عن ابن عمر رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدخل مكة من الثنية العليا، ويخرج من الثنية السفلى) متفق عليه.
وقال نافع : كان ابن عمر إذا دخل أدنى الحرم أمسك عن التلبية، ثم يبيت بذي طوى، ثم يصلي به الصبح ويغتسل، ويحدث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك).
ويستحب الغسل لدخول المحرم مكة، فإن عجز عن الغسل تيمم.
ويستحب إذا وصل الحرم أن يستحضر في قلبه ما أمكنه من الخشوع والخضوع بظاهره وباطنه، ويتذكر جلالة الحرم ومزيته على غيره.
وله دخول مكة ليلاً ونهاراً، ولا كراهة في واحد منهما، ودخولها نهاراً أفضل؛ لحديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: (بات النبي صلى الله عليه وسلم بذي طوى حتى أصبح، ثم دخل مكة) وكان ابن عمر يفعله.
وينبغي أن يتحفظ في دخوله من إيذاء الناس في الزحمة، ويتلطف بمن يزاحمه، ويلحظ بقلبه جلالة البقعة التي هو فيها، والكعبة التي هو متوجه إليها، ويمهد عذر من زاحمه.
فإذا رأى البيت استحب أن يرفع يديه ويقول: اللهم أنت السلام ومنك السلام فحينا ربنا بالسلام؛ لما روي: أن عمر كان إذا نظر إلى البيت قال ذلك. رواه البيهقي بسند حسن.
ويدعو بما أحب من مهمات الدين والدنيا والآخرة، وأهمها سؤال المغفرة، وإن شاء قال: (اللهم زد هذا البيت تشريفاً وتكريماً وتعظيماً، وزد من شرفه وكرمه ممن حجه أو اعتمره تشريفاً وتكريماً وتعظيماً وبراً)، ولم يثبت ذلك مرفوعاً عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ويستحب للمحرم أن يدخل المسجد الحرام من باب بني شيبة، ولا فرق بين أن يكون في صوب طريقه أم لا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم عدل إلى باب بني شيبة ولم يكن على طريقه.
ويقول الأذكار المشروعة، فمنها أنه عند توجهه إلى المسجد يقول: (اللهم اجعل في قلبي نوراً وفي لساني نوراً، واجعل في سمعي نوراً، واجعل في بصري نوراً، واجعل من خلفي نوراً ومن أمامي نوراً، واجعل من فوقي نوراً ومن تحتي نوراً، اللهم أعطني نوراً).
فإذا أراد الدخول فيستحب أن يقدم في دخوله المسجد رجله اليمنى ويقول: (أعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم وسلطانه القديم من الشيطان الرجيم، باسم الله، والصلاة والسلام على رسول الله، اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك).
وعند خروجه يستحب أن يقدم في خروجه رجله اليسرى ويقول: (باسم الله، والصلاة والسلام على رسول الله، اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب فضلك، اللهم اعصمني من الشيطان الرجيم).
فإذا دخل المسجد فلا يشتغل بصلاة تحية المسجد ولا غيرها، بل يبدأ بالطواف؛ لحديث عائشة : (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أول شيء بدأ به حين قدم مكة أنه توضأ ثم طاف بالبيت) متفق عليه.
وينبغي له أن يستحضر عند رؤية الكعبة ما أمكنه من الخشوع والتذلل والخضوع والمهابة والإجلال، فهذه عادة الصالحين وعباد الله العارفين؛ لأن رؤية البيت تشوق إلى رب البيت.
ثم يقصد الحجر الأسود، ويبدأ بطواف العمرة، والابتداء بالطواف مستحب لكل داخل، سواء كان محرماًً أو غير محرم، إلا إذا خاف فوت الصلاة المكتوبة أو سنة راتبة أو مؤكدة أو فوت الجماعة في المكتوبة أو كان عليه فائتة مكتوبة، فإنه يقدم كل هذا على الطواف ثم يطوف، ولو دخل وقد منع الناس من الطواف صلى تحية المسجد.
واعلم أن العمرة ليس فيها طواف قدوم، وإنما فيها طواف واحد يقال له: طواف الفرض أو طواف الركن، والمحرم بالعمرة لا يتصور في حقه طواف القدوم، بل إذا طاف للعمرة أجزأه عنهما، ويتضمن القدوم، كما تجزئ الصلاة المفروضة عن الفرض وتحية المسجد.
ومما تعم به البلوى في الطواف ملامسة النساء بسبب الزحمة، فينبغي للرجل ألا يزاحمهن، وينبغي لهن ألا يزاحمن، بل يطفن من وراء الرجال.
وستر العورة شرط لصحة الطواف؛ لما روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن
أما نية الطواف: فإن كان الطواف في غير حج ولا عمرة لم يصح بغير نية بلا خلاف، كسائر العبادات من الصلاة والصوم ونحو ذلك، وإن كان في حج أو عمرة فينبغي أن ينوي الطواف، فإن طاف بلا نية صح؛ لأن نية الحج ونية العمرة تأتي على ذلك، كما تأتي على الوقوف بعرفة.
وفيه أحاديث، منها: ما رواه أبو داود عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه اعتمروا من الجعرانة فرملوا بالبيت، فجعلوا أرديتهم تحت آباطهم، ثم قذفوها على عواتقهم اليسرى).
وروى أبو داود أيضاً عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة وقد وهنتهم حمى يثرب، فقال المشركون: إنه يقدم عليكم قوم قد وهنتهم الحمى ولقوا منها شراً، وأطلع الله سبحانه وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم على ما قالوه، فأمرهم أن يرملوا الأشواط الثلاثة، وأن يمشوا بين ركنين، فلما رأوهم رملوا قالوا: هؤلاء الذين ذكرتم أن الحمى قد وهنتهم، هؤلاء أجلد منا).
قال ابن عباس : (ولم يأمرهم أن يرملوا الأشواط كلها إلا إبقاءً عليهم).
وعن يعلى بن أمية رضي الله عنه قال: (طاف النبي صلى الله عليه وسلم مضطبعاً ببرد أخضر).
ويسن الاضطباع للرجل والصبي في طواف العمرة، وفي طواف القدوم بالحج، سواء سعى بعده أم لا، ويسن معه الرمل، لكن يفترق الرمل والاضطباع في شيء واحد، وهو: أن الاضطباع مسنون في جميع الطوفات السبع، وأما الرمل فإنما يسن في الثلاث الأول ويمشي في الأربع الأواخر.
ولا يسن الاضطباع في السعي ولا في ركعتي الطواف؛ لأن صورة الاضطباع مكروهة في الصلاة؛ لما روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يصل أحدكم في الثوب الواحد ليس على عاتقيه شيء) متفق عليه.
ورواه النسائي بلفظ: (لا يصلين أحدكم في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء).
ولو ترك الاضطباع في بعض الطواف أتى به فيما بقي.
وروى مسلم عن جابر قال: (خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، حتى إذا أتينا البيت معه استلم الركن فرمل ثلاثاً ومشى أربعاً، ثم نفر إلى مقام إبراهيم فقرأ: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [البقرة:125] ).
ولو بقي من السبع شيء لزمه أن يأتي به، ولو شك في عدد الطواف أو السعي لزمه الأخذ بالأقل.
ويستحب أن يستقبل الحجر الأسود بوجهه ويدنو منه، بشرط ألا يؤذي أحداً بالمزاحمة، فيستلمه، ثم يقبله من غير صوت، ويسجد عليه، ثم يبتدئ الطواف، ويقطع التلبية في الطواف، ويضطبع مع دخوله في الطواف، فإن اضطبع قبله بقليل فلا بأس.
والاضطباع: أن يجعل وسط ردائه تحت منكبه الأيمن عند إبطه، ويطرح طرفيه على منكبه الأيسر، ويكون منكبه الأيمن مكشوفاً، فيستقبل الحجر الأسود وينوي الطواف لله تعالى، ثم يمشي إلى جهة يمينه حتى يجاوز الحجر، فإذا جاوزه جعل يساره إلى البيت ويمينه إلى خارج، ولو فعل هذا من الأول وترك استقبال الحجر جاز، لكنه فاتته الفضيلة، ثم يمشي هكذا تلقاء وجهه طائفاً حول البيت كله، فيمر على الملتزم، وهو ما بين الركن الذي فيه الحجر الأسود والباب، ثم يمر إلى الركن الثاني بعد الأسود، ثم يمر وراء الحجر وهو في صوب الشام والمغرب فيمشي حوله حتى ينتهي إلى الركن الثالث، ويقال لهذا الركن مع الذي قبله: الركنان الشاميان، ثم يدور حول الكعبة حتى ينتهي إلى الركن الرابع المسمى بالركن اليماني فيمسحه بيده، ثم يمر منه إلى الحجر الأسود ويصل إلى الموضع الذي بدأ منه، فيكمل له حينئذٍ طوفة واحدة، ثم يطوف كذلك ثانية وثالثة حتى يكمل سبع طوفات، فكل مرة من الحجر الأسود إليه طوفة، والسبع طواف كامل.
فجب ابتداء الطواف من الحجر الأسود؛ لما روى البخاري ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنه قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين يقدم مكة إذا استلم الركن الأسود أول ما يطوف يخب -أي: يسرع- ثلاثة أطواف من السبع)، فإن ابتدأ من غير الحجر الأسود لم يعتد بما فعل حتى يصل الحجر الأسود، فإذا وصل كان ذلك أول طوافه.
ويستحب أن يستقبل الحجر الأسود في أول طوافه بوجهه ويدنو منه، بشرط: ألا يؤذي أحداً، ثم يمشي مستقبل الحجر الأسود ماراً إلى جهة يمينه حتى يجاوز الحجر، كما مضى.
وينبغي له في طوافه أن يجعل البيت على يساره.
وإذا كان الصغير محرماً؛ فإن كان مميزاً طاف بنفسه وصلى ركعتين، وإن كان غير مميز طاف به وليه وصلى الولي ركعتي الطواف، ويستحب أن يدعو عقب صلاته هذه خلف المقام بما أحب من أمور الدنيا والآخرة، وإذا فرغ من الصلاة استحب أن يعود إلى الحجر الأسود فيستلمه، ثم يخرج من باب الصفا للسعي.
وجاء عن ابن عمر ، وابن عباس ، والحسن والحسين ابني علي ، وابن الزبير ، وطاوس ، وعطاء ، والقاسم بن محمد ، وعروة ، ومجاهد ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبي ثور رضي الله عن الجميع، جاء عنهم جوازها -أي: ركعتي الطواف- في جميع الأوقات بلا كراهية، وحجتهم في ذلك: ما رواه الترمذي عن جبير بن مطعم رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا بني عبد مناف! لا تمنعوا أحداً طاف بهذا البيت وصلى أية ساعة شاء من ليل أو نهار).
قال الترمذي : وقد اختلف أهل العلم في الصلاة بعد العصر وبعد الصبح بمكة، فقال بعضهم: لا بأس بالصلاة والطواف بعد العصر وبعد الصبح، وهو قول الشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، وقال بعضهم: إذا طاف بعد العصر فلا يصلي حتى تغرب الشمس، وإن طاف بعد صلاة الصبح فلا يصلي حتى تطلع الشمس، واحتجوا بحديث عمر : أنه طاف بعد صلاة الصبح فلم يصل، وخرج من مكة حتى نزل بذي طوى فصلى بعدما طلعت الشمس، وهو قول سفيان الثوري ، ومالك بن أنس.
ولا يلبي على الصفا، ثم يعيد هذا الذكر ثانياً: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ثم يدعو، ثم يعيد الذكر ثالثاً، ثم يدعو.
فإذا فرغ من الذكر والدعاء نزل من الصفا متوجهاً إلى المروة فيمشي على سجية مشيه المعتاد حتى يبقى بينه وبين الميل الأخضر -المعلق بركن المسجد على يساره- قدر ستة أذرع، ثم يسعى سعياً سريعاً حتى يتوسط بين الميلين الأخضرين والذي أحدهما في ركن المسجد والآخر متصل بدار العباس رضي الله عنه، ثم يترك السعي بسرعة ويمشي على عادته حتى يأتي المروة فيصعد عليها حتى يظهر له البيت إن ظهر، فيأتي بالذكر: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ثم يدعو ويفعل كما فعل على الصفا، وهكذا يعود إلى الصفا ويرجع إلى المروة حتى يكمل سبع مرات؛ يبدأ بالصفا ويختم بالمروة، ويستحب أن يدعو بين الصفا والمروة في مشيه وسعيه، ويستحب قراءة القرآن فيه، وهذه هي صفة السعي.
والواجب الثاني: الترتيب، وهو أن يبدأ من الصفا، فإن بدأ بالمروة لم يحسب مروره منها إلى الصفا.
الواجب الثالث: إكمال سبع مرات؛ يحسب الذهاب من الصفا إلى المروة مرة، والرجوع من المروة إلى الصفا مرة ثانية وهكذا، ولو سعى أو طاف وشك في العدد قبل الفراغ لزمه الأخذ بالأقل.
والواجب الرابع: كون السعي بعد طواف صحيح لمن يذكره، وأما من لم يشعر فبدأ بالسعي فلا حرج عليه، ولو سعى ثم تيقن أنه ترك شيئاً من الطواف لزمه أن يأتي ببقية الطواف.
والموالاة بين مراتب السعي سنة، فلو تخلل فصل يسير أو طويل بينهن لم يضر، وكذلك الموالاة بين الطواف والسعي سنة، فلو فرق بينهما تفريقاً قليلاً أو كثيراً صح سعيه.
الثانية: يستحب أن يسعى على طهارة من الحدث والنجس ساتراً عورته.
الثالثة: الأفضل أن يتحرى زمان الخلوة بسعيه وطوافه، وإذا كثرت الزحمة فينبغي أن يتجنب إيذاء الناس وأن يترك أي هيئة من الهيئات التي قد تؤدي إلى إيذاء مسلم، أو تعريض نفسه للأذى، وإذا عجز عن السعي في موضعه للزحمة؛ تشبه في حركته بالساعي.
الرابعة: أن يكون سعيه بنفسه إن لم يكن صغيراً ولا معذوراً بمرض ونحوه، ولو سُعي به غير محمول جاز.
الخامسة: أن يكون الخروج إلى السعي من باب الصفا.
السادسة: أن يرقى على الصفا وعلى المروة ولو قليلاً.
السابعة: الذكر والدعاء على الصفا والمروة -كما سبق بيانه- ويستحب أن يقول في مروره بينهما: رب اغفر وارحم وتجاوز عما تعلم، وأنت الأعز الأكرم، فقد ثبت ذلك موقوفاً على ابن مسعود وابن عمر من قولهما رضي الله عنهما، ويقول: (ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار)، ويستحب أن يقرأ القرآن.
الثامنة: يستحب أن يكون سعيه في موضع السعي الذي سبق بيانه سعياً شديداً فوق الرمل، والسعي مستحب في كل مرة من السبع، بخلاف الرمل في الطواف فإنه مختص بالثلاث الأول، وكما أن السعي الشديد في موضعه سنة فكذلك المشي على عادته في باقي المسافة سنة، فلو سعى في جميع المسافة أو مشى في جميعها صح، وفاتته الفضيلة.
وأما المرأة فتمشي جميع المسافة -سواء كان ذلك نهاراً أو ليلاً- في الخلوة؛ لأنها عورة وأمرها مبني على الستر، ولهذا لا ترمل في الطواف ولا يسن لها الإسراع في السعي.
والسنة أن يحلق جميع الرأس، فإن لم يكن على رأسه شعر بأن كان محلوقاً أو كان أصلع فلا يلزمه فدية؛ لأنه قربة تتعلق بمحل فسقطت بفواته، ويستحب إمرار الموس على رأسه ولا يجب، نقل ابن المنذر إجماع العلماء على أن الأصلع يمرر الموس على رأسه، ولو نبت شعره بعد ذلك لم يلزمه حلق ولا تقصير بلا خلاف؛ لأنه ما وجد وقتاً.
أما المرأة فتقصر ولا تحلق؛ لما روى أبو داود عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس على النساء حلق إنما على النساء التقصير)، وأجمع العلماء على ذلك، والحلق بدعة في حقهن، بل وفيه مثلة كذلك، وأما قدر ما تقصره فقال ابن عمر والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور : تقصر من كل قرن مثل الأنملة، أي: رأس الإصبع، وقال مالك: تأخذ من جميع قرونها أقل جزء، ولا يجوز من بعض القرون.
ويستحب في الحلق أن يبدأ بالشق الأيمن من رأس المحلوق له وإن كان على يسار الحالق.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر