وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: (أقبل رجلٌ إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أبايعك على الهجرة والجهاد أبتغي الأجر من الله تعالى. فقال صلى الله عليه وسلم: فهل من والديك أحد حي؟ قال: نعم، بل كلاهما. قال: فتبتغي الأجر من الله تعالى؟ قال: نعم. قال: فارجع إلى والديك فأحسن صحبتهما).
وفي رواية: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أحيٌّ والداك؟ قال: نعم. قال: ففيهما فجاهد) .
وعنه - أيضاً - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها) رواه البخاري .
وقطعت بفتح القاف والطاء، ورحم مرفوع ].
المسلم مأمور بأن يبر والديه، قال الله عز وجل: وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [البقرة:83]، وكذلك ذوي القربى.
ومن الأحاديث الواردة في بر الوالدين حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: أقبل رجلَّ إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليبايع على الهجرة والجهاد يبتغي الأجر من الله سبحانه تبارك وتعالى، فسأله النبي صلى الله عليه وسلم: (أحي والداك فقال: نعم. وفي حديث آخر أن الرجل قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ولقد تركتهما يبكيان). يعني أنه أتى ليجاهد في سبيل الله عز وجل وترك أباه وأمه يبكيان بسبب خروجه خائفين عليه من أن يقتل، وكأنَّه أتى يسأل وكان الجهاد غير متعين، أما إذا تعين الجهاد فإن إذن الوالدين مستحب فقط، ولو رفضا لا ينتظر إذنهما، بل يخرج ليجاهد في سبيل الله عز وجل.
والذي وقع هنا أن الجهاد كان فرضاً كفائياً، وكان صلى الله عليه وسلم يبعث البعوث، فهذا أحب يشترك في بعث ولم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم، فلذلك سأله: أحيٌّ والداك؟ فقال: نعم. وأخبر أنه تركهما يبكيان، فقال: ارجع إليهما ففيهما فجاهد.
وفي الحديث الآخر قال صلى الله عليه وسلم: (ارجع إليهما فأضحكهما كما أبكيتهما) أي: إن أبكيتهما بالخروج فأرجع فاضحك والديك كما أبكيتهما.
وفيه أنه ينبغي للإنسان أن لا يؤذي والديه فيستأذنهما فيما كان مستحباً، كأن يخرج لجهاد تطوع، أو لحجة تطوع أو لعمرة تطوع، والأب والأم يحتاجان إلى بقائه، وفي هذا الحديث قال له: (فتبتغي الأجر من الله تعالى؟ قال: نعم. قال: فارجع إلى والديك فأحسن صحبتهما) .
فليس المقصود الرجوع ليقعد معهما، بل المقصود حسن صحبتهما، بحيث يبقى المسلم مع أبيه ومع أمه يحسن الصحبة بالمعروف، ولو كان الوالدان كافرين فإن ربنا تعالى يقول: وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا [لقمان:15].
فلو جاهداك وأمراك بالكفر بالله عز وجل والشرك بالله فلا تطعهما في ذلك، ولكن مع ذلك أحسن إليهما وصاحبهما بالمعروف.
الواصل هو الذي يصل الرحم، يقال: فلان يصل الرحم.
وقد أمرنا ربنا بصلة الأرحام، وأخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن الواصل ليس هو المكافئ الذي إن زار مرة انتظر أن يزار، بل الواصل الرحم هو الذي لا ينتظر أن تزوره أصلاً، فهو يصلك إن كنت مقبلاً عليه أو معرضاً عنه؛ لأنه يبتغي الأجر من الله.
والمعاملة مع الله عز وجل تريح قلب الإنسان، فنحن حينما نصل الأرحام يكفينا رضا ربنا، ويقول المرء منا: لا يهمني أن هذا القريب أقبل علي أو أعرض عني، فلو ذهبت إليه فقال: أنا مشغول، أو ذهبت واستقبلني عنده، وكذلك إذا زارني أو لم يزرني، كل ذلك لا يهمني طالما أن الأمر ابتغاء وجه الله تبارك وتعالى.
فهنا النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ليس الواصل بالمكافئ) فلكي تبقى واصلاً فاعلم أن الواصل ليس الذي يقابل زيارة بزيارة، بل إذا قطعت رحمه وصلها.
هذه هي الرحم، وهذا وعد من الله عز وجل للرحم، فلما خلق الله عز وجل الخلق، وخلق الرحم، قامت وتعلقت بعرش الرحمن تبارك وتعالى، وسألت ربها سبحانه وتعالى فقال: أما ترضين أن أصل من وصلك، وأن أقطع من قطعك؟
فالذي يصل الرحم يصله الله عز وجل، وصلة الله للعبد عطاء من الله، ورحمة من الله، وتفضيل وتكريم من الله تبارك وتعالى.
وانظر إلى حال الإنسان في الدنيا، فإذا قيل: إن الملك الفلاني يصل فلاناً، فإن صلة الملك جائزة الملك، فكيف بملك الملوك؟
فالله سبحانه وتعالى إذا وعد بأن يصل عبده، فإنه يجعل عبده متعلقاً به سبحانه وتعالى، فيعطي عبده ما سأله، ويكون مع عبده، فينصره ويؤيده ويرحمه، ويكون معه في الدار الآخرة فيرحمه سبحانه ويدخله جنته، وهذا جزاء من يصل رحمه.
فهنا أم المؤمنين السيدة ميمونة بنت الحارث رضي الله عنها كان عندها أمة فأحبت أن تبادر وتعتقها لتنال الأجر العظيم، فلما كان يومها الذي يدور فيه عليها النبي صلى الله عليه وسلم قالت: (أشعرت - يا رسول الله - أني أعتقت وليدتي؟ - أي: أعرفت ذلك؟ - فقال: أوفعلت؟ قالت: نعم).
وعتق الرقبة فيه فضل عظيم جداً، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم يدلها على ما هو أفضل من ذلك، فالسيدة ميمونة كان لها أخوال، وكانوا محتاجين لهذه الوليدة، فقال صلى الله عليه وسلم: (أما إنك لو أعطيتها أخوالك كان أعظم لأجرك) .
فالإنسان أحياناً ينسى أقاربه فيقول: هذه الصدقة لله عز وجل سأعطيها لفلان. فيعطيها لإنسان غريب عنه، ويمكن أن يكون قريبه فقيراً بجواره، لكن لم يخطر على باله أن يعطيه، وقد يخطر على باله لكنه يقول: سأعطيها للثاني.
فالسيدة ميمونة رضي الله عنها نسيت أقاربها وأعتقت الوليدة وظنت أن هذا أفضل، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: (لو أعطيتها أخوالك كان أعظم لأجرك) فهم محتاجون إليها، وسيكون ذلك صدقة منك عليهم، ثم إنك لو فعلت ذلك كنت قد وصلت رحمك، فكان لك في ذلك الأجر.
ولذلك إذا أردت أن تتصدق بصدقة أو تخرج زكاة المال، فانظر إلى الأقرب من الأقارب فأعطهم بدل أن تتركهم للجيران أو للغرباء ليعطوهم فيكون لهم منة عليهم، فلماذا لا تكون أنت الذي تعطي أقاربك، فتصل الرحم بذلك، وتعطي زكاة مالك لأخيك الفقير المحتاج، أو لعمك الفقير المحتاج، أو لأختك الفقيرة المحتاجة، أو لأبناء أختك وأبناء أعمامك وأبناء إخوانك وأبناء أخواتك وأخوالك ونحو هؤلاء، إلا الأصول والفروع، فزكاة المال لا تعطى لأصل ولا لفرع، والأصول هم الأب والأم والجد والجدة، والفروع الأولاد والأحفاد، فلا يجوز لك أن تعطي زكاة المال لهؤلاء، ولكن يجوز لك أن تعطي لهؤلاء جميعهم من الصدقة.
وبعض الناس يسأل: هل يمكن أن أعطي الصدقة لأمي لتحج بها؟
والجواب: إذا كانت أمه لم تحج فهذه صدقة عظيمة، فلك أن تعطيها من الصدقة، أما الفريضة فلا، فزكاة المال لا تعطى للأم ولا للأب ولا للأولاد، أما الصدقة المطلقة فيجوز أن تعطى لهؤلاء إن كانوا محتاجين إليها.
وحين نقول: الزكاة لا تعطى للأصول ولا للفروع فليس معنى ذلك أن تتركهم وهم لا يجدون ما يأكلون، بل إذا كنت قد وجبت عليك الزكاة فمعنى ذلك أنك غني، وحينئذ تجب عليك النفقة لهؤلاء، فقد شرفهم الله عز وجل بأن تنفق عليهم، لا أن تعطيهم أوساخ مالك، فقد سمى النبي صلى الله عليه وسلم الزكاة أوساخ الناس، ولذا لا تعطى لآل بيت النبي صلى الله عليه وسلم ولا للأب ولا للأم ولا للأولاد، بل تعطى لغيرهم.
فأم أسماء كانت مشركة، أما أم السيدة عائشة التي هي أم رومان فقد كانت مؤمنة، فأم أسماء غير أم عائشة رضي الله تبارك وتعالى عنهما، والأب واحد هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه.
تقول أسماء رضي الله عنها: قدمت علي أمي وهي مشركة، وفي رواية قالت: قدمت علي أمي وهي راغبة. أي: كأنها راغبة في الصلة، حيث أتت بهدايا لابنتها، والعادة أن القريب يأتي بالهدايا، ومعناه أنك ستضيفه وتكرمه، وأيضاً تحمله بجائزة وبهدايا، فأمها وهي مشركة جاءت في ذلك الوقت، والسيدة أسماء خافت أن تدخلها وهي مشركة، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم، فقال صلى الله عليه وسلم: (نعم، صلي أمك) فالبنت تصل أمها، والابن أولى به أن يصل أمه ويصل أباه.
فالمرأة إذا لم يكن لها فلوس يقال لها: تصدقي ولو من الحلي الذي تملكينه.
وزينب الثقفية زوج ابن مسعود رضي الله عنهما كانت غنية، وزوجها عبد الله بن مسعود الصحابي الفقيه الفاضل كان فقيراً، كان خفيف ذات اليد، أي: فقيراً ليس عنده مال، فالمرأة رجعت إليه وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالصدقة، فقالت: إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمرنا بالصدقة، فاسأله هل ينفع أن أعطيك الصدقة وأنت زوجي أم لا ينفع ذلك؟ فقال: بل ائتيه أنت. أي: أنت التي تريدين أن تتصدقي، فاذهبي أنت، فانطلقت، قالت: فإذا امرأة من الأنصار بباب رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجتي حاجتها. أي: تريد أن تسأل نفس السؤال.
قالت: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ألقيت عليه المهابة. حيث إن المرأة خجلت من أن تسأل النبي صلى الله عليه وسلم لهيبته صلى الله عليه وسلم، قالت: فخرج علينا بلال فقلنا له: ائت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره أن امرأتين بالباب تسألانك: أتجزئ الصدقة عنهما على أزواجهما وعلى أيتام في حجورهما؟
كأن المرأة كانت تربي أيتاماً لها أو لغيرها، وأيضاً تريد أن تنفق على زوجها، فهل يمكن أن تعطي الصدقة لزوجها الفقير وتعطي الصدقة لأيتام تربيهم في حجرها، وهم عيال غيرها، وقالتا له: لا تخبره من نحن. وكأن ذلك كان خوفاً على العمل من الرياء، وأيضاً هيبة من النبي صلى الله عليه وسلم.
فدخل فقال للنبي صلى الله عليه وسلم ذلك فقال: (من المرأتان؟ فقال: امرأة من الأنصار و
ولكن النبي صلى الله عليه وسلم الذي هو أولى بالمؤمنين من أنفسهم، والذي هو بالمؤمنين رءوف رحيم، قال: (لهما أجران: أجر القرابة وأجر الصدقة).
وعليه فإنه يجوز للمرأة إن كانت غنية أن تعطي زوجها من صدقة مالها، بل أيضاً يجوز لها أن تعطي زوجها من زكاة مالها إن كان فقيراً، فإذا كانت المرأة غنية - بأن ورثت عن أبيها مالاً - وزوجها فقير جاز لها أن تعطيه من زكاة مالها.
فـأبو سفيان كان في ذلك الوقت كافراً، وكان عدواً للنبي صلى الله عليه وسلم، بل من أشد أعداء النبي صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك يشهد للنبي صلى الله عليه وسلم بأنه يأمرهم بالتوحيد، وينهاهم عن الشرك بالله، ويأمر بالصلاة، ويأمر بالصدق والعفاف والصلة.
فلما أخبر هرقل بذلك أخبره هرقل بأن النبي صلى الله عليه وسلم سيملك موضع قدميه، وأنه لو استطاع أن يذهب إليه فيغسل عن قدميه لفعل.
فأحس أبو سفيان بالذل من ذلك اليوم، وبأن النبي صلى الله عليه وسلم سينتصر يوماً من الأيام، فكان أن هداه الله عز وجل للإسلام بعد ذلك.
ومصر هي البلدة التي كان يذكر فيها القيراط، فأخبرهم وبشرهم بأنه في يوم من الأيام ستفتحون مصر، وكان ذلك من معجزاته صلى الله عليه وسلم وإخباره بالشيء الذي يكون فيكون كما أخبر صلى الله عليه وسلم.
فقال لهم: ستفتحون مصر، وهي أرض يسمى فيها القيراط، فاستوصوا بأهلها خيراً. فأوصى النبي صلى الله عليه وسلم بأهل مصر، وكان أهل مصر كفاراً، وكان فيها النصارى وغيرهم، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه إذا فتحوا مصر بأن يستوصوا بأهلها خيراً، لماذا؟
قال: (فإن لهم ذمة ورحماً) وفي رواية: (فإذا افتتحتموها فأحسنوا إلى أهليها؛ فإن لهم ذمة ورحماً، أو قال: ذمة وصهراً).
والرحم الذي في مصر هو من قبل هاجر أم إسماعيل، فسيدنا إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام لما جاء بامرأته سارة ، إلى أرض مصر كان في مصر ملك جبار، فرأى إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، ورأى سارة فأعجبته، فسأل إبراهيم: من هذه؟ فقال أختي.
لأنه خاف على نفسه، فلو قال: هي زوجتي لقتله وأخذ سارة ، فقال: أختي.
وبعد ذلك ذهب إلى سارة ، وقال: إن هذا الكافر سألني عنك فقلت: أختي، وإنه ليس على وجه الأرض مسلم غيري وغيرك.
أي: لا يوجد مؤمن على وجه الأرض إلا أنا وأنت. فكانت هذه إحدى كذبات إبراهيم الثلاث، وهذه ليست كذبة في الحقيقة، إذ إنه عرض في الكلام، وقصد أنها أخته في الإيمان، وفي الإسلام، وهي زوجته.
ثم إن هذا الرجل أرسل إلى سارة وأخذها وأراد أن يأتيها، فصلت لله ودعت ربها سبحانه فإذا بربها يمنعه منها ويخر مغشياً عليه فيسقط على الأرض لقفاه ثلاث مرات، حتى قال لمن معه: إنما جئتموني بشيطانة. وأمرها بأن ترجع إلى إبراهيم، وأخدمها هاجر.
فـهاجر كانت من أرض مصر أعطاها الملك خادمة لـسارة ، وبعد ذلك أخذتها سارة ووهبتها لإبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فصارت أمة لإبراهيم، فلما تغشاها إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه جاء منها إسماعيل النبي على نبينا وعليهما الصلاة والسلام، فلذلك كانت الرحم الذي بين المصريين وبين إبراهيم على نبينا وعليه والصلاة والسلام سبباً في إسماعيل الذي هو جد النبي صلوات الله وسلامه عليه، فالرحم التي لهم هي كون هاجر أم إسماعيل جد النبي صلى الله عليه وسلم منهم.
والصهر هو المصاهرة بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين أهل مصر عن طريق مارية القبطية التي كانت أمة وأهداها المقوقس للنبي صلى الله عليه وسلم، وجاء منها النبي صلى الله عليه وسلم بولده الذي هو إبراهيم ، فصار لهم مع النبي صلى الله عليه وسلم الرحم والصهر، فأوصى النبي صلى الله عليه وسلم بجميع أهل مصر من أجل امرأتين.
ويلحظ هنا أن مارية ليست بزوجة للنبي صلى الله عليه وسلم، وإنما هي أم ولد ملكها النبي صلى الله عليه وسلم، كما كانت هاجر أمة ملكها إبراهيم وليست زوجة لإبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام.
فأمر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم بالنذارة، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشاً فاجتمعوا، فعم وخص، عم قريشاً كلها ثم بدأ يخص البعض منهم، وهم العشيرة الأقربون، فقال: (يا بني كعب بن لؤي! أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني مرة بن كعب! أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد مناف! أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني هاشم! أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد المطلب! أنقذوا أنفسكم من النار، يا
فذكر القبائل فعم، ثم خص فذكر الأقربين من بني هاشم وبني عبد المطلب، وفاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم، وأخبر الجميع أنه لا يملك لهم من الله شيئا، ولا تزر وازرة وزر أخرى، وكل إنسان يحمل خطيئته وإثمه يوم القيامة.
ثم قال صلى الله عليه وسلم: (غير أن لكم رحماً) أي: بيني وبينكم رحم، فسأصل هذه الرحم وأبلها ببلالها، والبلال هو الماء، وكأن قطيعة الرحم كالنار تحرق، وكأنه سيصب على هذه النار الماء الذي يجعله يصل هذه الأرحام.
ومن الأحاديث حديث عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم جهاراً غير سر يقول: (إن آل بني فلان ليسوا لي بأولياء) وهو يريد بعض أقرباء النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنهم ليسوا من المؤمنين، كـأبي لهب وغيره، فقال صلى الله عليه وسلم: (إنما وليي الله وصالح المؤمنين) .
فذكر له العبادات من توحيد الله سبحانه تبارك وتعالى وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، ثم ذكر النفع المتعدي، وهو صلة الرحم، بأن يصل الإنسان رحمه، فإن كان له مال وصل بماله، وإلا وصل الرحم ولو بالكلام، ولو بالزيارة.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث سلمان بن عامر : (إذا أفطر أحدكم فليفطر على تمر؛ فإنه بركة، فإن لم يجد تمراً فالماء؛ فإنه طهور).
وقال: (الصدقة على المسكين صدقة، وعلى ذي الرحم ثنتان: صدقة وصله).
وكم من حديث عنه صلى الله عليه وسلم في صلة الأرحام وبيان أنك إذا تصدقت على الأرحام كان لك أجران عند الله سبحانه تبارك وتعالى.
وعمر بن الخطاب هو الفاروق الذي فرق الله عز وجل به بين الحق والباطل، فـابن عمر كان متزوجاً امرأة، وكان يحب هذه المرأة، وأبوه عمر بن الخطاب كان يبغضها، وعمر بن الخطاب ليس من أهل الهوى، ومن يحبه عمر فهو إنسان مؤمن، فقد كان عمر مع الحق دائماً، فكان يكره هذه المرأة لشيء فيها، وكان لا يطيقها، فقال لابنه: طلقها. فذهب فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: (إن أبي لا يحب هذه المرأة، وأنا أحبها ولست أكرهها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: طلقها) أي: اسمع كلام أبيك وطلقها. فما كان منه إلا أن طلق هذه المرأة.
فهل - يا ترى - لو أن إنساناً كانت أمه لا تحب امرأته يذهب فيطلقها؟
الجواب: لا؛ فأمه أوبوه ليسا كـعمر بن الخطاب فـعمر يحب لله عز وجل، ويحب في الله سبحانه وتعالى، وإذا كره كره لله سبحانه وفي الله سبحانه، فمن كان مثل عمر فإنه يطاع في هذا الشيء.
وفي حديث أبي الدرداء أن رجلاً أتاه فقال: إن لي امرأة وإن أمي تأمرني بطلاقها.
فهذا رجل يستفتي أبا الدرداء رضي الله تبارك وتعالى عنه في أنه متزوج امرأة وأمه تكره هذه المرأة وتأمره بطلاقها، فتوسط أبو الدرداء في الأمر لأن أم الرجل ليست كـعمر ، وأخبره بحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ليفكر في أمره، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (الوالد أوسط أبواب الجنة) يعني: حبك لأبيك وطاعتك لأبيك تدخلك الجنة من أوسط أبوابها، فالوالد باب واسع لدخول الجنة، قال: (فإن شئت فأضع ذلك الباب أو فاحفظه).
ولاحظ هنا أنه توسط في الفتوى، فما قال: طلق، وما قال: لا تطلق؛ إذ يحتمل أن تكون الأم مصيبة في أنها تكره هذه الفتاة، فطلاقها أفضل، ويمكن أن تكون مخطئة في هذا الشيء، فأعطاه قاعدة، وهي أن حبك لأبيك وأمك وبرك بأبيك وأمك أوسط أبواب الجنة، فإذا استطعت أن توفق بين زوجتك وبين أمك كان ذلك خيراً، وإلا فعليك أن ترضي والديك بما يرضيان به عنك قدر المستطاع.
وإذا كنت ساكناً مع زوجتك في البيت الذي فيه أمك وأبوك وكانت أمك لا تطيقها ولا أبوك فانتقل إلى مكان آخر وإذا كنت عازماً على أن تبقي على زوجتك وعلى أهلك فلا تؤذ أمك بها ولا تفارقها وتطلقها، فذلك ممكن.
والطلاق بغيض، ولكن الإنسان إذا رأى زوجته تؤذي أمه وتتعمد إهانتها فالأفضل أن يطلقها؛ إذ لا تستحق أن تكون معه، وإذا كانت زوجته لا تؤذي أحداً وكان الشقاق من أمه فليبعد هذه عن هذه ويحاول أن يكون كيساً في تصرفاته مع الطرفين، ولا نأمره بالطلاق ولا نقول له: أغضب والدتك واتركها تتضجر، ولكن نقول له: كن منتبهاً دائماً، واعلم أن الإحسان إلى الأم والأب أوسط أبواب الجنة، فلا تضيع هذا الباب، ورغم أنف امرئ أدرك والديه عند الكبر أو أحدهما فلم يدخلاه الجنة، كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم.
نسأل الله عز وجل أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته، وعلى صلة الأرحام.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر