اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الإمام النووي رحمه الله: [ باب الخوف:
قال الله تعالى: وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ [البقرة:40].
وقال تعالى: إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ [البروج:12].
وقال تعالى: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ * وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ * يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ * فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ [هود:102-106].
وقال تعالى: وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ [آل عمران:28].
وقال تعالى: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عبس:34-37].
هذا باب من كتاب رياض الصالحين للإمام النووي رحمة الله عليه، يذكر فيه الخوف من الله سبحانه وتعالى.
والإنسان يعيش في هذه الدنيا ويعلم أنه ميت، والمؤمن مستيقن بأمر الموت وأمر الرجوع إلى الله سبحانه، وأمر الحساب، والكفار يقولون: مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ [الجاثية:24]، يتخرصون ويكذبون، فعندهم ظنون وأوهام يظنونها حقائق، فإذا جاء الموت تبين لهؤلاء صدق ما قاله النبي صلوات الله وسلامه عليه، وانزاحت عنهم الأحلام، ورأوا أمامهم هذا العذاب الذي ذكر الله سبحانه، نسأل الله عز وجل العفو والعافية.
المؤمن يعيش في الدنيا بين الخوف والرجاء، يخاف من الله سبحانه وتعالى خوفاً يدفعه إلى العمل لا يدفعه إلى اليأس، ولكن يدفع إلى العمل فيمنعه من الوقوع في الحرام، ويمنعه من مجاوزة حده، ويمنعه من أن يظلم نفسه أو يظلم غيره، يمنع الإنسان من الوقوع فيما حرم الله عز وجل من الخطايا.. من الشهوات.. من الشبهات والشكوك وغير ذلك.
فهذا خوف يجعل الإنسان يستقيم على الصراط المستقيم، والرجاء يجعل العبد يطمع في رحمة رب العالمين، يرجو ربه فلا ييئس من رحمته، فالخوف والرجاء يسير المؤمن بينهما، فيخاف خوفاً لا يدفع إلى اليأس ولكن يمنع من الخطايا ومن الذنوب، ويرجو رجاء لا يدفع إلى أن يعمل المعاصي ويقول: ربنا سيغفر لي، ولكنه يرجو رحمة ربه مع خوفه من الله سبحانه وتعالى.
فكم من إنسان يعيش على طمع الرجاء والأمل في ذلك فإذا به يترك العمل بالكلية، ويقع في كبائر الذنوب، وقد يموت على الكفر والعياذ بالله، فالمؤمن لا يظل في الرجاء ويقع في المعاصي دائماً ويقول: أنا أرجو، ولا يكون في الخوف الذي ييئسه من رحمة رب العالمين، ولكن يكون بين الاثنين.
والمؤمنون وصفهم الله بقوله: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال:2]، هؤلاء المؤمنون إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وتقشعر جلودهم وتلين قلوبهم لذكر الله سبحانه.
فيخاف المؤمن من الله عز وجل، والعبد عبد للملك سبحانه فلا ينبغي للعبد أن يأمن بطش الله ولا يأمن مكر الله سبحانه، وربنا لم يؤمنك، فقد قال في القرآن: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا [مريم:71]، فلذلك المؤمن يخاف ويرجو رحمة الله تبارك وتعالى، قال الله عز وجل: وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ [البقرة:40].
وقال: إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ [البروج:12]، البطش: الإمساك والمعاقبة لهذا الإنسان، فإذا أمسك الله عز وجل بهذا العبد وعجز عن الحركة وأدخله نار جهنم وحبسه فيها، فقد بطش به ربنا سبحانه وانتقم منه، فهل يملك لنفسه شيئاً؟ هل يقدر أن يفر من الله سبحانه ومن عقوبته سبحانه وعذابه؟
قال: إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ * إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ * وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ [البروج:12-14]، لم ييئسه من مغفرته ومن رحمته سبحانه وتعالى، فهو الغفور الودود، بطشه شديد وهو الغفور الودود سبحانه.
ودعاهم نبيهم نوح إلى ربه عليه الصلاة والسلام، وليس هيناً على ربه، وليس مبعوثاً للناس استقلالاً بأمره، ولكن الله عز وجل كرمه وشرفه وفضله وجعله يصبر على هؤلاء حتى يئس من إيمانهم قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا [نوح:5-7].
فشهد عليهم نبيهم صلوات الله وسلامه عليه أنهم لا إيمان في قلوبهم ولم تنفع معهم هذه الدعوة إلى الله، وهي ألف سنة إلا خمسين عاماً، فكانوا يصرون على الكفر وعلى التكذيب وعلى البعد عن رب العالمين سبحانه، قال الله عز وجل: وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [الأعراف:183].
دعاهم نوح وهم لا يستجيبون، وتركهم الله هذه المدة الطويلة حتى أخذهم الله عز وجل أخذ عزيز مقتدر، فأملى لهم وتركهم حتى مات الأجداد والآباء والأحفاد، وكل يوصي من بعده بالبعد عن نوح على نبينا وعليه الصلاة والسلام؛ فلذلك لما جاء العذاب من عند رب العالمين كان عذاباً شديداً، فأغرق هؤلاء جميعاً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ [هود:40]، ونجا نوح والمؤمنون معه ثم انتهى أمر إهلاك هؤلاء الظالمين.
وقد قال نوح عليه الصلاة والسلام لابنه: يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ * قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ [هود:42-43]، وكان لا يوجد وقت للمناقشة، فجاء عذاب رب العالمين وحال بينهما الموج فكان من المغرقين، جاءت الموجة فرمته بعيداً عن أبيه من أجل ألا يترحم عليه ولا يصعب عليه أن يرى ابنه بعيداً قد أهلكه الله سبحانه وتعالى: وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ [هود:43].
لما تذكر نوح ابنه سأل ربه وقال: إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ [هود:45]، أنت وعدتني أن تنجيني وأهلي، قال: إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح، احذر -يا نوح- فلا تسألني ما ليس لك به علم، ويرجع نوح عما قال: قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ [هود:47]، ونجا نوح وحاق العذاب بالقوم الكافرين.
قال: أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ [الشعراء:128]، أي: تجعلون في كل أرض وفي كل بلد علامة من العلامات وبناء عالياً لا تحتاجون إليه، بل للعبث واللهو والتفاخر فيما بينكم!
وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ [الشعراء:129]، أي: تتخذون قصوراً أو مشارب للماء تتوهمون أنكم تخلدون في هذه الأشياء.
وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ [الشعراء:130-131]، فأبوا وقالوا لهذا النبي الكريم قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ * إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الأَوَّلِينَ [الشعراء:136-137]، وجاء عذاب الله عز وجل بهؤلاء فأهلكهم سبحانه تبارك وتعالى فجعلهم كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ [القمر:20].
إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ [البروج:12]، هذا بطش الله سبحانه تبارك وتعالى، استهواهم الشيطان فجعلهم عباداً له من دون الله سبحانه، فجاءهم من عند ربهم العذاب والإهلاك، كان الواحد منهم تأتي الريح فتقلعه من الأرض وترفعه إلى السماء ثم تسقطه على رأسه فيقع وينشدخ رأسه ويبين من جسده فصاروا كأعجاز النخل الخاوية، فكيف كان عذاب الله ونذر الله سبحانه وتعالى؟ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ [القمر:16].
هذا انتقام رب العالمين سبحانه أرانا ذلك، وفي آخر الآيات قال سبحانه وتعالى: وَكَذَلِكَ [هود:102]، كهذا الأخذ العظيم الذي رأيتم نأخذ كل من طغى وبغى، وكل من استكبر عن عبادة الله سبحانه وتعالى وعصى ربه.
أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ [هود:102]، أي: في حال ظلمها إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود:102]، أخذ مؤلم موجع شديد الألم.
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ [هود:103]، إذا رأيتم هذا العذاب في الدنيا فكيف يكون عذاب الآخرة؟ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ [هود:103]، ولماذا يؤخره ربنا سبحانه تبارك وتعالى؟ قال: وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ [هود:104]، فلا تستعجلوا، فيوم يأتي هذا الأجل لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ [هود:105].
لا ينطق إنسان إلا بإذن رب العالمين سبحانه، فمن الناس شقي وسعيد، فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ [هود:106-107].
وأما أهل السعادة ففي جنة الله عز وجل، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أهل السعادة، فذكر الله الأشقياء وذكر السعداء، والغرض بيان كيف أخذ الله سبحانه وتعالى المجرمين حين أخذهم، وكيف يحشرون ويكون أمرهم يوم القيامة.
قال سبحانه: وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ [آل عمران:28].
احذروا من غضب الله سبحانه، فإن الله يحذركم، وقد أعذر من أنذر، قد أنذر الله عز وجل وخوف من عذابه وعقوبته، فالإنسان الذي يجرم في الدنيا فيوم القيامة لا يلوم إلا نفسه.
وقال سبحانه عن يوم القيامة: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عبس:34-37]، والآيات كثيرة في هذا الوعد.
أي: الصادق الذي لا يكذب، والمصدوق الذي يصدقه ربه سبحانه وتعالى، ويصدقه سبحانه فيما ينزل عليه من آيات ومن وحي لسنته صلوات الله وسلامه عليه، فهو مصدوق من ربه سبحانه وتعالى لا يكذبه، ولا يخلف وعداً قاله للنبي صلى الله عليه وسلم، وهو صادق فيما يقول صلوات الله وسلامه عليه.
إذاً هو صادق في نفسه صلى الله عليه وسلم لا يكذب، مصدوق من الله سبحانه وتعالى، ومصدق من المؤمنين الذين يصدقون النبي صلوات الله وسلامه عليه.
ذكر هنا مراحل تكوين الجنين في بطن الأم حتى تنفخ فيه الروح، قال صلى الله عليه وسلم: (يرسل الله الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات)، وهو في بطن أمه يؤمر الملك بكتابة أربعة أشياء، قال: (بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد) يعني: هل هو شقي أو سعيد؟
فيكتب الرزق، ويكتب الأجل، ويكتب العمل، ويكتب هل هو شقي أو سعيد، فقد قضى وعلم الله سبحانه تبارك وتعالى بذلك.
قال صلى الله عليه وسلم: (فوالذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها)، المعنى: لا تغتروا.
(إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة)، فلا يغتر الإنسان بنفسه، ويجد نفسه أفضل من الناس، ويحتقر غيره، وينظر لغيره بعين التعالي، فأنت لا تعرف بم يختم لك؟ فقد يعمل فيما يبدو للناس بعمل أهل الجنة، ولكن الله يعلم أن هذا لا يستحق إلا النار، قال صلى الله عليه وسلم: (حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها)، الأمر أمر القضاء والقدر الذي أمرنا الله أن نؤمن به ولا نتفكر في أمره، ولا نسأل لماذا هذا في الجنة وهذا في النار؟
الله عز وجل له الحكمة وله الحجة البالغة، ولم يطلعنا على ذلك، إلا أنه أخبر أن منهم شقياً ومنهم سعيداً، لحكمة يعلمها الله سبحانه وتعالى، فخلق الله العبد من ساعة ما خلقه وهو مكتوب عند الله ومعلوم عنده أنه من أهل الجنة، والآخر مكتوب ومعلوم عند الله أنه من أهل النار.
إذاً الإنسان يمشي في الدنيا، ولا يضيع الوقت في التفكير هل أنا من أهل الجنة أو من أهل النار؟ ليس مطلوباً منك التفكر في هذا الشيء، المطلوب منك العمل.
ولذلك الصحابة لما سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك قال: (اعملوا فكل ميسر لما خلق له) يعني: لا تضيعوا الوقت في الكلام، والتفكير في ذلك، فليس مطلوباً منك أن تعرف الغيب أو تطلع على أنك في الجنة أو في النار، ولكن مطلوب منك العمل، اعمل فهل هناك أحد منعك من العمل؟!
عندما تحب أن تقوم بعمل فيه خير لا أحد يمنعك منه، فاعمل الخير، وعندما تعمل الشر لا أحد يمنعك منه، وكسبك أنت مسئول عنه يوم القيامة، فأنت تكسب باختيارك وبإرادتك، وإن كنت لن تخرج عن قضاء الله سبحانه، ويوم القيامة سيقول الله سبحانه وتعالى: ادخلوا النار جزاء بما كنتم تعملون، ولا يقول: ادخلوا النار بقضائي وقدري، فلابد من الحساب، أنت عملت كذا يوم كذا، وتحاسب عليه بكذا، وعملت كذا يوم كذا وتحاسب عليه بكذا.
إذاً: الإنسان سيحاسب على عمله يوم القيامة، والمطلوب من العبد أن يؤمن بالقدر، وألا يدخل بعقله في أمور الغيب، ففي الحديث: (اعملوا فكل ميسر لما خلق له).
قال صلى الله عليه وسلم: (وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها):
يعلمنا ذلك النبي صلى الله عليه وسلم حتى لا نحتقر أحداً من خلق الله عز وجل، فادع صاحب المعصية فلعله يكون من أهل السعادة، فيكون لك الفضل أن دعوته، فيكون ذلك يوم القيامة خيراً لك من حمر النعم، وخيراً لك مما طلعت عليه الشمس؛ أن هداه على يديك وليس على يد غيرك.
فالمؤمن إذا نظر بهذه النظرة الواسعة إلى هذا الإنسان المؤمن أحبه؛ لأنه صالح، وهذا الإنسان العاصي دعاه لعله يكون من السعداء، ولعله ينجو يوم القيامة ويكون هو السبب في ذلك، ولأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك مما طلعت عليه الشمس.
والمؤمن إذا هدى الله عز وجل على يده إنساناً يكون له أجر عمل هذا الإنسان من غير أن ينقص من عمله شيء، فعلى المؤمن أن يكون ذكياً كيساً فطناً، فعندما يجد إنساناً عاصياً يدعوه إلى الله بالحكمة، ولا ينفره فيجعله يزداد عتواً وعناداً، فندعوه لعل الله يتوب عليه.
وكم من إنسان هداه الله عز وجل على يد إنسان بكلمة طيبة، فإذا بهذا الذي هداه الله على يديه عمله قليل، وهذا الذي هدي عمله كثير، يحفظ القرآن ويتعلم السنة ويصير عالماً من العلماء، ويكون الفضل للإنسان الذي دعاه إلى ربه سبحانه بكلمة أو بموعظة حسنة، ففي الحديث: (من سن في الإسلام سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة من غير أن ينقص من أجورهم شيء).
عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يؤتى بجهنم يوم القيامة لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها):
فالملائكة كثيرون جداً، سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك، وملائكة رب العالمين قوتهم عظيمة، قال الله سبحانه وتعالى: وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى [النجم:53].
وقد علمنا أن ملكاً من ملائكة الله عز وجل أخذ قرى قوم لوط ورفعها إلى السماء وقلبها وأتبعهم بحجارة من نار جهنم، فهذا ملك واحد يفعل ذلك، فهؤلاء سبعون ألف ملك على كل زمام، وفيها سبعون ألف زمام، فيكون عدد الملائكة الذين يجرون جهنم أربعة مليون وتسعمائة ألف، فهم ملايين من ملائكة الله عز وجل يجرون نار جهنم فقط، وداخلها ملائكة وكلوا بأهل النار، فكم عدد أهل النار ولا حول ولا قوة إلا بالله؟!
فالله ربنا يخوفنا بذلك، وهذا الخوف يدفع الإنسان لطلب رحمة رب العالمين، ويطلب من الله ألا يجعله مع أهل النار.
في الصحيحين من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن أهون أهل النار عذاباً يوم القيامة لرجل يوضع في أخمص قدميه جمرتان يغلي منهما دماغه، ما يرى أن أحداً أشد منه عذاباً، وإنه لأهونهم عذاباً).
هذا عذاب أهون أهل النار، فيا ترى هل في الدنيا أحد يقدر أن يأتي بجمرة يضعها تحت رجله ويدوس عليها بأخمص القدم؟ والأخمص هو وسط القدم، فالعقب آخر القدم، وأطراف الأصابع في البداية، وبين الاثنين البقعة المجوفة المقعرة تسمى أخمص القدم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر