قال الإمام النووي رحمه الله: [باب الخوف.
قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ [الحج:1-2]، وقال تعالى: وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ [الرحمن:46] الآيات.
وقال تعالى: وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ * فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ * إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ [الطور:25-28].
وعن أبي برزة نضلة بن عبيد الأسلمي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تزول قدما عبد حتى يسأل: عن عمره فيم أفناه، وعن علمه ماذا عمل به، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن جسمه فيم أبلاه)، رواه الترمذي وقال حسن صحيح.
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم القرن، واستمع الإذن متى يؤمر بالنفخ فينفخ، فكأن ذلك ثقل على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لهم: قولوا: حسبنا الله ونعم الوكيل)، رواه الترمذي وقال: حديث حسن.
فهذا آيات في كتاب الله عز وجل، وأحاديث من سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم تبين الخوف من الله سبحانه وتعالى، والخوف من عمل السوء، ومن عذاب الله عز وجل، ومن القبر وما فيه، ومن الموقف ومن الحساب يوم القيامة يوم الحشر إلى الله سبحانه وتعالى.
إن المؤمن كلما تفكر في هذه الأشياء خاف من الله سبحانه وتعالى أن يكون غير راض عنه؛ لأن الله عز وجل إذا رضي عن العبد أمنه يوم القيامة، وإذا سخط عليه خوفه، يقول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ [الحج:1].
والنفخ في الصور وموت جميع الخلق فيها هول عظيم جداً.
قال الله تعالى: يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا [الحج:2]، والأصل: كل مرضع، وهو وصف تختص به المرأة التي ترضع، ولا يوجد في الرجال من يرضع حتى يقال: مرضع ومرضعة، ولكن العلماء قالوا هنا: إنه وإن كان يقال بأن المرأة مرضع، ولكن قد يؤتى بتاء التأنيث لبيان أنها في الوقت الذي تلقم الصبي ثديها، ففي هذه تسمى: مرضعة، والمرأة وقت الإرضاع تكون أشد حناناً على الصبي، فتضمه إلى حضنها، وتقبله وتلقمه ثدييها، فمن هول الموقف يوم القيامة لو أن هذه المرضع معها طفلها فإنها تذهل عنه وتلقيه، وتقول: نفسي نفسي، فكيف يكون الأمر عند غيرها؟
قال الله سبحانه: وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا [الحج:2].
والمرأة الحامل إذا فزعت أسقطت حملها، ومن الشدة والفزع في يوم القيامة تلقى الحامل حملها وتسقطه.
قال الله تعالى: وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى [الحج:2] أي: يخرجون من القبور كهيئة السكارى، وهولاء هم الفجار، وأما المؤمنون فهم خائفون وجلون في هذا اليوم العظيم، نسأل الله عز وجل العفو والعافية، وأن يثبتنا فيه، وألا يجعلنا كهؤلاء السكارى قال الله سبحانه: وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ [الحج:2].
لو أن الناس يعلمون ما يعلم النبي صلى الله عليه وسلم لفعلوا ذلك، ولكن الله سبحانه لم يجعلهم كالنبي صلى الله عليه وسلم، فهو يسمع ما لا نسمع، ويرى ما لا نرى، ويعلم بالوحي ما هو غائب عنا.
فلو أن الإنسان انكشف عنه الغطاء ورأى ما غاب عنه من صور الملائكة، وخشوعهم بين يدي الله سبحانه وتعالى، وما ينتظر في الجحيم من عذاب، كان الإنسان لا يستقر في مكانه.
والإنسان الخائف لا يستقر به المكان، ولا يقدر على النوم والقعود فهو يدخل ويخرج من شدة الخوف والفزع، فكذلك لو أن الإنسان انكشف عنه الغطاء ورأى ذلك.
ولو رأى ما في النار من عذاب وما في الجنة من نعيم، لخاف أن يحرم الجنة وأن يدخل النار، قال صلى الله عليه وسلم: (لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً، وما تلذذتم بالنساء على الفرش، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون).
والصعدات بمعنى الطرقات فهذا الإنسان الذي يخاف من الله عز وجل لا يستقر في مكان لو أنه حقق الخوف.
وحديث أبي برزة قد رواه الترمذي أيضاً، وفيه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تزول قدما عبد حتى يسأل عن عمره فيم أفناه)، ففي يوم القيامة تزول الأقدام من الموقف وبعد ذلك إما الجنة وإما النار.
ويسأل العبد يوم القيامة عن عمره ماذا عمل فيه؟
والسؤال ليس عن سنة واحدة، أو شهر واحد أو أسبوع أو ساعة أو دقيقة، إنما هو عن العمر بكامله، فالعمر الذي يعيشه الإنسان يعيشه كأنه نوم أحلام، ولا ينتبه إلا عندما تأتيه الوفاة، وهو ولم يعبد الله تبارك وتعالى، فيقول: رَبِّ ارْجِعُونِ [المؤمنون:99] فلا رجوع مرة أخرى إلى الدنيا.
فهنا يسأل عن هذا العمر بكامله: كم عبدت الله سبحانه؟ وكم عصيت الله سبحانه؟ وهذا العمر أفنيته في ماذا؟
(وعن علمه ماذا عمل به)، أي: ما هو الذي تعلمته من العلوم النافعة أو العلوم الضارة؟ هل شغلت نفسك بسفاهات وتفاهات الأمور، شغلت نفسك بما ينفعك في الدنيا وفي الآخرة؟
وهل عملت بما علمت؟ أم تركت هذا العلم وراءك؟ وهل تعلمت الكتاب والسنة وأحكام الفقه وعرفت أوامر الله سبحانه؟ وكيف صنعت في هذا الذي تعلمته؟
وتعلمت العلوم الدنيوية النافعة فهل انتفعت بها، ونفعت بها غيرك؟ أم أنك حجرتها على نفسك ولم تنفع بها أحداً من الخلق؟ فكل علم تعلمه الإنسان مسئول عنه يوم القيامة.
والإنسان الذي يتعلم شيئاً تافهاً ليضيع الوقت فيه ويسد به فراغه، حتى يضيع فيه الصلاة، فإنه سيسأل عن هذا الوقت بكماله يوم القيامة؟
وقوله صلى الله عليه وسلم: (وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه)، والمال فيه آلام، فيسأل العبد عن ماله، هل هو من حلال أو من حرام؟ هل أنفقه هل في حل أم في حرمة؟
وقوله صلى الله عليه وسلم: (وعن جسمه فيم أبلاه)، أي: يسأل عن قوته وشبابه وقدرته فيم أبلاهن؟ هل في طاعة الله عز وجل وعبادته في الصلاة والصوم؟ هل أخرج عرقه في طاعة الله سبحانه؟ أم أنه ضيع ذلك في المعاصي، وأتلف بدنه فيما يسمه ويفسده ويتلفه ويهلكه؟
وهذا الحديث رواه الترمذي وفي إسناده ضعف.
ولا شك أن الأرض ستشهد للإنسان أو تشهد عليه يوم القيامة، وقال قال تعالى: فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ [الدخان:29]، فالسماء موضع صعود العمل وموضع هذا العمل فوق الأرض، فالموضع الذي تصلي عليه يعرفك ويشهد لك عند الله سبحانه وتعالى.
قال تعالى: يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا [الزلزلة:4]، أي: تخبر هذه الأرض بما جرى فوقها.
وأَخْبَارَهَا [الزلزلة:4]، مفعول به، فتحدث الأرض عما عمل فوقها من فساد وغيره.
هذا الرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه يقول: (كيف أنعم)، أي: كيف يتنعم بهذه الدنيا ويفرح ويسر فيها؟ وكيف يطيب العيش فوقها وقد اقتربت الساعة؟ قال الله عز وجل: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ [القمر:1]، وقال تعالى: أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ [النحل:1]، وقال تعالى: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ [الأنبياء:1].
فالنبي صلى الله عليه وسلم حينما قرأ سورة هود وأمثالها مما فيه ذكر الآخرة، وذكر سؤال الله له سبحانه، وذكر الأشقياء والسعداء، قال: (شيبتني هود وأخواتها)، أي: يقرأ هذه السور فيشيب من ذكر ما فيها من الوعيد ومن التهديد ومن عذاب يوم القيامة.
يقول هنا: (كيف أنعم وصاحب القرن)، وهو إسرافيل عليه الصلاة والسلام.
(قد أخذ الصور) وهو البوق الذي سينفخ فيه فيموت الخلق، ثم ينفخ فيه مرة أخرى فيحيي الله عز وجل الخلق مرة ثانية.
والمعنى: كيف أنعم وهذا الملك قد أخذ البوق ووضعه على فيه ينظر إلى عرش الرحمن متى يأتيه الأمر فينفخ في الصور؟ فخشي النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون ذلك في حياته عليه الصلاة والسلام.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (واستمع الإذن)، يعني: استمع وأصغى سمعه لإذن الله متى يؤذن له أن ينفخ فينفخ.
فكأن ذلك ثقل على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لهم: (قولوا: حسبنا الله ونعم الوكيل)، فهذا هو الأمر الذي أمرنا الله عز وجل به، وأمر نبيه صلى الله عليه وسلم به، قال: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ [التوبة:129].
فهذه كلمة عظيمة فيها التوكل على الله، وفيها الاكتفاء بالله سبحانه وتعالى، والركون إليه وحده لا شريك له، فهو حسبنا ونعم الوكيل، أي: كافينا الله، من هموم الدنيا والآخرة.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من خاف أدلج، من أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة).
والإنسان المسافر الذي يريد أن يصل إلى محل إقامته في أسرع وقت، فإنه يحتاط لنفسه في السفر فيأخذ حذره، ويجهز المال ساعة السفر، ويسافر في الليل والأرض تطوى للركاب بالليل، فقال لنا هنا: (من خاف أدلج).
والذي يخاف من الأعداء أن يأتوا إليه، فإنه يهرب من المكان الذي هو فيه، والذي يخاف على أمر من الأمور أن يفوته، يسافر إليه بالليل ولا ينتظر طلوع الصباح.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (ومن أدلج بلغ المنزل)، والإنسان الذي يخاف من الأعداء فعليه أن يهرب بالليل، أو إنسان وراءه عمل بالنهار في البلد الفلاني فلا ينتظر ثم يروح إليهم، لكن من الليل يجري ويسرع ليكون عند أول النهار في هذا المكان، فهذا يبلغ المنزل إذا خرج ليلاً.
قال: (من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية ألا إن سلعة الله غالية)، والمعنى: احذر أن تفوتك سلعة الله سبحانه وتعالى.
والسلع التي في السوق بكمية قليلة ونافذة، فإن المشتري بمجرد ما يفتح صاحب السوق يشتريها حتى لا تضيع عليه، فكيف بسلعة الله سبحانه تبارك وتعالى؟!
والجنة السلعة العظيمة التي ليست هي قليلة، ولكن الذي ينالها هم القليلون، فمن كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون يدخلون في النار، وواحد هو الذي ينال هذه السلعة فيدخل الجنة.
فكأن المعنى هنا: من خاف أسرع في طاعة الله عز وجل ولم يسوف في طاعة الله وعبادته، فلا يقول: بكرة سأصلي، وسألتزم بصلاة الجماعة، وسنعمل بسنة النبي صلى الله عليه وسلم.
ولكن فليعجل وليسرع إلى ذلك فلا يدري هل الغد سيأتي عليه أم لا؟ فلعله يموت قبله، أو تأتي عليه مشاغل الدنيا.
والإنسان قد يكون فارغاً ويقول: أريد أن أتعلم وأن أطيع ربنا ويريد، ويريد، وبعد ذلك يسوف ليومه الثاني، وبعد ذلك ينشغل بأمر الدنيا من الزوجة والعيال فيعمل بالصبح وبالليل ولا يفعل شيئاً من ذلك.
لكن الإنسان الذي يخاف أن تضيع منه الجنة، يخاف أن تضيع منه فرصته في العمر، والفرصة الوحيدة هو العمر، فهو مرة واحدة يعيشه الإنسان وبعد ذلك إما جنة وإما نار.
فلذلك هذا العمر سلعة غالية غير قابل للتسويف وللتحويل وللانتظار للغد، فانتهز اليوم قبل الغد فلعل الغد لا يأتيك.
يحشر الناس يوم القيامة على هيئتهم وخلقتهم أي: على نفس الخلقة كما ولدتهم أماتهم، عراة ليس على أجسامهم شيء، غرلاً غير مختونين.
والرجال والنساء يختلط بعضهم ببعض، فلا يشتهي الرجال والنساء، ولا النساء الرجال، فالكل في فزع وفي خوف، وكل واحد يقول: نفسي نفسي، قال صلى الله عليه وسلم: (يا عائشة! الأمر أهم من أن ينظر بعضهم إلى بعض).
والخوف الذي يدفع الإنسان للعمل ويمنعه من المعاصي، هذا خوف نافع للإنسان.
أما خوف الرعب كمن يخاف من الموت ولم يستعد له، فهذا ليس خوفاً من الله، فالخوف المطلوب منه شرعاً: هو الخوف الذي يدفع الخائف لأن يعمل لما بعد الموت، فيلقى الله سبحانه وتعالى وقد عمل عملاً صالحاً.
فالخائف من المعاصي يبتعد عن المعاصي والخائف من أن يُحرم من دخول الجنة، يعمل لهذه الجنة فيصلي ويصوم ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويأتي بما أمر الله عز وجل أن يأتي به.
والخوف إذا زاد عن حده ففيه خطر على الإنسان، والكثير من الناس المغلفين والحمقى يائسون من رحمة الله تعالى ومن دخول الجنة، ولا ييئس من روح الله إلا القوم الكافرون الخاسرون.
ولذلك فالمؤمن عندما يذكر الناس الخوف يذكرهم بالرجاء، من أجل أن يجمع الإنسان بين الخوف والرجاء، فيغلب الخوف على الرجاء في الدنيا، فإذا كان عند الموت يغلب جانب الرجاء وينتظر رحمة رب العالمين سبحانه وتعالى.
والرجاء جاء في القرآن في آيات كثيرة، ففي قول الله سبحانه: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر:53].
المؤمن لا يخاف من الذنوب فإن باب التوبة مفتوح ولا أحد يمنعه من التوبة، والخائف من العذاب يتوب إلى الله، وربنا عظيم كريم رحيم سبحانه، فمن تاب إلى الله تاب الله عز وجل عليه، بشرط أن تكون التوبة توبة صادقة.
وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا [الزمر:53] فالله يغفر الذنوب لمن تاب حتى الشرك يغفره الله عز وجل إذا تاب العبد منه، أما الذي لا يتوب من الشرك فهذا لا يغفر، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ [النساء:48].
فالله لا يغفر أن يشرك به ما لم يتب العبد من هذا الشيء، فإذا تاب من الكفر أو الشرك أو الردة، ورجع إلى الإسلام فالله كريم وعفو غفور وحليم سبحانه.
وقال سبحانه وتعالى: وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ [سبأ:17]. فلا يجزى يوم القيامة إلا من كفر بالله سبحانه، وجحد نعم الله سبحانه، ولم يشكر ربه الذي أنعم عليه، وقال تعالى: إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى [طه:48].
فالذي يستحق العذاب، من كذب وتولى عن ربه سبحانه وتعالى.
فالمؤمن عندما تثقل عليه الذنوب يتذكر العذاب، ويصبر على طاعة الله سبحانه ويرجو رحمة الله، فالله يقبل توبة العبد إذا تاب إليه.
الرسول صلى الله عليه وسلم أمرنا بالمعروف فنأمر كما أمر، ونأتمر بهذا المعروف الذي أمرنا به، ونهانا عن المنكر فننتهي عنه كما نهى.
أحل لنا الطيبات فلا نذهب إلى الخبائث، فإنها محرمة علينا، ولا يحل لمسلم أن يأتي خبيثة من الخبائث لا في طعام ولا في شراب ولا في أفعال.
فباب التوبة مفتوح للمؤمن بقيد وشرط وهو العمل، وربنا أمر بالعمل ونهى عن القنوط من رحمة الله.
وفي هذا الحديث فضل الله عز وجل وسعة رحمته.
وقوله: أشهد أن لا إله إلا الله، أي: أشهد من المشاهدة، كأني أرى ذلك، وأستيقن بقلبي أنه إله واحد لا شريك له، وأعبد هذا الإله الواحد سبحانه.
وهنا فرق بين من يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، ولا يعلم معناها، وبين من يقولها ويعلم معناها.
وهذه الكلمة لها مقتضيات، وهي مفتاح الجنة، فمن قال لا إله إلا الله دخل الجنة، إذا أتى بحقها، وعلم أنه لا إله إلا الله.
قال سبحانه وتعالى: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ [محمد:19].
فقوله تعالى: فَاعْلَمْ [محمد:19]، يعني: استقين بذلك في قلبك، واليقين يتبعه العمل، وليس ممكناً أن الإنسان مستيقن أن الله هو المعبود وبعد ذلك يعبد غير الله، فاليقين يدفع العبد بأن يعبد الله كل العبادات التي شرعها سبحانه وتعالى.
ومن شروط لا إله إلا اله: العلم واليقين، والقبول للشرع، فالله رضي لك الإسلام ديناً فترضى بهذا الدين الذي أمرك بأن تقول هذه الكلمة.
والانقياد لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم فيما أمر الله عز وجل به، وفيما أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم.
والصدق، والإخلاص، والمحبة، والولاء والبراء، فيتولى أهلها ويبرأ ممن خالفها.
وإذا جاء غيره بشرع كأن يزعم أنه رسول مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو أن من حقه أن يشرع فيدعي أنه إله مع الله سبحانه وتعالى أو رب معه سبحانه، فالمؤمن لا يقبل إلا الشريعة من رب العالمين عن طريق الرسول صلوات الله وسلامه عليه.
فمعنى أشهد أن محمداً رسول الله: أنه وحده الذي جاء بالرسالة من عند رب العالمين سبحانه.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (وأن عيسى عبد الله ورسوله) أي: عيسى بشر من البشر صلى الله عليه وسلم، وأنه عبد خلق من تراب كما خلق آدم من تراب عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فهو عبد ورسول، قال تعالى: قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ [الكهف:110].
فالمؤمن وكذلك من يدخل في هذا الدين من أهل الكتاب لا بد أن يقول: عيسى عبد الله ورسوله ولا يكتفي بأن يقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فلا بد وأن يعترف ويقر بأن المسيح عبد الله ورسوله؛ لأنه كان قبل ذلك على عقيدة أن الله هو المسيح، أو أن المسيح ابن الله، أو المسيح ثالث ثلاثة، فالمسيح عبد لله وليس ثالث ثلاثة وليس ابناً لله سبحانه تبارك وتعالى، وليس هو الله.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (وكلمته ألقاها إلى مريم)، والكلمة من عند الله أمر من الله عز وجل، وهي كن فكان، وهنا تشريف له عليه الصلاة والسلام، وكل مخلوقٍ مخلوق بهذه الكلمة، قال تعالى: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82].
فأمر الله عز وجل للشيء على النحو الذي يريده، وعيسى اختصه الله بأنه كلمته وروح منه، وجبريل روح القدس، فجبريل روح من عند الله سبحانه تبارك وتعالى، كما أن المسيح روح من عند الله، وكما أن الله نفخ في آدم قال تعالى: وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي [الحجر:29] يعني: من روح خلقها الله سبحانه، فأضافها إليه إضافة تشريف وتكريم كما تقول: بيت الله، أرض الله، سماء الله، فهذه مخلوقات خلقها الله فأضافها إلى نفسه إضافة تشريف وتكريم، فكذلك أضاف عيسى إلى نفسه إضافة تشريف وتكريم فهو روح الله عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (والجنة حق والنار حق) يعني: الذي يؤمن بأن الجنة حق فيعمل لها، وأن النار حق فيهرب منها، (أدخله الجنة على ما كان من العمل)، وجاء في حديث آخر: (من قال لا إله إلا الله دخل الجنة أصابه قبل ذلك ما أصابه).
والمعنى: أنه إذا عمل الموبقات ووقع في الفواحش والذنوب إلا الشرك بالله سبحانه وتعالى، يرجى أن تشمله رحمة رب العالمين، ولم يصبه إلا ما يصيب عصاة الموحدين من نار جهنم، كقاتل النفس المؤمنة بغير حق فهو في نار جهنم خالداً فيها، وغضب الله عليه ولعنه، وأعد له عذاباً عظيماً، فيعذب إلى ما يشاء الله سبحانه تبارك وتعالى.
فخلود في جهنم دون خلود الكفار، فالكفار لا يخرجون من النار أبداً، لكن هذا العاصي من الموحدين وإن مكث فيها آلاف بل ملايين السنين فيرجى له يوماً من الدهر أن يخرجه الله عز وجل من النار.
والمؤمن وإن قال: لا إله إلا الله، فليس معنى ذلك أنه لن يدخل النار، قال تعالى: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا [مريم:71].
والمؤمن يرجو ولا ييأس من رحمة الله، فإذا وقع في المعاصي فعليه أن يتوب إلى الله والله كريم يغفر ويرحم سبحانه تبارك وتعالى.
ومن رجحت سيئاته على حسناته دخل النار فعذب فيها، ثم بعد ذلك يدخله الله عز وجل الجنة.
وفي رواية: (من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم حرم الله عليه النار) أي: إذا أتى بهذه الكلمة بشروطها وهي: العلم، اليقين، القبول، الانقياد، الصدق، الإخلاص، المحبة، الولاء والبراء، فالله عز وجل يحرم عليه النار؛ لأنه أتى بحقها، ولكن إذا قصر في الحقوق فقد استوجب العذاب إلى ما يشاء الله عز وجل له، ثم يدخله الجنة.
فالحسنة تتضاعف إلى سبعمائة ضعف، وإلى أضعاف كثيرة، أما السيئة فلا تضاعف وإنما هي سيئة واحدة.
والإنسان الذي يعمل الحسنات فإنها مضاعفة، والذي يعمل السيئات فلا تضاعف، فإذا جاء يوم القيامة ووزنت الحسنات والسيئات فغلبت سيئاته حسناته فمثل هذا لا يستحق رحمة رب العالمين إنما يستحق النار جزاءً بما صنع.
فالإنسان إذا عرف أن الحسنة بعشر أمثالها أسرع إلى أن يعمل حسنات كثيرة في اليوم، ويدفع السيئة بالحسنة، قال صلى الله عليه وسلم: (إذا عملت سيئة فاعمل بجانبها الحسنة تمحها)، فالذي يتناسى ويتغافل عن الحسنات ولا يعمل إلا السيئات فإنه يستحق ما يصير إليه.
يقول الله عز وجل بكرمه ورحمته سبحانه: (ومن تقرب مني شبراً تقربت منه ذراعاً، ومن تقرب مني ذراعاً تقربت منه باعاً، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة، ومن لقيني بقراب الأرض خطيئة لا يشرك بي شيئاً لقيته بمثلها مغفرة)، فرحمة الله عظيمة واسعة سبحانه وتعالى، فمن تقرب إلى الله بعمل قليل، فالله عز وجل يعطيه ثواباً كثيراً، فإن هذا قرب من الله فقرب الله عز وجل منه.
وكلما تقرب المؤمن إلى الله تعالى بالعمل الصالح، فالله عز وجل يتقرب منه أكثر من ذلك.
ومن أتى إلى الله تعالى طائعاً وهو بطيء في الطاعة أتاه ثواب الله سريعاً، فكيف يأتي سريعاً لطاعة رب العالمين سبحانه، وكيف يأتيه الثواب من ربنا سبحانه؟
قال: (ومن لقيني بقراب الأرض خطيئة لا يشرك بي شيئاً لقيته بمثلها مغفرة)، فالإنسان الذي يأتي بقراب الأرض معاصي ثم أدركته رحمة رب العالمين فتاب إلى الله عز وجل، وعلم أنه وحده الذي يغفر الذنوب فقال: لا إله إلا الله مخلصاً لرب العالمين سبحانه تائباً من هذه الذنوب، فالله يغفر له ويتكرم ويبدل له هذه السيئات بحسنات من فضله ومن كرمه.
فغفران الله عز وجل لعبيده عظيم كثير ولكن العبد يبدأ فيتوب إلى الله رب العالمين، ويخاف من بطش رب العالمين، ولا يغتر بعمله ولا يدفعه الرجاء والأمل لترك العمل وإلا فيستحق العقوبة، نسأل الله عز وجل أن يعيننا على شكره وذكره وحسن عبادته.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر