الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الإمام النووي رحمه الله: [باب حق الجار والوصية به.
قال الله تعالى: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [النساء:36].
وعن ابن عمر وعائشة رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه)، متفق عليه.
وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا
وفي رواية له عن أبي ذر قال: (إن خليلي صلى الله عليه وسلم أوصاني إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها، ثم انظر أهل بيت من جيرانك فأصبهم منها بمعروف)].
والجار هو المجاور في السكن أو المكان، ومنه المجاورة في الاعتكاف بمعنى: المجاور في المسجد في فترة الاعتكاف.
والجار له حق على جاره، والإسلام يوصي بالجار وصية عظيمة سواء كان ذلك في القرآن أو في سنة النبي صلوات الله وسلامه عليه.
ففي القرآن، قال الله عز وجل: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا [النساء:36] فبدأ بعبادة الله سبحانه وتوحيده ثم ذكر أصحاب الحقوق فقال: وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى [النساء:36]، أيْ: أحسنوا إلى الوالدين إحساناً وإلى ذوي القربى وهم أرحام الإنسان وعصباته، ثم قال: وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ [النساء:36]، فبعد ما وصى الله بالوالدين وبالقرابات، وصى باليتامى والمساكين وهم أهل الحاجة، ثم وصى بالجار.
النوع الثاني: وَالْجَارِ الْجُنُبِ [النساء:36] وهو الجار الغير القريب، الذي لا يوجد بينك وبينه نسب ولا رحم ولا عصوبة، فالوصية فيه لكونه جاراً.
النوع الثالث: وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ [النساء:36] المصاحبة هي المجاورة، كمصاحبة الإنسان للإنسان في الطريق أو في دروس العلم أو في غير ذلك من أنواع المصاحبة على الخير، فأوصى الله عز وجل خيراً في الجار من القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب.
وكذلك أوصى بابن السبيل وهو الإنسان المسافر الذي نزل في مكان فيحتاج إلى نفقة، ثم أوصى بما ملكت أيمانكم.
وصية جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يحافظ على جاره ويحفظه ويصنع له خيراً، وهذه الوصية للنبي صلى الله عليه وسلم ولأمته، وهذه الوصية ليست من قبل جبريل وإنما هي أمر من الله عز وجل.
ولقد أوصى الله تعالى في القرآن بوصايا فقال: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ [النساء:11]، وذكر ميراث البنت والزوج والزوجة والأخ والأخت وغير ذلك، وظن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّ الله تعالى سينزل آيات فيها الوصية بميراث الجار، فقال: (حتى ظننت أنه سيورثه).
والجار إما أن يكون جاراً وقريباً في الوقت نفسه ويكون مسلماً، أو يكون جاراً كافراً، أو يكون جاراً مسلماً فهؤلاء لهم حقوق.
فإذا كان الجار مجاوراً وقريباً ومسلماً فله ثلاثة حقوق:
الحق الأول: حق الجوار، جنبك وبجوارك فأنت ستعرف مدخله ومخرجه، ويحتاج إليك وتحتاج إليه.
والحق الثاني: حق الإسلام، وللمسلم على المسلم حقوق.
والحق الثالث: حق القرابة، إذا كان بينك وبينه رحم.
فإذا كان جاراً غريباً ولكنه مسلم، فله حق الجوار وحق الإسلام عليك.
وإذا كان جاراً كافراً فليس له إلا حق الجوار، فلا تؤذ جارك.
فهذه الحقوق التي أمرنا الله عز وجل بأدائها، فلو أن كل إنسان عرف الحقوق وأدَّى الواجبات لاستراح الناس، وكل إنسان يعرف الحقوق التي أوجبها الله على عباده، فقد شرع لنا منهاجاً للحياة نعيش تحت ظله، فنأتمر بأمره وننتهي بنهيه، فيجب علينا مراعاة حق الجار فنحافظ عليه.
والمحافظة عليه كانت معروفة في الجاهلية، وكانوا يعدون ذلك من مكارم الأخلاق، فكانوا يرون أن الجار له حق عظيم جداً وخاصة إذا كان الجار ليس موجوداً فيراعون حق زوجته أو كريمته، ويغضون الطرف عنها، يقول عنترة بن شداد وهو شاعر جاهلي:
وأغض طرفي إن بدت لي جارتي حتى يواري جارتي مأواها
فلم يؤمروا بغض البصر وإنما كان عندهم احترام للجار.
والجار أقرب إنسان إليك سواء كان قريباً أو غريباً، فلو حصلت لك مصيبة فإنك ستستنجد بجارك فحافظ على حقوقه، فلا تنظر إلى نسائه أبداً نظرة خائنة، فالجار هو الذي يزورك وأنت مريض، وهو الذي يمشي وراءك إلى قبرك فيدعو لك، وهو الذي تقبل شهادته عليك عند الله سبحانه وتعالى، وجارك أعلم بك.
فلو قال جارك فيك بعد موتك: كنت رجلاً كريماً مصلياً قارئاً للقرآن، فهذه الشهادة مقبولة عند الله سبحانه تبارك وتعالى.
فالمسلم العاقل ينفع جاره في الدنيا وفي القبر فيحرص على أن يثني عليه خيراً، وإذا لم يثن عليه خيراً فعلى الأقل لا يؤذيه بالكلام الخبيث، أو بفعل ضار يضره به، بأن يسرقه أو يتسلط عليه بالأذية وغير ذلك، فالمسلم يراعي حق الجار حتى لا يدعو عليه، وحتى تكون الألفة والمحبة بينهما.
فإذا طبخت مرقة فأكثر ماءها، ولم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: فأكثر لحمها، لأنه ليس كل واحد سيجد اللحم، فأعطه شربة مرق فقد يكون فقيراً محتاجاً فيدعو لك، ويبيت فرحاناً.
وتعاهد الجار هو تفقد أحواله والسؤال عنها ابتغاء وجه الله سبحانه وتعالى.
ويقول في الرواية الأخرى: (إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها ثم انظر أهل بيت من جيرانك فأصبهم منها بمعروف). أي: بشيء من المعروف ولا تحرم جيرانك.
(قيل: من يا رسول الله؟ قال: الذي لا يأمن جاره بوائقه).
والبوائق معناها: الغوائل والشرور، وهذان الأمران لا يثاب عليهما الإنسان وينقصان من إيمانه، فإنَّ الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، وهذا الفعل من أقل الأشياء التي يجب أن تؤديها، فترفع قشرة الموز لئلا يتزحلق فيها أحد فيتأذى بها، وذلك ابتغاء وجه الله لتحصل على الأجر.
فإذا كان الإنسان يؤذي جاره فإنَّ إيمانه ناقص، فإنه مأمور بأن يرحم جاره وأن يتعاهده ويحافظ عليه.
ومن علامات الإيمان أن الإنسان يكرم جاره، ويتعاهده فيما يحتاج إليه ويقدمه إليه.
ثم شكاه مرة ثانية فقال له: (اذهب فاصبر)، ثم مرة ثالثة فقال له: (اذهب فاطرح متاعك في الطريق).
هنا تأديب ذكي من النبي صلى الله عليه وسلم لهذا الجار السيئ الذي يؤذي جاره، فهذا منظر غريب أن رجلاً يضع متاع منزله في الشارع، فيسأله الناس عن سبب ذلك، فيخبرهم أن جاره يؤذيه فيدعو الناس عليه، فلما بلغ الخبر إلى الجار المؤذي أن الناس يلعنونه وستستجاب دعوتهم وأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر جاره بذلك، فذهب إليه وقال له: ارجع ولا ترى مني شيئاً تكرهه.
فهذا تأديب من النبي صلى الله عليه وسلم لمثل هذا الجار، وأيضاً تعليمه للجار الآخر بالصبر فإنَّ جزاءه الحسنى.
وجاء في حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن شر الناس من اتقاه الناس مخافة شره).
الإنسان الشرير فرح بنفسه ويحس أن أحداً لا يجرؤ أن ينظر إليه فهذا من شر الناس، وخير الناس من أحبه الناس، وكان مؤمناً لطيفاً يؤلف ويأتلف، حسن المعاشرة مع أهله ومع جيرانه.
وشر الناس من اتقاه الناس مخافة شره، فلا يريد أحد أن يقابله.
يعلمنا النبي صلى الله عليه وسلم التهادي ولو بالشيء القليل، ليعمق المحبة فيما بيننا، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (تهادوا تحابوا).
إذا كانت الهدية بين المسلم وأخيه - إن لم يكن من ورائها غرض قبيح - قبلها الإنسان، ومن أهدي إليها شيء يسير فلا تحتقره ولو كان فرسن شاة، وهو آخر الساق من الشاة الذي فيه لحم قليل.
والمعنى: أن إنساناً أهدى لك الشيء القليل ويرجو المحبة بينك وبينه، فلا تحرم نفسك من هذا ولا تحتقر المهدي إليك.
قد يكون الجار فقيراً ويريد أن يبني له غرفة أو عشة ومحتاج أن يضع الخشبة على جدرا دار جاره بحيث لا يتضرر البيت فلا يمنع من ذلك.
ثم قال أبو هريرة رضي الله عنه: (ما لي أراكم عنها معرضين، والله لأرمين بها بين أكتافكم) كأن أبا هريرة حدث بهذا الحديث وقد كان أميراً وذلك لما اشتكى له بعض الناس أن جاره منعه أن يضع الخشبة في جداره، فقال للناس: والله لأرمين بها ولو بين أكتافكم. أي: فسوف أجعل الخشبة بين أكتافكم، والمعنى: طالما أنه شيء لا يؤذيك فلا تمنع الجار من ذلك لكي يدعو لك بالخير، ويكون بينك وبينه مودة.
وكم من إنسان يمنع جاره من أشياء لا تضره كأن يمنعه من وضع حبل الغسيل في الجدار أو على السطوح بدعوى أن الجدار أو السطح سيتهدم أو يتكسر، وطالما أنك لن تتضرر فلا تمنع جارك.
من علامات الإيمان وصفات المؤمن ما يلي:
أولاً: عدم إيذائه لجاره، فلا يحل للمؤمن بالله واليوم الآخر أن يؤذي جاره.
ثانياً: إكرام الضيف، فلا يحل للضيف أن يحرج من نزل عنده.
وأيضاً: لا يحل للمضيف أن يؤذي هذا الضيف، وأن يمتنع من إكرامه على قدر استطاعته.
وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن حق الضيف ثلاثة أيام، فلا يحرجه ويطول الجلوس عنده.
فإكرام الضيف مقرر في الشريعة، والمطلوب من الضيف أنه لا يؤذي هذا المضيف فلا يبيت عنده وهو يعلم أن بيته ضيق.
ثالثاً: من علامات الإيمان أن المسلم إذا تكلم نطق بالخير، وإلا فليسكت ليحسن قيامه بعمله، قال تعالى: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:18]، طالما أن الإنسان سيسأل يوم القيامة.
فإذا تكلم الإنسان بكلام فإنه سيؤاخذ ويحاسب عليه عند الله عز وجل، ولا يحل للإنسان أن يكذب ليضحك من حوله، فإما أن يتكلم بخير أو يسكت، فإذا أراد أن يتكلم فليتكلم بالكلام الذي أبيح له شرعاً، فلا يجوز له أن يتكلم بالكذب، ولا بالفحش، ولا يشهد زوراً، فالمسلم يعرف ما الذي يجوز له أن يتكلم به وما يحرم عليه فيمتثل أمر الله سبحانه.
ومن الأحاديث أيضاً: حديث أبي شريح الخزاعي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحسن إلى جاره) رواه مسلم .
ولا شك أن المسلم عنده أخلاق حسنة، ومنها الإحسان إلى الخلق، فيحسن إلى الوالدين وإلى أقربائه وإلى جيرانه.
أَيْ: من كان باب داره قريباً من باب دارك فهو شريكك، فإذا دخلت دارك وفي يدك شيء فهو يراك لأنه قريب منك، أما البعيد فلا يرى، وقد تدخل مستخفياً ولكن بعدما تصعد رائحة الأكل فيشمه الجار القريب فسيحتاج، فالنبي صلى الله عليه وسلم يعلمك أن القريب أولى بالمعروف.
خير الأصحاب خيرهم لصاحبه، وجاء في الحديث الآخر: (ما تحاب الرجلان في الله إلا كان أفضلهما أشدهما حباً لصاحبه).
إذا كان الرجلان متحابين في الله عز وجل، فأحبهما إلى الله عز وجل الذي يحب صاحبه أكثر.
فهنا علمنا النبي صلى الله عليه وسلم أن خير الأصحاب عند الله خيرهم لصاحبه، فلا يصاحبه لأجل الدنيا أو يريد أن ينتفع منه أكثر نفعاً، ولكن يحبه في الله تبارك وتعالى، وكلما ازدادت المحبة كان أقرب إلى الله.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (وخير الجيران عند الله تعالى خيرهم لجاره).
فالدين يعلمك إن تعمل العمل ولا تنتظر المكافأة عليه من الناس؛ لأنك إذا انتظرت المكافأة من الناس فإنهم سيتعبون منك، فاعمل لله تبارك وتعالى، ولا تنتظر أجراً ولا مدحاً ولا شكراً من الناس؛ لكن انتظر الأجر من الله عز وجل.
والمعاملة مع الناس متعبة ومع الله مريحة جداً، فالمسلم يتعامل مع الله، فيحب في الله لأجل أن يحبه الله عز وجل.
ويكرم جاره لكي يكون أفضل عند الله تبارك وتعالى، فلا يكرمه لأجل أن يبادله بالإكرام.
والجار إذا تغاضى عن جاره ونظر للأجر والثواب عند الله عز وجل وأن الأجر على قدر العمل والمشقة فإنه سيستريح من الجار ومن الناس لأنه انتظر من الله عز وجل خيره وبره ورحمته سبحانه.
والمؤمنون يتفاوتون في درجات الجنة، فبعضهم أعلى درجة من البعض الآخر، لأنهم كانوا أحسن خلقاً ويكرمون الجيران وكانوا خير الأصحاب.
وكان الصحابة رضوان الله عليهم يتسابقون في ذلك، فقد جاء الحديث أن رجلاً أراد أن يصلح جدرا حائطه فاعترضته نخلة كانت لجاره، ولا يتم إصلاح الجدار إلا بإزالتها، فذهب إلى جاره يستأذنه بإزالتها فرفض، ثم عرض عليه أن يبيع له هذه النخلة فرفض، فذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بالخبر فقال النبي صلى الله عليه وسلم للرجل: (أعطها له ولك نخلة في الجنة، فقال: لا أريد، فسمع فذهب أبو الدحداح إلى امرأته وأولاده وقد كانوا في الحائط فناداهم بأن يخرجوا من الحائط
أي: كم من نخيل كثير لهذا الرجل العظيم أبي الدحداح مقابل ما فعله، وكان هيناً عليه أن يفعل ذلك؛ لأنه رباه النبي صلى الله عليه وسلم على حب الله عز وجل، وعلى حب رسوله صلى الله عليه وسلم وعلى إكرام المسلمين؛ فرضي الله تبارك وتعالى عنه.
إذاً: خير الجيران عند الله تعالى خيرهم لجاره، والإنسان يكرم جاره ولا ينتظر منه جزاءً ولا شكوراً، لكي ينال الفضل من الله تبارك وتعالى.
قال الله تعالى: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى [النساء:36].
وقال تعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ [النساء:1]، والوالدان من الأرحام.
وقال تعالى: وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ [الرعد:21] ، والمؤمن يصل رحمه؛ لأن الله أمر بذلك.
وقال تعالى: وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا [العنكبوت:8].
وقال تعالى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا [الإسراء:23].
الوالدان هم الأب والأم، فالأم هي التي حملت ابنها تسعة أشهر وأرضعته حولين كاملين، والأب أحسن إليه حتى نشأ وشب وصار رجلاً.
فالله عز وجل يوصي الإنسان بالوالدين إحساناً، أي: أحسنوا إليهما إحساناً عظيماً وخاصة إذا بلغ الكبر أحدهما أو كلاهما، قال تعالى: إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا [الإسراء:23] .
وأف: كلمة تفيد التضجر.
ولا تنهرهما: أي لا ترفع صوتك في الكلام عليهما ولا ترد عليهما أمرهما ولكن أحسن إليهما ليبارك الله عز وجل لك في عمرك، فإذا عققتهما سلط الله عليك من أولادك من يعقك.
والأب والأم بركة إذا كانا عند أولادهما إذا تفاوتوا في خدمة الوالدين، أما إذا تركوهما بعيداً ولم يسألوا عنهما فهذا ليس من الإحسان إليهما، ودعاء الوالدين لك سبب لدخولك الجنة، لذا فإن رجلاً ذهب إلى الصحابة يسألهم عن امرأة تعلمت السحر، ثم تابت وتريد أن تصوم لله عز وجل، فقال الصحابة: إن كان لها أب أو أم لرجونا لها الله تعالى أن يعفو عنها.
والأب والأم كنزان عند الإنسان إذا أحسن إليهما استفاد من بركتهما، ومن أساء إليهما ضيع على نفسه دنياه وأخراه، وكم من إنسان متضجر من والديه ويتمنى موتهما وقد يضربهما، ثم يسأل بعد موتهما ماذا يفعل لهما؟ وقد أساء إليهما أيما إساءة، ومع ذلك فإن رحمة ربنا عظيمة فيغفر لمن يشاء سبحانه، لكنه ضيع فرصة عظيمة على نفسه كانت ستدخله الجنة، وهي دعوة الأب والأم فإنها باب في الجنة مفتوح.
وقال الله تعالى: وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ [الإسراء:24]، أي: اخفض لهما جناحك من شدة رحمتك بهما، وكن غاية في الرأفة والرحمة بهما حتى لكأنك ذليل أمامهما من شدة رحمتك لهما.
وأخر الجهاد على البر بالوالدين، لكن إذا تعين الجهاد فإنه يجاهد في سبيل الله عز وجل ولا ينتظر إذن الوالدين في ذلك، أما إذا لم يتعين الجهاد فيجب أن يستأذنهما في الجهاد في سبيل الله عز وجل.
فبر الوالدين جعله النبي صلى الله عليه وسلم بعد الصلاة وقبل الجهاد في سبيل الله.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يجزي ولد والداً إلا أن يجده مملوكاً فيشتريه فيعتقه)، رواه مسلم .
أي: الشيء الوحيد الذي يمكن للولد أن يجزي به حق والده سواء كان أباه أو أمه، هو أن يجده مملوكاً فيشتريه ثم يعتقه.
فهذا وعد من الله تبارك وتعالى أنه يصل من وصل الرحم، فيجب على الإنسان أن يصل أقربائه كأبيه وعمه وخاله وأخته وعمته وخالته وأبناء أخواته وأبنائه ولا يقطع رحمه.
وجاء في الحديث الآخر: (حتى إن أهل الديار لا يصبرون على شيء من الذنوب، ولكن يصلون أرحامهم فيعطيهم الله عز وجل الغنى في الدنيا) فالإنسان الذي يرتكب الذنوب والمعاصي ولكنه يصل رحمه فإن الله تعالى قد يغفر له، لأن صلة الرحم عظيمة جداً، قال الله سبحانه وتعالى: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ [محمد:22-23].
فالذين أفسدوا في الأرض وقطعوا أرحامهم أصم الله عز وجل آذانهم وأعمى أبصارهم.
حق الأم أعظم من حق الأب لأنها حملت ابنها تسعة أشهر وتعبت فيه تعباً شديداً، ثم ولدته وتعرضت لآلام شديدة، ثم أرضعته حولين كاملين، إلى غير ذلك من المتاعب التي تحملتها في سبيل ابنها.
وفي رواية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أمك ثم أمك ثم أباك، ثم أدناك أدناك) أي: راع أباك ثم أدناك أدناك، وهم الأقربون.
رغم: من الرغام، وهو التراب، وهنا دعاء على الإنسان أن يوضع أنفه في الأرض، ومعناه: أن يذله الله إذا أباه وأمه وقد بلغا الكبر ومع ذلك لم يدخل الجنة.
فالوالدان بابان من أبواب الجنة، فإذا أحسن الإنسان إلى الوالدين دعوا له وكان ذلك سبباً في دخوله الجنة.
أي: إن كنت كما قلت أنك تصلهم وهم يقطعونك وتحسن إليهم وهم يسيئون إليك، وتحلم عن جهلهم وعن سخطهم وعن شتمهم وهم يجهلون ويسيئون إليك؛ فكأنك تحط في فم هؤلاء الرماد الحار؛ ولا شيء عليك؛ لأنك تحسن إليهم.
فلا تدع فرصة لهؤلاء إن يقولوا عنك بأنك قاطع للرحم، ولا تضيع على نفسك ثواباً عند الله تبارك وتعالى.
فالمفترض في الإنسان المسلم أن يتعامل مع الله سبحانه ولم ينتظر إلى إحسان الناس.
صلة الرحم سبب في زيادة الرزق زيادة حقيقة، وفي زيادة عمر الإنسان أي: البركة في عمره.
فالإنسان الذي يصل رحمه يفتح الله له أبواب الرزق وإن لم يشعر بذلك، كأن يكون موظفاً وله راتب معلوم، فمن البسط في الرزق أنَّ الله يمنع عنه مرضاً أو فساداً يضيع عليه ماله، فالله عز وجل أعلم ما يكون بالعبد منه.
فالإمام النووي هو صاحب كتاب رياض الصالحين وكتاب المجموع وكتاب تهذيب الأسماء واللغات وكتاب روضة الطالبين، وكان الإمام النووي رحمه الله له اثنا عشر درساً، درس في الحديث وفي أصول الفقه وعلم الحديث وعلم الفقه وعلوم كثيرة فهو صاحب المؤلفات الضخمة، وتوفي وله من العمر ست وأربعون سنة هجرية، قال تعالى: وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا [الكهف:25]، فعلى الحساب الهجري سيكون زيادة تسع سنين، وعلى الحساب الشمسي ثلاثمائة سنة وتسع سنوات، فإن كل مائة سنة تزيد بثلاث سنين.
والإمام الشوكاني رحمه الله مات وعمره أربع وخمسون سنة، والإمام الشنقيطي رحمة الله عليه صاحب المؤلفات العظيمة التي أخذ الناس منها فقهه وعلمه وألفوا عليها الكتب الكثيرة جداً، مات وله من العمر أربع وخمسون سنة وهو إمام الدنيا رضي الله تبارك وتعالى عنه.
فبارك الله عز وجل لهم في أعمارهم، فكانت أعمارهم طاعة لله سبحانه، فما يستطيع أحد أن يحصل على الذي كان يحصله الإمام النووي في اليوم الواحد من الدروس، ولكن تشبه بهؤلاء فصل رحمك وأطع الله سبحانه وعامل جارك المعاملة الحسنة يبارك لك في رزقك ويبارك لك في أثرك بما تستحقه أنت في الجانب الذي أنت فيه.
فزيادة الله عز وجل للإنسان في عمره معناها: البركة في العمر، فما يعمله في السنة الواحدة أضعاف ما يعمله غيره في سنوات، فالصحابة رضوان الله عيهم بارك الله عز وجل لهم في أرزاقهم وفي ثوابهم عنده تبارك وتعالى، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه)، أي: لو أنفقت مثل جبل أحد ذهباً ما بلغت من نفقة أحدهم مداً واحداً، أي: مثل قبضة اليد الواحدة، كذلك فضل الله سبحانه يؤتيه من يشاء، فالمسلم يفعل الخيرات ويحرص على أرحامه وعلى أمه وأبيه وعلى جيرانه ويكرم ضيفه، وربنا سبحانه وتعالى يعطي هذا الإنسان من الرزق في الدنيا وفي الآخرة.
أبو طلحة الأنصاري زوج أم سليم وهي أم أنس بن مالك رضي الله تعالى عنهم، والبر كلمة تجمع وجوه الإحسان كلها، ومعنى قوله تعالى: حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا [آل عمران:92] يعني: من بعض ما تحبون، وما قال لنا: حتى تنفقوا ما تحبون أي: جميع ما تحبون.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (بخ بخ! ذاك مال رابح، ذلك مال رابح! وقد سمعت ما قلت، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين) فهذه نصيحة النبي صلى الله عليه وسلم: أن يقسمها في الأقربين، فقال أبو طلحة : أفعل يا رسول الله فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه. متفق عليه، فهذا يدل على استحباب الصدقة على الأقارب.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر