنة، فلا يفهمون ذلك، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة أصابه قبل ذلك ما أصابه) ، يعني: قد يدخل النار فيمكث فيها دهوراً كثيرة، ويعذب فيها على معاصيه وذنوبه، وبعد ذلك تدركه رحمة رب العالمين سبحانه، فيخرجهم من النار إلى الجنة .
فكأن هذه الكلمة العظيمة تنفع صاحبها يوماً من الدهر، أصابه قبل ذلك ما أصابه، وقد يدخل النار، وقد يتغمده الله برحمته فلا يدخله النار ويدخله الجنة، وقد يصاب قبل ذلك وهو في الموقف فيعذب ما شاء الله عز وجل أن يعذب مثل مانعي الزكاة، حيث يعذبون في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، فصاحب الإبل يطرح في قاع قرقر، وتمر عليه الإبل في أسمن ما كانت وأوفر ما كانت، فتطؤه بأخفافها، وتعضه بأسنانها، فهذا عذاب مانعي الزكاة في هذا اليوم، ومانع الزكاة مسلم يقول لا إله إلا الله، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (حتى يرى سبيله إلى الجنة أو إلى النار).
إذاً: لا يغتر الإنسان عندما يقول: لا إله إلا الله، فلا بد أن يقول: لا إله إلا الله مستيقناً بها قلبه، تدفعه للعمل، فتنفعه هذه الكلمة.
عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما (أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا قول الله عز وجل في إبراهيم: رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [إبراهيم:36] ، وتلا قوله سبحانه تبارك وتعالى في عيسى: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [المائدة:118] ، فرفع يديه صلى الله عليه وسلم وقال: اللهم أمتي أمتي! اللهم أمتي أمتي!) .
يعني: هنا سيدنا إبراهيم يقول: فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [إبراهيم:36] .
وسيدنا المسيح عليه الصلاة والسلام قال: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [المائدة:118].
دعاء عظيم ومهذب ومؤدب من سيدنا المسيح وسيدنا إبراهيم عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام .
فجاء دعاء النبي صلى الله عليه وسلم أعظم من دعائهما، فقال صلى الله عليه وسلم وبكى: (اللهم أمتي أمتي!)، يعني: لا تخفرني في أمتي، لا تجعل أمتي في النار، فقال عز وجل: (يا جبريل! اذهب إلى محمدٍ صلى الله عليه وسلم -وربك أعلم- فاسأله: ما يبكيه؟) ، ليس محتاجاً إلى جبريل؛ لأنه سبحانه تبارك وتعالى أعلم، ولكن حتى ينطق ويتكلم صلى الله عليه وسلم من نفسه.
قال: (فأتاه جبريل فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قال، وهو أعلم، فقال الله تبارك وتعالى لجبريل: اذهب إلى محمدٍ صلى الله عليه وسلم فقل: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك) ، فهنا دعاؤه كان أعظم صلوات الله وسلامه عليه، والله عز وجل وعده ألا يسوءه في أمته، يعني: لا يجعل أمته معذبة بين يديه صلى الله عليه وسلم إلا من استحق ذلك .
ولذلك جاء في حديثه صلى الله عليه وسلم: (ليذادن أقوام عن حوضي يوم القيامة، فأقول: أصحابي أصحابي!) ، فهنا يتحسر عليهم ويقول: أصحابي الذين كانوا أتباعي من المؤمنين، فيقال للنبي صلى الله عليه وسلم: (إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك) ، يعني: بدلوا هذا الدين وغيروا وعصوا الله سبحانه تبارك وتعالى فيستحقون العذاب، فيقول صلى الله عليه وسلم: (ألا سحقاً! ألا بعداً!) ، يعني: أبعدوهم عني، سحقاً لهم!
عذاباً لهم! قاتل الله عز وجل هؤلاء الذين ابتعدوا عن سنة النبي صلوات الله وسلامه عليه، فرحمة الله عظيمة لمن يتوب إلى رب العالمين سبحانه، ولمن يعرف قدر الله سبحانه.
وقال سبحانه: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ [الأنعام:91] ، فإذا عرف العبد قدر ربه سبحانه، وعبد ربه عن يقين، وقال: لا إله إلا الله موقناً بهذه الكلمة العظيمة ودفعته إلى العمل الصالح، فهذه تنفع صاحبها، ويرجو رحمة رب العالمين، نسأل الله عز وجل من فضله ورحمته سبحانه .
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر