قال الإمام النووي رحمه الله: [ باب تعظيم حرمات المسلمين.
وعن أبي عمارة البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبع، ونهانا عن سبع: أمرنا بعيادة المريض، واتباع الجنازة، وتشميت العاطس، وإبرار المقسم، ونصر المظلوم، وإجابة الداعي، وإفشاء السلام. ونهانا عن خواتيم -أو تختم- بالذهب، وعن شرب الفضة، وعن المياثر الحمر، وعن القسي، وعن لبس الحرير والإستبرق والديباج
ذكرنا فيما مضى نبذة عن تعظيم حرمات المسلمين، وبيان حقوقهم، والشفقة عليهم ورحمتهم.
وحرمات المسلمين مأمور كل مسلم بأن يراعيها، وفي الحديث: (كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه)، فالمسلم محرم على المسلم أن يسفك دمه، أو ينتهك عرضه، أو يأخذ ماله.
ومن الأحاديث التي سبقت في الباب: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً).
يكون الإنسان المسلم عوناً لأخيه، ولا يكون عوناً للشيطان عليه، فالنبي صلى الله عليه وسلم يشبه المسلمين بالبنيان يشد بعضه بعضاً، فكل إنسان من المسلمين له وظيفة في المجتمع، وهو مع باقي المسلمين يوقنون بوجود الله سبحانه وتعالى، وفيما بينهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، لذلك أخبر أن المسلم له حقوق على المسلمين كما أن عليه واجبات، فواجبات الإنسان المسلم في العبادات، في المعاملات، في الأحول الشخصية، في الجنايات يفعلها، كذلك للمسلم حقوق يذكرها هنا النبي صلى الله عليه وسلم.
المجتمع المسلم مجتمع نظيف، الإنسان عندما يتعامل مع أخيه المسلم يخاف من الله سبحانه وتعالى، يتعامل معاملة نظيفة؛ لأنه يرجو من الله الثواب، ويخاف من الله العقاب.
(لا تحاسدوا)، من حقه عليك أنك تفرح بما أعطاه الله عز وجل من خير، ولا تتمنى زوال النعمة التي أعطاه الله سبحانه.
وقوله: (لا تناجشوا).
النجش هو المزايدة في سعر السلعة بنية عدم الشراء. الإنسان الذي يبيع سلعة بالمزاد، ثم ينصب من يخدع الناس على أنه يزيد في ثمنها وهو لن يشتريها، إنما يريد أن يضحك على الناس ليغلي عليهم سعر السلعة، هذا هو النجش الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم.
وفي البخاري عن عبد الله بن أبي أوفى قال: (الناجش آكل رباً خائن)؛ لأنه يضحك على الناس، ويبيع مالاً بمال ويأخذ الفرق.
هو يدفع مالاً، ولكنه قال: بأحد عشر، فقال الثاني: باثني عشر، فيقول: بثلاثة عشر، وصاحب السلعة يخرج له نصيباً من هذا البيع فهو لم يدفع شيئاً وأخذ ربحاً على خديعة الناس.
فالناجش آكل رباً خائن، والربا مؤذن بحرب من الله ورسوله، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (درهم يأكله الإنسان من الربا أشد من ست وثلاثين زنية).
فهنا قال لنا: (لا تناجشوا، ولا تباغضوا)، فالمؤمن من حقه عليك أن تحبه، ولا تعمل أسباباً تجعل المسلم يكرهك ثم أنت أيضاً تكرهه، ويصبح المجتمع فيه نوع من نفور المسلمين بعضهم عن بعض.
قال: (ولا تدابروا)، وهو أن يوليك ظهره، والمعنى: ولا تتخاصموا بسبب الحرص على الدنيا، مما يولد بغض الإنسان لأخيه، يلقاه في شارع فيمشي من شارع آخر، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال لك: لا تكره أخاك المسلم، لا تبغضه، وإن كان يجوز لك أن تبغضه وتهجره بسبب معاص يأتيها، لكن لا ينبغي أن يتباغض المجتمع المسلم على أمر الدنيا، لا تجعل الدنيا تدخل بينك وبين أخيك، تعامل مع أخيك بالحسنى، أعط له ما تحب أن يعطي لك.
إن دين المسلمين محبة دائمة لا تنتهي إلى يوم القيامة، بل إلى أن تدخلوا الجنة، ويحب بعضكم بعضاً، ففي الدنيا ينتفع المسلم بأخيه وبمحبة أخيه، فإذا مات انتفع بصلاته عليه، فإذا كان في قبره انتفع بدعائه له، فإذا كان يوم القيامة انتفع بشفاعته له.
(لا تدابروا)، لا تكن محبة ظاهرة فقط، كما هو بين بعض الناس، يظهر المحبة والتأثر بحال الآخر، هو في الحقيقة لا يهمه إلا نفسه وإنما تلك أمور وقتية فقط، ثم يوليه ظهره وكأن شيئاً لم يكن، أو أن يجمع بينهما أكل وشرب، أو مصالح ومنافع مشتركة تنتهي محبتهما بانتهائها.
المسلم معاملته مع المسلم معاملة محبة؛ لأنه مجبول على المحبة، خلق الله عز وجل في قلبه الرحمة والحنان والمودة، وحب أخيه المسلم، فهو ينصحه لأجل الخير، وليتحول عن الشر إلى الخير، سيدنا معاوية رضي الله عنه قال: لو كان بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت، إذا أرخوا شددت، وإذا شدوا أرخيت.
في علاقتك بينك وبين أخيك لا تنفره، فقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك، وقال: (إن منكم منفرين)، وقال: (بشروا ولا تنفروا، ويسروا ولا تعسروا)، فالإنسان المسلم محب لأخيه الخير، وأن يكون رفيقه في الجنة، وأن يكونا في الدنيا على خير.
لا تكن من النوع الذي يسير مع الإنسان فإذا ذهب أعطيته ظهرك، (لا تدابروا)، بعض الناس يسلم عليك إن كان يعرفك، وإلا فلا، دين الإسلام لم يهذب هؤلاء، فالإنسان يحب الآخر لكونه مسلماً وليس لأنه في الوظيفة أو أنه عال في الرتبة.
هذا عمر بن الخطاب كان ينتصح ويقبل النصيحة من أصحاب النبي صلوات الله وسلامه عليه وهو أمير المؤمنين، فقد جاءه خطاب من أبي عبيدة بن الجراح ومعاذ بن جبل ، وهما من العشرة المبشرين بالجنة وعمر كذلك رضي الله عن الجميع.
فـأبو عبيدة شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بأنه أمين هذه الأمة، وشهد لـمعاذ بن جبل أنه أعلم أمته بالحلال والحرام، وقال له: (يا
هذا الشاب الصغير رضي الله عنه أحبه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (يا
الغرض: أنهما كتبا لـعمر : سلام عليكم، أما بعد: فإنا عهدناك وأمر نفسك لك مهم، يعني: نحن كنا أصحاباً لك، ونعلم أنك تهتم بنفسك خائف عليها من النار ومن عقوبة الله سبحانه.
وقد وليت أمر هذه الأمة أحمرها وأسودها، يجلس بين يديك الشريف والوضيع والعدو والصديق، ولكل حصته من العدل، فانظر كيف أنت عند ذلك يا عمر !
إنا نحذرك يوماً تعنو فيه الوجوه، وتجف فيه القلوب، وتنقطع فيه الحجج لحجة ملك قهرهم بجبروته يوم القيامة، والخلق داخرون صاغرون أذلة يرجون رحمته ويخافون عقابه، وإنا كنا نحدث أن أمر هذه الأمة سيرجع في آخر زمانها إلى أن يكونوا إخوان العلانية أعداء السريرة -أي: كل واحد مصاحب للآخر في الظاهر، لكن في قلبه يتمنى له الشر- قالا له: وإنا نعوذ بالله أن ينزل كتابنا إليك سوى المنزل الذي نزل من قلوبنا. أي: نعوذ ونستجير بالله أن تظن بنا ظن السوء، أو أن الكتاب تأخذه ثم ترميه ولا تعتبر بما فيه، فإنا كتبنا نصيحة لك والسلام عليك.
هذه النصيحة من معاذ وأبي عبيدة لـعمر رضي الله عن الجميع، ثم كان الرد من عمر أن كتب إليهما رضي الله عنه، فقال:
من عمر بن الخطاب إلى أبي عبيدة ومعاذ بن جبل : سلام عليكما، أما بعد: فإنكما كتبتما إلي تذكران أنكما تحباني، وأمر نفسي ليهم، وإني قد أصبحت قد وليت أمر هذه الأمة أحمرها وأسودها، يجلس بين يدي الشريف والوضيع والعدو والصديق، ولكل حصة من ذلك، وكتبتما: فانظر كيف أنت عند ذلك يا عمر !
فهو يبين لهم أنه قرأ كتابهما، واهتم بما فيه، واحتفظ به، وكان فيه: وأنه لا حول ولا قوة عند ذلك لـعمر إلا بالله. يعني: لا حيلة لي إلا أن يعينني الله على ذلك.
وكتبتما تحذراني مما حذرت به الأمم قبلنا، وقديماً كان اختلاف الليل والنهار بآجال الناس يقربان كل بعيد، ويبليان كل جديد، ويأتيان بكل موعود، حتى يصير الناس إلى منازلهم من الجنة والنار.
كتبتما تذكراني أنكما كنتما تحدثان أن أمر هذه الأمة سيرجع في آخر زمانها أن يكون إخوان العلانية أعداء السريرة، ولستم بأولئك، يعني: أن كلامكم طيب وجميل، ولن نكون نحن أصدقاء في العلانية وأعداء في السريرة.
قال: وليس هذا بزمان ذلك، بل زمان تظهر فيه الرغبة والرهبة، وما زال الناس بخير يرغبون فيما عند الله سبحانه، ويخافون من بطش الله سبحانه.
كتبتم هذه نصيحة تعظاني بالله أن أنزل كتباكما سوى المنزل الذي نزل من قلوبكم، وأنا أنزلها في المنزل الذي أنتم أردتم، وقد صدقتما الأمر، قال: فلا تدعا الكتاب إلي فإنه لا غنى بي عنكما.
يعني: هذه نصيحة جميلة، وأنا حفظتها، بدليل أني كتبتها إليكم مرة أخرى.
هذا عمر رضي الله تعالى عنه، الذي كان يهتم لأمر نفسه، ويخاف من الله سبحانه وتعالى.
يقول حذيفة : دخلت مرة على عمر وهو جالس يحدث نفسه، ويؤنب نفسه، ويعاتب نفسه، فجلس بجواره حذيفة رضي الله تعالى عنه وقال له: ما الذي أهمك يا أمير المؤمنين؟!
فقال عمر : بيده وأشار لنفسه، يعني: نفسه هي السبب الذي جعله يصنع هكذا.
فقال: والله لو رأينا منك أمراً ننكره لقومناك.
فنظر إليه عمر وقال: آلله الذي لا إله إلا هو، يعني: تحلف بالله الذي لا إله إلا هو على ما قلت، وأنكم لو رأيتم مني أمراً تنكرونه لقومتموه؟
فقال حذيفة : فقلت: آلله الذي لا إله إلا هو، يعني: نحلف بالله إنك لو أخطأت لقومناك.
قال: ففرح بذلك فرحاً شديداً.
كأنه كان يكلم نفسه محتاراً ومهموماً أن يكون هناك من هو خائف منه فلا ينصحه، فـعمر فرح بذلك، وعلم أنه على صواب رضي الله تعالى عنه، وقال: الحمد لله الذي جعل فيكم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم من إذا رأى مني أمراً ينكره قومني.
الإنسان يقبل النصيحة ممن ينصحونه فيقبل منهم، لا يقول: أنت تحسدني؛ لأني أمير وأنت أقل مني، لم يقل هذا رضي الله عنه، لذلك لما فتح الله له الدنيا ما كان يأخذها ويحوزها ويقول: هي لي أتصرف فيها كما أريد، بل ينظر إليها ويبكي، فيسأله عبد الرحمن بن عوف عن سبب بكائه، ولماذا لا تفرح بنعمة الله؟
لكن عمر رضي الله عنه يقول: ما فتح هذا على قوم إلا سفكوا دماءهم، وقطعوا أرحامهم.
ثم يقول لأحد من الجالسين: أرحني منها. أي: وزع هذه الأموال على المسلمين، ويقسم المال بين المسلمين بحسب منازلهم ومراتبهم، ويعطي لابنه كما يعطي لآحاد المسلمين.
قال: أي بناتي؟
قال: بنت عبد الله بن عمر ، يعني: بنتي، أنت لا تعطينا كما تعطي الناس، فهي لا تجد ما تأكل، وعمر شهد بذلك، وقال:البنت هذه أهلها ضيعوها.
فجعل عمر ينظر نظرة ليست نظرة الأب ولا نظرة الجد، ولا نظرة الشفقة والرحمة، ولكن نظرة الحاكم العادل، فقال له: وما يمنعك أن تكسب لها، والله لا أعطيك إلا كما أعطي آحاد المسلمين. يعني: فاذهب واشتغل، لكن نصيبك في بيت المال مثل نصيب آحاد المسلمين، فرضي الله تعالى عن عمر .
هنا تظهر شدة عمر التي جعلت الناس يجبونه، كان شديداً في الحق فأحبه الناس رضي الله تبارك وتعالى عنه، لذلك لما قتل عمر ما من مسلم من المسلمين إلا بكى كأنه مات له أخوه أو ابنه أو قريبه، كل بيوت المسلمين؛ لأن شدته عليهم كانت لمصلحتهم، لخوفه عليهم رضي الله تعالى عنه، عرف حقوق المسلمين، وعرف الواجب عليه، فأعطى الحقوق وقام بالواجبات رضي الله تعالى عنه.
فالمسلم لا يظلم المسلم، ولكن تجد أن بعض الناس يبحث عن أي وسيلة يكسب بها من أخيه، أو يخدعه ليأخذ ما معه من المال، فالطمع الذي في القلوب كثيرين من الناس جعل الواحد ينظر إلى الثاني ويحاول أن يأخذ ما معه من مال، فتجده يقول لأخيه: أعطني مالك أشغله لك، وليس همه أن يكثر هذا المال الذي مع أخيه، وإنما همه أن يكسب لنفسه، وفي النهاية تجده يقول: المال خسر، وليس لي حيلة .. ونحو ذلك.
هذه هي أحوال المسلمين الآن، فلذلك المسلم يجب أن يعرف أن عليه واجبات يفعلها، وأن له حقوقاً يأخذها، أما أن تعرف حقوقك لكي تأخذها، ثم لا تؤدي الواجبات التي عليك فتكون بذلك قد تركت شيئاً من دين الله سبحانه، بل شيئاً عظيماً منه.
فالمسلم لا يظلم المسلم، ولا يحقر المسلم، لا تدري هذا الذي تحقره ما رتبته عند الله، فلا تنظر إلى الإنسان أنه كبير في المقام، وأنه كبير في الشغل، وأنه رئيس مجلس إدارة، فلا تجعل التعظيم بالرتبة والمقام، بل لابد أن تكون نظرتك للإنسان على أنه مسلم، والمسلم حقه أن توقره، وأنك تكون معه، وأن تحترمه غنياً كان أو فقيراً، ولعل الفقير أولى بأن تحترمه من الغني؛ لأنه مقدم على الغني يوم القيامة؛ لأنه أحب إلى الله عز وجل من الغني، فهو يسبق الغني بنصف يوم، ولذلك الصحابة كانوا يحبون الفقراء، وعبد الله بن عمر كان لا يأكل إلا بعد أن يبحث عن فقير يأكل معه.
ولن تكون مثل عبد الله بن عمر، ولكن على الأقل احترم الإنسان لكونه إنساناً، لكونه مسلماً، تحترم فيه إسلامه، تحترم فيه رأيه، فبين المسلمين التواضع وبينهم المشورة، ألا يظلمه، ولا يحقره، ولا يخذله، يعني: لا يقول له: أنا معك، ثم يخذله، ولا يقول: أنا سآتي أشهد معك، ويوم المحكمة يتركه ويمشي ويقول: لا أعرفك.
فهنا المسلم يكون مع المسلم في وقت شدته أكثر من وقت رخائه، أنا أنفعك الآن فننتفع سوياً في قبورنا ويوم القيامة، يقول لنا النبي صلى الله عليه وسلم: (بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم)، لا تحتقر أحداً من المسلمين، فلا تدري فلعل إعجابك بنفسك وتحقيرك لغيرك يحرمك من نعم أنت تحبها، فلا تنظر لإنسان وتزدريه لأن ثيابه مقطعة ومرقعة، فإنك لا تعرف ماذا يعمل فيك ربنا يوماً من الأيام، فتواضع لله عز وجل، وانظر إلى المسلمين على أن الكل إخوة لك، الكل تحبهم في الله سبحانه وتعالى، حافظ على نفسك، وحافظ على غيرك، واعلم أنه من لم يكن يرحم الناس في الدنيا لا يرحمه الله عز وجل يوم القيامة.
نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر