إسلام ويب

تفسير سورة الزمر [67 - 70]للشيخ : أحمد حطيبة

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن الأرض بعظمتها والسماوات بسعتها كلها في قبضة الله تعالى، يدبر أمرها ويسيرها كما يشاء، وإذا كان ذلك في الأرض والسماوات فكيف بالإنسان الضعيف الصغير أمام عظمة الكون، ولذلك فإن ما نراه من عظمة الكون سيأتي يوم يكون الكون كله هباءً منثوراً، وذلك حين ينفخ في الصور نفختين، نفخة الموت ونفخة البعث، وحينها تتبدل السماوات والأرض، ويقف الناس للفصل والحساب، عليهم شهود من الملائكة والأنبياء وصالحي هذه الأمة، فما أعظم فزع ذلك اليوم!

    1.   

    علامات الساعة

    الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

    اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.

    قال الله عز وجل في سورة الزمر: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ [الزمر:67-68].

    في هذه الآيات من آخر سورة الزمر يخبرنا الله سبحانه تبارك وتعالى عن أحداث يوم القيامة، من النفخ في الصور والبعث من القبور، ومن سوق الناس إما إلى الجنة وإما إلى النار، ويقول تعالى: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [الزمر:67]، ففيها بيان لقوة الله وقدرة الله سبحانه تبارك وتعالى، وضعف الإنسان بل وضعف جميع المخلوقات التي خلقها الله عز وجل.

    قال تعالى: أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا [النازعات:27-28] أي: فهذه السماوات السبع التي أخبر الله أنها أشد خلقاً منكم، ومع ذلك فهي مطويات بيمينه سبحانه تبارك وتعالى، وهذه الأرض التي يسير عليها الإنسان، ويظن أنه كبير على خلق الله، وأنه قوي، فإن الله سبحانه تبارك وتعالى يقول: إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا [الإسراء:37].

    أي: فالأرض أعظم منك وأقوى منك، فلو ضربت الأرض بقدمك ما استطعت أن تخرقها، ولو تساميت في نفسك ما بلغت الجبال طولاً، فاعرف قدرك، واقدر ربك حق قدره، فالأرض هذه التي هي أقوى منك هي في قبضة الله عز وجل يوم القيامة، فكيف بك؟

    والسماوات التي هي أشد منك يطويها الله سبحانه تبارك وتعالى يوم القيامة، فلا تتكبر على خالقك وارجع إليه، وتب إلى الله سبحانه، واذكر يوم القيامة وما يكون فيه من نفخ في الصور، إذ ينفخ إسرافيل، وهو الملك الذي وكله الله سبحانه بذلك، فيصبح الأمر كما قال تعالى: فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ [الزمر:68].

    وتكون في ذلك اليوم نفختان نفخة يصعق الله عز وجل فيه خلقه إلا من استثناهم الله سبحانه وتعالى على ما قدمنا في الحديث السابق، ونفخة أخرى ينشرون ويقومون من قبورهم، ويعادون كما كانوا عليه ويرجعون مرة ثانية، أما في النفخة الأولى فصعق من في السماوات ومن في الأرض، فإذا بكل مخلوق مات.

    من علامات الساعة هدم الكعبة

    جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث طويل رواه الإمام مسلم ورواه الإمام أحمد من حديث يعقوب بن عاصم بن عروة بن مسعود الثقفي قال: سمعت عبد الله بن عمرو وقد جاءه رجل فقال: ما هذا الحديث الذي تحدثه؟ تقول: إن الساعة تقوم إلى كذا وكذا...، أحياناً قد يذكر الإنسان حديثاً، والذي يسمعه يروي هذا الحديث ولا يتقن ما سمعه، فيزيد في الحديث شيئاً لم يقله راوي الحديث، فـعبد الله بن عمرو روى حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم، فسمعه بعض الناس، فزادوا فيه وقالوا: إنه يخبر أن الساعة تقوم بعد كذا وكذا من السنين! وكذبوا فيما قالوه، فذهب رجل إلى عبد الله بن عمرو رضي الله عنه، وقال له: ما هذا الذي تقوله؟ فقال: سبحان الله أو قال: لا إله إلا الله! لقد هممت أن لا أحدث أحداً شيئاً أبداً.

    يعني: قد وصل الأمر بكم إلى أن تفتروا علي بالكذب في الحديث على النبي صلى الله عليه وسلم، إني قد هممت أن لا أحدث أحداً شيئاً أبداً، إنما قلت: إنكم سترون بعد قليل أمراً عظيماً، يعني: سيكون من أمر الله عز وجل أشياء عظيمة من علامات الساعة، وإنكم بعد قليل سترون أمراً عظيماً يحرق البيت، ويكون، ويكون، ثم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر هذا الحديث.

    ومن علامات الساعة أن ذا السويقتين يهدم الكعبة التي نطوف حولها، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (دعوا الحبشة ما ودعوكم، فإنما يهدم الكعبة ذو السويقتين من الحبشة وكأني أراه أصيلع أفيدع).

    يذكر النبي صلى الله عليه وسلم من حاله أنه إنسان من الحبشة، وأن رجليه معوجتان وكأنه يراه يهدمها حجراً حجراً، فيخبر أنها إذا هدمت لم تبن مرة ثانية، وهذه من علامات الساعة التي تكون في آخر الزمان، فحدث عبد الله بن عمرو بذلك، ولم يقل: إن الساعة ستقوم غداً أو بعده، ولكنه قال: إن الساعة من علاماتها أن يحدث كذا وكذا.

    فتنة المسيح الدجال وما يحصل فيها

    ومن علامات الساعة خروج الدجال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يخرج الدجال فيمكث أربعين قال الراوي: لا أدري أربعين يوماً، أو أربعين شهراً، أو أربعين عاماً)، وهذه من العلامات الكبرى للساعة وسمي مسيحاً؛ لكون عينه ممسوحة لا يبصر بها، وعينه الأخرى ناتئة كأنها عنبة، فالنبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن هذا اسمه: (المسيح الدجال ).

    وأما المسيح عيسى بن مريم على نبينا وعليه الصلاة والسلام فهو نبي من أولي العزم من الرسل، وقد جعل الله عز وجل له معجزة من المعجزات وهي أنه يحيي الموتى ويبرئ الأكمه، فـالمسيح الدجال يريد أن يتشبه به فيقول: أنا أحيي الموتى ويقتل إنساناً ثم يحييه ولا يسلط على غيره، بل شخص واحد فقط هو الذي يقدر أن يفعل معه ذلك.

    فكأنه يشبه نفسه بالمسيح عيسى بن مريم على نبينا وعليه الصلاة والسلام عندما أحيا الله عز وجل له الموتى، ولكن المسيح قال: وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ [آل عمران:49]، وأما الدجال فيقول: أنا الذي أحييه، ويقول: أنا ربكم، ويطلب منهم أن يعبدوه من دون الله سبحانه تبارك وتعالى!

    يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن المسيح الدجال يمكث في الأرض أربعين)، وراوي الحديث يقول: لا أدري يوماً أو شهراً أو عاماً (فيبعث الله عيسى بن مريم على نبينا وعليه الصلاة والسلام كأنه عروة بن مسعود فيطلبه فيهلكه) يعني: يأتي المسيح عيسى بن مريم عندما ينزل من السماء، فيطلب المسيح الدجال ويقتله كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم.

    قال: (ثم يمكث الناس سبع سنين ليس بين اثنين عداوة)، يعني: ينزل المسيح، فيحكم بهذا القرآن العظيم، ويمكث الناس على دين الله سبحانه تبارك وتعالى، مسلمون ليسوا نصارى ولا يهوداً ويقتل الخنزير، وتوضع الجزية؛ لأنه لا يبقى أحد يقبل منه الجزية.

    أي: لا يقبل منه إلا الإسلام حين ينزل المسيح على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فيخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الناس يمكثون سبع سنين ليس بين اثنين عداوة.

    قبض أرواح المؤمنين قبل قيام الساعة

    قال: (ثم يرسل الله ريحاً باردة من قبل الشام، فلا يبقى على وجه الأرض أحد في قلبه مثقال ذرة من خير إلا قبضته) أي: مثقال ذرة من خير أو إيمان إلا قبضته، فبعد مجيء المسيح على نبينا وعليه الصلاة والسلام يقبض الله عز وجل المؤمنين، ويمكث المسيح في الأرض سبع سنوات، وينشر في الأرض العدل، وبعد ذلك يقبض الله عز وجل المؤمنين، يقول: (حتى لو أن أحدكم دخل في كبد جبل لدخلت عليه حتى تقبضه) أي: تقبض هؤلاء المؤمنين.

    صفات من تقوم عليهم القيامة

    قال عبد الله بن عمرو : سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (فيبقى شرار الناس في خفة الطير وأحلام السباع)، فبعد أن يقبض الله المؤمنين، فلا يبقى على وجه الأرض إلا الأشرار.

    وأحوالهم كما يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يبقى شرار الناس في خفة الطير وأحلام السباع)، والطائر مجرد أن يأتي عليه ريح إذا به يطير ويفزع ويهرب، ومجرد ما يستشعر أن مخلوقاً آت إليه يهرب ويفزع منه.

    وكذلك هؤلاء: إن اندفاعهم إلى الشر في غاية الخفة، وفي غاية الطيش، فهذا حالهم في خفة الطير وأحلام السباع، وأي حلم يكون عند السبع؟ بل هو أول ما يرى فريسة أمامه لا يصبر عليها، بل يثب عليها مباشرة، وهؤلاء يكونون في خفة الطير في سرعة الحركة إلى الشر، وفي طمع وشراهة السباع، فهؤلاء هم الذين تقوم عليهم الساعة.

    ويقول عنهم النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يعرفون معروفاً ولا ينكرون منكراً)، وجاء أيضاً: (أنها لا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق، لا يقال فيهم الله الله)، فهم نسوا الله سبحانه تبارك وتعالى، فلا يقولون: الله! وإنما يشركون بالله سبحانه ويعبدون ما زينه لهم الشيطان.

    قال: (فيتمثل لهم الشيطان فيقول: ألا تستجيبون) أي: يتمثل الشيطان لهؤلاء الأشرار الذين تقوم عليهم الساعة، فيقول: (ألا تستجيبون؟ فيقولون: فما تأمرنا؟) أي: ماذا تريد ونحن نطيعك؟! قال: (فيأمرهم بعبادة الأوثان) أي: أنهم عادوا مرة ثانية إلى عبادة الأوثان.

    قال: (وهم في ذلك) أي: في فتنة من الله سبحانه تبارك وتعالى قال: (دار رزقهم، وحسن عيشهم) أي: فالله يملي لهم، فيترك لهم الرزق مع كونهم يشركون به، ويعطيهم منه سبحانه، ويكونون في عيشة حسنة.

    نفخة الموت والفناء

    قال: (ثم ينفخ في الصور)، يبقون على هذا الحال من حسن العيش، ومع الإساءة في العبادة لله سبحانه، فلا يعبدون الله، وإنما يشركون بالله سبحانه، فيأمر الله إسرافيل فينفخ في الصور، قال: (فلا يسمعه أحد إلا أصغى ليتاً ورفع ليتاً)، ولية الإنسان: جانب الوجه أو صفحة العنق، أي: أنه يقوم الإنسان الذي يسمع النفخ في البوق، فيتسمع كما تستمع لصوت جاء من بعيد، فتميل حتى تستمع له (يصغي ليتا) أي: يخفض جانباً من جوانب وجهه، ويرفع الجانب الآخر.

    يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (وأول من يسمعه رجل يلوط حوض إبله، فيصعق ويصعق الناس) أي: أول من يسمعه رجل ذهب إلى الحوض الذي سيسقي فيه الإبل، ويلوطه يعني: يصلحه بالطين من داخله لكي يهيئه لشرب الإبل.

    يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فيصعق) هذا الإنسان، ويصعق الناس، فهنا ذكر صورة من أحداث النفخ في الصور، وفي حديث آخر ذكر صوراً أخرى منها: أن الناس يتبايعون، ويمد البائع الثوب والمشتري يأخذه أمامه فلا ينشرانه ولا يطويانه، يقول له: خذ الثوب لكي يقيس مقداره، فلا هذا قاس، ولا هذا طوى الثوب، فإذا بالساعة قد قامت، فوقع الاثنان على هذه الحالة.

    وكذلك الإنسان يرفع الإناء إلى فمه ليشرب، فلا يرفع الإناء، لأنه سمع الصور فصعق.

    يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ثم يرسل الله أو قال: ينزل الله مطراً كأنه الطل)، إذاً: هذه كانت النفخة الأولى صعق فيها كل من في السماوات ومن في الأرض بأمر الله، فلكي يبعث الخلق مرة أخرى: (ينزل الله سبحانه مطراً كأنه الطل، فتنبت منه أجساد الناس)، ينزل مطر ثقيل من السماء، فينبت الناس كالزرع الذي ترونه، والإنسان يبلى ولا يبقى منه إلا عجب الذنب، يعني: الفقرة الأخيرة من فقار الظهر التي يكون منها ذيل الحيوان في الإنسان، وهو العصعص الأخير الذي في ظهر الإنسان، فيركب منه الخلق مرة ثانية، وكأنه بذرة الإنسان الموجودة في الأرض، وينزل المطر من السماء كما ينزل على بذور النبات، فيحييها الله عز وجل، وكذلك هذا الإنسان ينبت من ذلك ويركب من هذه الفقرة.

    نفخة البعث والنشور

    يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ثم ينفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون).

    فرجع الإنسان بنفس الهيئة والجسد، ثم ينفخ إسرافيل بأمر الله عز وجل النفخة الثانية في الصور، فيستيقظ الناس من موتهم، فيخرجون من قبورهم على حالهم الأول.

    يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ثم ينفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون، ثم يقال: يا أيها الناس! هلموا إلى ربكم)، وذلك كقوله تعالى: وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ [الصافات:24] ومعنى هلموا: تعالوا فقد جاء الله لفصل القضاء بين العباد.

    ثم يقال: (أخرجوا بعث النار)، وفي الحديث الآخر: يقال لآدم: (يا آدم! أخرج بعث النار -أي: أخرج الذين كتب الله عز وجل كتابهم في سجين- فيقول: وما بعث النار؟ فيقول: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين!)، كل هؤلاء إلى النار والعياذ بالله، وواحد إلى الجنة.

    قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فذاك يوم يجعل الولدان شيباً) أي في هذا اليوم يشيب الولدان، وهو يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض...)

    يقول الله سبحانه تبارك وتعالى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ [الزمر:68] أي: ينظرون في الموقف، (ينظرون) من النظر بالبصر، وينظر أيضاً من النظر وهو الانتظار، فهم في الحالين ينظرون متحيرين شمالاً ويميناً ينتظرون الذي سيكون وما الذي سيحدث لهم؟

    وينتظر الإنسان حينها ما الذي يحدث له، وينتظر فصل القضاء بين العباد، وينظر مندهشاً متحيراً في هذا الموقف العظيم، نسأل الله العفو والعافية.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وأشرقت الأرض بنور ربها...)

    قال الله سبحانه: وَأَشْرَقَتْ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [الزمر:69]، وأخبر الله سبحانه تبارك وتعالى في الآية الأخرى: وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا * وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ [الفجر:22-23]، وهذا في يوم القيامة، والمعنى: جاء ربك، وجاءت ملائكة الله سبحانه، كما قال تعالى: هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا [الأنعام:158].

    فإذا جاءت بعض آيات الله سبحانه مثل: خروج الدجال أو طلوع الشمس من مغربها، ففي هذه الحالة: لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا [الأنعام:158]، فيبقى الإنسان منتظراً مجيء بعض آيات الله، أو ينتظر مجيء الملائكة، أو ينتظر مجيء أمر الله ومجيء الله سبحانه تبارك وتعالى: وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [الفجر:22].

    جاء ربنا يوم القيامة كما يشاء سبحانه تبارك وتعالى يوم القيامة، فيقف الناس في هذا الموقف العظيم في عرصات القيامة ينتظرون فصل القضاء، وتنزل ملائكة كل سماء حيث يشاء الله سبحانه تبارك وتعالى، والناس في فزع وفي خوف، تحيط بهم الملائكة ويسأل الناس: أفيكم ربنا؟ فيقولون: لا، وإنه آت، وجاء ربك سبحانه تبارك وتعالى، وقام العباد لفصل القضاء فيما بينهم، قال الله سبحانه: وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا [الزمر:69] أي: جاء ربنا سبحانه تبارك وتعالى فأشرقت الأرض بنور ربها سبحانه تبارك وتعالى، والله هو نور السماوات والأرض، ومنور السماوات والأرض، (حجابه النور -سبحانه- لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه).

    ولا يحتاج الناس إلى شمس ولا إلى قمر، فقد أشرقت الأرض وأضاءت بنور الله سبحانه تبارك وتعالى. ووضعت صحف الأعمال، وإذا بها تتطاير، فمن آخذ بيمينه ومن آخذ بشماله، والكتاب أي: جنس كتب أعمال العباد، فكل إنسان يؤتى كتابه إما بيمينه وإما بشماله ومن وراء ظهره.

    معنى قوله تعالى: (ووضع الكتاب وجيء بالنبيين والشهداء)

    قال الله تعالى: وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ [الزمر:69]، جاء الأنبياء وجاء الشهداء حتى يفصل الله عز وجل بين العباد، وجيء بالنبيين، (جيء) قراءة الجمهور هكذا، وهذه الصيغة مبنية للمجهول في أصلها والمعنى: أتي بهم، ولبيان أنها مبنية للمفعول يقرؤها هشام والكسائي ورويس بإشمام الكسرة، أي: فيها ضمة (جيء)؛ لبيان أنهم أتي بهم، وليسوا هم الذين جاءوا.

    وقراءة الجمهور (بالنبيين)، وقراءة نافع: (بالنبيئين) يعني النبوءة، فالنبي منبأ يعني مخبر بأشياء من الغيب، أطلعه الله عز وجل عليها من هذه الكتب التي نزلت من السماء، وأطلعه الله سبحانه على بعض ما يكون من علامات القيامة، وما يكون في يوم القيامة وغير ذلك.

    وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ [الزمر:69] أي: يوم القيامة وأتي بهم.

    قال: وَالشُّهَدَاءِ [الزمر:69]، وذلك كما قال تعالى: وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ [ق:21] أي: سائق يسوقها وهو الذي يكون من الخلف يدفعها أن احضري لهذا المكان.

    وهناك فرق بين السائق والقائد، فالقائد يكون في الأمام يمشي والمقود وراءه، وأما السائق فيكون في الخلف، وهذا موقف فظيع مفزع، فالسائق يأتي الإنسان ويقول: تحرك وامش وتقدم إلى حسابك! إذاً: أتت كل نفس ومعها سائق، ومعها أيضاً شهيد، وهو الملك الموكل بحفظ هذه النفس وبكتابة أعمالها؛ ليشهد عليها يوم القيامة.

    فهذا واحد من الشهداء الذين يكونون يوم القيامة.

    ومن ضمن الشهداء أيضاً هذه الأمة الذين كانوا عدولاً، فشهدوا للأنبياء السابقين، ففي حديث النبي صلى الله عليه وسلم: أن هذه الأمة تشهد على تبليغ الرسل السابقين لقومهم، فيسأل الله عز وجل الأمم السابقة: هل أتاكم من نذير؟ يقولون: ما أتانا من نذير، فيكذبون على رسل الله عليهم الصلاة والسلام!

    فالله سبحانه تبارك وتعالى يسأل الرسل: هل بلغتم؟ فيقولون: نعم، فيقول: من يشهد لكم؟ ولا شك أن الله سبحانه خير حافظاً وخير من يشهد سبحانه وتعالى، ولكن ليبين فضيلة هذه الأمة، فيستشهد الرسل بهذه الأمة، فتشهد أمتنا للأنبياء السابقين.

    ونحن في هذه الأمة نشهد ونحن لم نر هؤلاء الأنبياء، ولكننا نشهد بتصديقنا لكتاب الله عز وجل الذي قال: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ [هود:25]، فالقرآن قد أخبرنا أن الله أرسل نوحاً إلى قومه وأنه لبث فيهم يدعوهم ألف سنة إلا خمسين عاماً، وأنه دعاهم ليلاً ونهاراً، وسراً وجهاراً، فلم يستجيبوا، فأهلكهم الله فتشهد أمتنا بذلك.

    فهذه الأمة فيها الشهداء الذين يشهدون على تبليغ الأنبياء والرسل السابقين لأقوامهم، والنبي صلى الله عليه وسلم يشهد علينا عليه الصلاة والسلام، قال الله سبحانه: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا [النساء:41].

    وصنف ثالث من الشهداء، وهم الذين يقتلون في سبيل الله سبحانه تبارك وتعالى، وهؤلاء الشهداء هم الذين جاهدوا في سبيل الله فقتلوا في سبيل الله، قال الله عنهم: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ [آل عمران:169].

    وأيضاً الشهداء من هذه الأمة هم عدول هذه الأمة، وقد جاء في الحديث الذي رواه الإمام مسلم من حديث أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يكون اللعانون شفعاء ولا شهداء يوم القيامة).

    فحتى تكون من ضمن الشهداء يوم القيامة، الذين يشهدون وتقبل شهادتهم، فلا تعود لسانك على لعن الخلق، ولا تدعو على أحد باللعن، ولا تعود لسانك على الكذب، فإن الإنسان الذي يكثر من اللعن ويكذب لا يستحق أن يكون شفيعاً أو أن يكون شهيداً يوم القيامة.

    إذاً: الشهداء هم جملة من ذكر الله سبحانه تبارك وتعالى، وجملة من جاء في أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم.

    معنى قوله تعالى: (وقضي بينهم بالحق)

    قال تعالى: وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالحَق [الزمر:69] قضي: فصل بينهم أو حكم بينهم، فالله يحكم بين العباد، بين المؤمنين منهم والكافرين، فيقضي بالحق سبحانه تبارك وتعالى، وينتصر للمؤمنين المظلومين من الظلمة والعصاة.

    فيفصل الله سبحانه ويقضي بالحق سبحانه تبارك وتعالى، ففي يوم القيامة يحق الله الحق، فهو يوم الحق: وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [الزمر:69]، فلا يظلم الله أحداً شيئاً وقد قال تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه [الزلزلة:7-8].

    وإذا بالعباد أخذوا جزاءهم الوافي، قال تعالى: وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ [آل عمران:25]، وكل هذا الفصل مع أن العدد ضخم جداً وكبير جداً يوم القيامة، من الإنس ومن الجن ومن خلق الله عز وجل، فيفصل بينهم جميعاً، وكل نفس على حدة، يقضي الله عز وجل فيها قضاءً حاسماً وقضاءً سريعاً، وقضاءً حقاً من الله سبحانه تبارك وتعالى: وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ [الزمر:70] ولا تفلت أي نفس.

    وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ [الزمر:70] يعني: فكل ما عملته النفوس يحاسبها الله عز وجل عليه، وهو أعلم فلا يحتاج إلى شهود ولا إلى كتب، ولكن الله سبحانه يبين في هذا اليوم العظيم كيف تكون عظمة هذا اليوم، وكيف تكون المحكمة العظمى يوم القيامة، فهي محكمة فيها شهود وكتب، فهذا هو الموقف يوم القيامة.

    نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.

    أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.

    وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718712

    عدد مرات الحفظ

    765797438