قال الله عز وجل في سورة الزمر: وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ * وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون * فَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ * قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ * أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [الزمر:47-52].
يخبر الله سبحانه تبارك وتعالى في هذه الآيات من سورة الزمر عن حال المشركين يوم القيامة، وحال الظلمة والمجرمين، أنه لو كان لأحدهم يوم القيامة ملء الأرض من الذهب، ومثله معه أي: ملؤها مرة أخرى لافتدى بها يوم القيامة من سوء العذاب ومن سوء الحساب، ما تقبل منهم! قال تعالى: وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا [الزمر:47] أي: الذين كذبوا وأشركوا بالله سبحانه مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [الزمر:47]، وإذا كان المرء في الدنيا لا يملك ما في الأرض جميعاً فكيف به يوم القيامة؟! إذ الأرض يوزعها الله عز وجل بين عباده، فهذا يملك شيئاً وذاك يملك شيئاً، ولا أحد من ملوك الأرض يملك جميع ما في الأرض، ولكن الله عز وجل يُملّك من يشاء ما يشاء من الدنيا، فيملك ناساً بعضاً من كنوزها، وآخرين منافعها، وهكذا ....
ويخاطبهم الله في الآية على فرض أن يملك أحدهم يوم القيامة مثل هذه الأرض، فيملك كنوزها ومثل هذه الكنوز معها لافتدى بهذا كله من عذاب الله يوم القيامة، قال تعالى: لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ [الزمر:47]، فقد كانوا في الدنيا في غفلة، وكان أحدهم يسوف ويقول: غداً أتوب، وغداً أوحد الله ولا أشرك به، وغداً أفعل كذا، ولكن هذا الغد لم يأت إلا وقد ماتوا على كفرهم وعلى شركهم، وعلى فسوقهم وعصيانهم، فماتوا على غير توبة، فإذا بهم يوم القيامة يودون الرجوع ولا رجوع، ويودون أن لو يفتدوا وكيف وهم لا يملكون شيئاً، ولو كانوا يملكون شيئاً ما تقبل منهم ذلك؟!
قال الله سبحانه: وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ [الزمر:47] أي: بدا لهم من الله عز وجل ما لم يكن في ضميرهم، وما لم يدر في خلدهم أن يفعل بهم ذلك، وإن قالوا: كنا نحسن الظن، لكنهم أساءوا العمل، أو قالوا: كنا نحسن الظن، لكنهم وقعوا في الشرك بالله سبحانه، فلم يَتقبل منهم شيئاً من أعمالهم.
قال تعالى: وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا [الزمر:48]، فقد كسبوا السيئات، وجزاء سيئة بمثلها، وأساءوا فكان لهم من الله عز وجل ما يسوءهم، وهو العقاب الشديد، فكان الجزاء جزاءً وفاقاً، وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ [الزمر:48] أي: عقوبات ما اجترحوا في الدنيا وكسبوا من الكفر والمعاصي.
وقوله تعالى: وَحَاقَ بِهِمْ [الزمر:48] أي: نزل بهم نزول مصيبة، (حاق) بمعنى: أحدق بهم وأحاط بهم، فلم يفلتوا منه، وما ذلك إلا جزاء: مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون [الزمر:48] أي: ما كانوا يسخرون من المؤمنين في الدنيا، ومن البعث والنشور، ومن القيام من القبور، ومن الحساب والجزاء، ومن عقوبة الله سبحانه تبارك وتعالى يوم القيامة.
قال تعالى: فَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ [الزمر:49] أي: إذا أصابه شيء من مصائب الدنيا وما يتضرر ويتأذى به، أو يسهر من أجله، أو يبحث عن الدواء من أجل ذلك، يفزع إلى الله وينادي: يا رب! يا رب!
وقوله سبحانه: دَعَانَا [الزمر:49] أي: دعا ربه سبحانه، ثم قال سبحانه: ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ [الزمر:49] والتخويل بمعنى: التمليك، أي: ملكناه، وأعطيناه شيئاً من هذه الدنيا قال سبحانه: ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا [الزمر:49]، ونسب الله النعمة إلى نفسه، فهو صاحب جميع النعم سبحانه تبارك وتعالى، إلا أنه بعد أن ينعم على هذا الإنسان يغتر بنفسه ويتكبر وينسب النعمة إلى نفسه، قال تعالى: قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ [الزمر:49] والإنسان عندما يذكر بالله سبحانه ونعمه عليه ويقال له: من الذي علمك إلا الله؟ ومن الذي أعطاك المال إلا الله؟ يجيب قائلاً: إن الله ما أعطاني إلا لأني أستحق ذلك، غروراً منه! فيرى نفسه مستحقاً، ويقول أيضاً: لو لم أكن مستحقاً لم يعطني الله، أو يقول: لو لم أكن ذكياً لم أتفوق، ولو لم أكن قادراً على الكسب والعمل لم يعطني الله سبحانه، فكان قوله هذا رجوعاً إلى الكفر مرة أخرى.
وفي الآية يذكر الله عز وجل غرور هذا الإنسان، وكفره لنعمه ربه بعد أن دعاه في وقت الضر قال تعالى: قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ [الزمر:49]، وقوله: (على علم) محتملة لعدة معاني وكلها صحيحة، منها: أن ينسب العلم لنفسه، كأنه يقول: على علم مني؛ لأنني تعلمت، أو كوني تعلمت ولدي خبرة في الدنيا، ولأجل ذلك استطعت أن أكسب، وهو بذلك ينسى الله سبحانه تبارك وتعالى، وقد يكون المعنى: إنما أوتيته على علم من الله، أنني أستحق ذلك، ولأجل استحقاقي أعطاني، وقد كان الكفار المجرمون ومن على شاكلتهم يتطاولون على المؤمنين، ويقولون: أنتم تقولون: هناك جنة ونار! وتقولون: إننا سنبعث يوم القيامة، أليس الله قد أعطانا في الدنيا ومنعكم، وما ذاك إلا أننا أفضل منكم، وكذلك إذا بعثنا يوم القيامة فسيعطينا الله أفضل منكم! وهم بقولهم ذاك قد قاسوا الآخرة على الدنيا، وكأنهم يرون أن الله أعطاهم لكونهم يستحقون ذلك، ونسوا أن الله يملي للكافرين قال تعالى: وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [الأعراف:183].
ثم أضرب عن قوله: إنما أوتيته على علم، فقال تعالى: بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ [الزمر:49] أي: ما هم فيه من نعم إنما هي فتنة فتنهم الله سبحانه تبارك وتعالى بها، ومن معاني الفتنة: الاختبار، فالمعنى: اختبرهم فرسبوا في الاختبار.
ثم قال سبحانه: وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ [الزمر:49] أي: لا يعلمون أن هذا استدراج من الله لهم، وأن هذا امتحان وأنهم رسبوا فيه، وأنهم إلى النار سائرون.
ثم بين سبحانه أن ما كسبوه وحازوه لا يغني عنهم شيئاً قال سبحانه: قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [الزمر:50] أي: لقد كان من قبلهم أذكياء، وكسبوا من الدنيا مكاسب كثيرة، إلا أنهم تركوها لمن بعدهم، وذهبوا إلى الله، فلم يغن عنهم ما كسبوا شيئاً، بل تركوه وحوسبوا عليه.
قال تعالى: وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ [الزمر:51] أي: لا يعجزوننا ولا يهربون منا، تقول: انطلق جارياً حتى أعجزني، تريد أنك ما استطعت اللحاق به حين فر منك، فيكون معنى قوله سبحانه: وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ [الزمر:51] أي: مهما جروا في الدنيا، ففروا إلى الجبال، أو إلى أي مكان سنأتي بهم يوم القيامة، وما هم بمفلتين من قبضتنا.
إذ إن الإنسان مهما أعطى لله، فالله سبحانه يخلف عليه، والله وحده هو صاحب المال، وهو صاحب الرزق سبحانه، يبسط ويوسع على من يشاء من عباده، وليس كل من وسع الله عز وجل عليه يحبه، وليست التوسعة شرطاً لحب الله، بل كم قد أعطى الله إنساناً كافراً من الدنيا أموالاً كثيرة، فكان ذلك استدراجاً له، وكم منع من إنسان طيب فقيه في هذه الدنيا، حتى إنه لا يجد ما يأكله، وقد يبيت الليلة الأولى والثانية والثالثة ولا يجد ما يملأ بطنه!
وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شبع في الدنيا من خبز شعير عليه الصلاة والسلام، حتى فتحت عليه الدنيا، فلما فتحت عليه الدنيا قبضه الله سبحانه تبارك وتعالى، وما استمتع مما في الدنيا بشيء، وقد كان الصحابة يذكرون النبي صلى الله عليه وسلم ويبكون لما عاش عليه من الكفاف، وكان أبو هريرة يصنع العيش الحوارى، وهو الخبز الأبيض، ويطعم الناس ويبكي ويحدث أن النبي صلى الله عليه وسلم ما ذاق هذا، فالمسلمون يستمتعون بالشيء الذي فتح الله على نبيه صلى الله عليه وسلم به، وقد ذهب النبي ولم يأخذ من هذه الدنيا شيئاً، فصلوات الله وسلامه عليه.
وقد ثبت أن السيدة عائشة رضي الله عنها قالت: كان يمر الهلال وراء الهلال وراء الهلال، ثلاثة أهلة، أي: شهران يمران على بيت النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يوقد في بيته ناراً لطبيخ أو لطعام عليه الصلاة والسلام، وإنما كان الطعام التمر والماء!
ولم يمنعه الله الدنيا ظناً بها عليه الصلاة والسلام، وإنما أراد الله عز وجل أن يجعله وصحبه القدوة والأسوة لمن بعدهم، حتى نعلم أن الله إذا أعطى العبد من الدنيا ليس معناه أنه يحبه سبحانه تبارك وتعالى، ونعلم أن الله إذا حرم آخر منها ليس معناه أنه يكرهه، وإنما قد يعطي لإنسان من المؤمنين من فضله سبحانه؛ لأنه لا يصلح لهذا العبد في علم الله إلا ذلك، فيتفضل الله سبحانه وتعالى عليه، أو لكون الله يعلم حيث يعطي هذا المؤمن أنه سينفق من هذا المال على من يحتاج إليه، وأنه سيضعه في حقه، فأعطاه الله سبحانه، وجعله قدوة لغيره، وقد يحرم الله إنساناً آخر مع أنه مؤمن؛ لأنه يعلم أن هذا سيصبر على الفقر، وأنه يكون قدوة في ذلك، فمنعه ليكون إماماً وقدوة لغيره في ذلك.
فالله أعطى الأول علماً منه أن هذا لو حرمه لضاع وفسد، فأعطاه رحمة منه سبحانه تبارك وتعالى، وحرم الثاني مع أنه من المؤمنين لما سبق في علم الله أنه لو أعطاه لفسد ولطغى، فمنعه الله سبحانه تبارك وتعالى.
فالله بيده الفضل، يبسط لمن يشاء ويقدر، أي: يضيق على من يشاء سبحانه تبارك وتعالى، فإذا رأيته أعطى إنساناً ومنع آخراً، فاعلم أنه لحكمة منه سبحانه تبارك وتعالى، وبيان آية من آياته.
قال تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [الزمر:52]، فالمؤمن ينبغي أن يرضى بما هو فيه، ويحمد الله عليه ويردد في نفسه: الله أعلم بحالي، أليس من الممكن أنه لو أعطاني أكثر مما أنا فيه أني قد لا أصلي الفجر، أو لو أعطاني أكثر مما أحوزه الآن قد لا أدعوه، فالله يحب أن يسمع صوتي وأنا أناجيه وأقول: يا رب! يا رب! وينتبه العبد هنا إلى أنه لو امتنع عن الدعاء فقد يجلب على نفسه السخط من الله سبحانه، كما أن الإنسان لو اطلع على الغيب لرضي بما هو فيه من الواقع، ارض بما قسم الله سبحانه تبارك وتعالى لك، واعلم أن الذي يدبر الكون هو الله وحده، العليم الحكيم سبحانه تبارك وتعالى، وهو أعلم بما يصلحك أكثر من نفسك سبحانه تبارك وتعالى، وما يدريك! فقد يمرضك وأنت تريد أن تعمل شيئاً معيناً، فلا تعمله بسبب المرض، فلعلك لو خرجت إلى هذا الخير بظنك وبزعمك لفاتك باباً آخر أدركته بمرضك، فكان المرض الذي أنت فيه أفضل من هذا العمل، وما يدريك! لعلك لو خرجت إلى عمل من أعمال الخير لغلبك الشيطان فراءيت وسمعت بعملك، فالله منعك من الرياء ومن السمعة عندما ابتلاك بالمرض، فأنت لا تدري ما الذي يدبره الله سبحانه بعلمه وقدرته وحكمته، فعليك أن ترضى بقضاء الله سبحانه تبارك وتعالى، كما ينبغي عليك أن تدرك أن القضاء واقع رضيت أم لم ترض، إلا أنك في الرضا أخذت الأجر، وفي السخط حل عليك سخط الله سبحانه تبارك وتعالى.
لذلك على المؤمن أن يؤمن بالله تمام الإيمان، فيؤمن بحكمة الله، ويؤمن بقدرة الله، ويؤمن أن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وأن الله يعطي من يشاء تفضلاً وتكرماً منه، ويمنع من يشاء بحكمته وعدله سبحانه تبارك وتعالى، فإن أعطاك فهو محض منة منه، وإن منعك فلم يمنعك حقاً ليس لك عند الله، بل يعطيك ما كتبه على نفسه وتفضلاً منه لعباده سبحانه تبارك وتعالى.
قال سبحانه: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [الزمر:52]، فالمؤمن من يتفكر ويتأمل في قضاء الله وقدره، ولا يدخل الجنة إلا من يؤمن بأصول الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقضاء والقدر خيره وشره، حلوه ومره، كل من عند الله سبحانه تبارك وتعالى.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر