قال الله عز وجل في سورة غافر: إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ * يَوْمَ لا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ * وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ * هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الأَلْبَابِ * فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ [غافر:51-55].
يخبر الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات أنه ينصر رسله سبحانه وتعالى وينصر المؤمنين في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد، ونصر الله سبحانه وتعالى أكيد لأنبيائه ورسله وللمؤمنين الذين ينصرون دين الله سبحانه، إلا أن الله عز وجل ذكر أنه ينصر أولياءه في الدنيا وفي الآخرة، ونصره لهم في الآخرة لابد وأن يكون؛ ففي يوم القيامة ينتقم الله من الظالم وينصر المظلوم، أما في الدنيا فقد يظلم الإنسان الظالم ولا يعاجل بالعقوبة، بل يظل حتى يقبضه الله سبحانه وتعالى على ظلمه، فأخذ الله عز وجل له على هذا الحال أخذ عزيز منتقم مقتدر سبحانه تبارك وتعالى، وقد جاء في الحديث: (إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته) فنصر الله عز وجل للمظلوم إما أن يسلطه على من ظلمه فيكون في ذلك نصره، وإما أن يملي لهذا الظالم حتى يجعله عبرة للناس إذا كسره وقصمه.
ويجاب: بأن نصر الله سبحانه وتعالى إما بأن ينصر أنبياءه ورسله في حال حياتهم، كما فعل ببعض منهم، أو أن ينصرهم بمعنى: ينتصر وينتقم ممن ظلمهم، حتى ولو مات هؤلاء، فلما قتل يحيى على نبينا وعليه الصلاة والسلام سلط الله عز وجل على القوم الذين قتلوه بختنصر وهو كافر، فلم يزل يقتل منهم الألوف بدم يحيى بن زكريا على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فهذا نصر من الله عز وجل لنبي ورسول من رسله عليهم الصلاة والسلام.
واليهود لما سعوا بالمسيح عليه الصلاة والسلام ليقتل، وذهب إليه الأمير ليأخذه هو ومن معه لينفذ فيه حكم الملك اللبناني بالقتل؛ فإذا بالله يرفع المسيح عليه الصلاة والسلام، فكان نصره من الله عز وجل بأن رفعه، ثم سلط على هؤلاء -هذا الملك ومن معه- اليهود، فأذلوهم وأذاقوهم الأمرين بعد ما فعلوا فعلتهم مع المسيح عليه الصلاة والسلام وأرادوا قتله، فنصره الله بأن نجاه ورفعه، ثم سلط اليهود على هذا الملك، ثم قبل قيام الساعة ينزل المسيح على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فيسلطه الله عز وجل على اليهود، فلا يبقى على الأرض يهودي، ولا يبقى نصراني، ولا يكون إلا الإسلام، فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن من علامات الساعة أن يخرج المسيح الدجال وأكثر من يتبعه اليهود عليهم الطيالسة لعنة الله عليهم، فينزل المسيح عيسى بن مريم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فإذا رآه المسيح الدجال ذاب كما يذوب الثلج، فيهرب من المسيح عيسى بن مريم، فيقول له المسيح: إن لك عندي ضربة لن تخطئها، ثم يتبعه فيقتله صلوات الله وسلامه عليه، وحينها يقتل المسلمون اليهود، وتشهد الأحجار والجمادات على اليهود، حتى يقول الحجر والشجر للمسلمين: يا مسلم! إن ورائي يهودياً تعال فاقتله، ويضع المسيح عليه الصلاة والسلام الجزية فلا يقبل إلا الإسلام، أي: لا يقبل من أحد ديناً غير الإسلام، وحتى لو دفع الجزية كما كانوا يفعلون مع النبي صلى الله عليه وسلم، فيقبل منهم ويظلون على أديانهم، كما أنه إذا نزل المسيح بن مريم حكم بالإسلام، أي: بهذا القرآن العظيم، ولم يقبل الجزية وإنما يضعها، ويكسر الصليب، ويقتل الخنزير، وهذا هو نصر الله عز وجل لنبيه ورسوله المسيح عليه الصلاة والسلام في الدنيا.
فحتى ولو كان من هؤلاء الأنبياء من أخذه الله فرفعه كالمسيح، أو كان منهم من قتل وذاق القتل والهلاك في الدنيا كـيحيى وزكريا فالله عز وجل ينتقم لهم وينتصر لهم سبحانه وتعالى، هذا جواب.
وهناك جواب آخر لما تقدم حول قوله تعالى: إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [غافر:51]، وهو أن هذا من العموم الذي يراد به الخصوص أو العام المخصوص، والمقصود منه: أنا لننصر بعض رسلنا في الحياة الدنيا وننصر جميعهم يوم يقوم الأشهاد، وكذلك ننصر المؤمنين من عبادنا، إذ الآية وعد من الله سبحانه أن ينصرهم، ولكن لم يقل: إنه ينصرهم فرداً فرداً، ولكن ينصر دينه بما يشاء سبحانه وتعالى بما يتحقق من شروط النصر إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:7].
وبمعنى حديث الترمذي ما روى الإمام أبو داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من حمى مؤمناً من منافق يغتابه بعث الله عز وجل يوم القيامة ملكاً يحميه من النار، ومن ذكر مسلماً بشيء يشينه به وقفه الله عز وجل على جسر من جهنم حتى يخرج من مقاله)، والحديث حسنه الشيخ الألباني، وقوله: (من حمى مؤمناً) أي: من دافع عن إنسان مؤمن من إنسان يذكره بسوء، وقوله: (من منافق) وصف صاحب الغيبة بالنفاق، كما وصف الإنسان الذي يدافع عنه بأنه يحمي أخاه ويمنع عنه هذه الغيبة من مثل هذا المنافق.
قوله: (بعث الله عز وجل يوم القيامة ملكاً يحميه من النار)، أي: يدفع عنه نار جهنم يوم القيامة في مروره على الصراط حتى ينجيه الله سبحانه وتعالى، قوله: (ومن ذكر مسلماً بشيء يشينه)، أي: من يتكلم عن مسلم بكلام يسوءه، كأن يريد أن يضره، وقوله (يشينه) بمعنى: أنه يقبحه ويذكر فيه فعالاً ويفضحه عند الناس، ومن فعل ذلك وهو كاذب فيما يقول وقفه الله عز وجل على جسر جهنم حتى يخرج من مقاله، وهذا من نصر الله عز وجل لعباده المؤمنين؛ ولذا ينبغي أن يحذر المرء أن يقع في غيبة المؤمنين أو غيرهم، أو يقع في أعراضهم، وكيف لا يحذر وقد علم أن الجزاء أن يحبسه الله عز وجل على جسر جهنم تلفحه النار ويقال له: اخرج مما قلت، وفي الدنيا قد يخرج الإنسان مما يقول بأن يكذب نفسه ويقول: أنا كذاب، لقد كذبت في هذا الشيء، ويعتذر لمن اغتابه أو طعن في عرضه حتى يقبل منه، وذلك في الدنيا، أما يوم القيامة فلا يقول: أنا كذاب، فقد فضحه الله عز وجل، وإنما يوبخ بأن يقال له: اخرج مما قلته، وهو لا يدري كيف يخرج مما قال.
وقد جاء في الأثر أن الله عز وجل يدخل رجلاً في النار قد كذب في الدنيا وادعى أنه رأى رؤيا مع أنه كاذب فيها ويقول له: تريد أن تخرج اعقد شعيرتين، أي: خذ شعيرتين واربطهما وحين تربطهما نخرجك من النار، وهذا تعجيز لهذا الإنسان، حيث يظل في النار ولا يخرج منها إلا أن يشاء الله سبحانه.
ومثله ما ورد في الحديث المتقدم أن الإنسان يوقف على جسر جهنم ويقال له: اخرج مما قلت، وخروجه أن يخبر الناس أنه كان كذاباً، ومعلوم أن المؤمن لن ينتفع بما يقول عن نفسه: أنا كنت كذاباً، وإنما الغرض من ذلك: تحقير هذا الإنسان وتوبيخه وتعجيزه في هذا الموقف، ويظل كذلك حتى يأذن الله فتوخذ من حسنات المغتاب إن كان له حسنات بقدر مظلمة من اغتابه وتوضع في حسنات من اغتابه، فإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئاتهم فطرحت عليه ثم طرح في النار.
وليس المعنى: أن حافظ القرآن قد حاز الهدى والنور بحفظه له من دون الإكثار من تلاوته والعمل به، فإنه لم ينتفع اليهود بالتوراة وقد حملوها فكانوا كالحمار يحمل أسفاراً، ومما يبين عدم استفادتهم من الهدى والنور الذي في التوراة: ما عُلِم أن كل نبي قد حذر قومه من المسيح الدجال، وكان اليهود ممن حذروا منه، ومع ذلك فإن أكثر أتباعه اليهود، فهل نفعتهم التوراة؟ وهل نفعهم تحذير موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام؟ فالغرض الموعظة للمؤمنين، قال تعالى مخاطباً اليهود: خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ [البقرة:63]، فلم يأخذوا ولم يعملوا، وقيل ذلك للمؤمنين حيث أمروا أن يتمسكوا بكتاب الله سبحانه، قال النبي صلى الله عليه وسلم (تركت فيكم ما إن تمسكتم به دخلتم الجنة) وفي رواية: (تركت فيكم الثقلين إذا تمسكتم بهما فلن تظلوا بعدي أبداً: كتاب الله سبحانه وتعالى فيه الهدى والنور...)، فقد ترك النبي صلى الله عليه وسلم لنا ما إن تمسكنا به لن نضل بعده أبداً وهو كتاب الله سبحانه؛ إذ إن كتاب الله الذي جاء من عند الله فيه الهدى وفيه النور، وكأن الله يذكرنا أنه آتى بني إسرائيل الهدى والتوراة فيها هدى ونور فلم ينتفعوا بها، فاحذروا أن تكونوا مثلهم، فقد استحقوا أن يلعنهم الله وأن تلعنهم أنبياء الله، قال تعالى: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [المائدة:78-79]، فإنهم لما جاءتهم التوراة تنهاهم عن المنكر وتأمرهم بالمعروف، عكسوا الأمر فعبدوا غير الله ولم يتناهوا عن المنكر، فاستحقوا لعنة الله.
فلذلك عندما يذكر الله عز وجل أن يوم القيامة لا ينفع الظالمين معذرتهم، يراد بالظالمين اليهود الذين لم ينتفعوا بالتوراة، إذ لم ينتفع منهم إلا القليل، وقوله تعالى: وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ [غافر:53]، أورثناهم، أي: جعلنا فيهم التوراة، ومعلوم أن ميراث الأنبياء هي الكتب السماوية التي تنزل من عند الله سبحانه وتعالى، وقد ذكر النبي صلوات الله وسلامه عليه ذلك فقال: (إن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً وإنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر)، قوله: (إن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً)، أي: أن ما يتركونه صدقة، فإذا مات النبي جمع المال الذي يتركه وتصدق به، وإنما الميراث الحقيقي للأنبياء هو هذا القرآن العظيم، فهو العلم الذي جاءوا به من عند الله، فقوله: (وَأَوْرَثْنَا) أي: جعلنا إرث النبي فيهم هذا الكتاب، وهو التوراة.
وقوله تعالى: (هُدًى) أي: يدلهم على الطريق، (وَذِكْرَى) أي: موعظة وتذكير، (لِأُولِي الأَلْبَابِ) أي: ليست لكل الناس، ولكن لمن كان له قلب يعقل آيات الله وينظر ويعتبر بها.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر