اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل: أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلا يَعْقِلُونَ * قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [الزمر:43-44].
يخبرنا ربنا سبحانه وتعالى في هذه الآيات عن حال المشركين الذين اتخذوا من دون الله أنداداً وشركاء، وزعموا أنهم شفعاء لهم عند ربهم سبحانه، وأنهم يقربونهم إلى الله سبحانه.
هذه السورة كما ذكرنا من السور المكية التي نزلت، والشرك يملأ الأرض، والمشركون يعبدون غير الله سبحانه، والمؤمنون قلة يدعون الناس إلى عبادة الله وحده لا شريك له، فالله عز وجل يفضح هؤلاء المشركين الذين يقرون بأن الله هو الرب، وأن الله هو الخالق، وأنه خلق السماوات والأرض، ويملك كل شيء، ومع ذلك إذا توجهوا بالعبادة عبدوا غير الله سبحانه وتعالى.
يقول الله عز وجل هنا: أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ أي: بل اتخذوا من دون الله سبحانه وتعالى هذه الأصنام، وظنوا أنها تقربهم من الله، وأنها تشفع لهم عند الله سبحانه وتعالى!
والشفيع بين الناس هو الإنسان الذي يأتي إلى غيره في حاجة له، فيقول: يا فلان اشفع لي عند فلان، فكنت وحدك وتراً، فأخذت هذا شفعاً معك، فصرتما اثنين، فهو يعاونك في هذه الحاجة حتى يقضيها لك هذا الإنسان.
إذاً: أصل الشفاعة من الشفع، والشفع هو الزوج، كأنك وحدك لا تقدر عليها، فتحتاج إلى غيرك ليكون معك ويقويك حتى تقضي هذه الحاجة.
فهنا هؤلاء زعموا أن هذه الأصنام تكون معهم وتقربهم عند الله سبحانه وتعالى، وتشفع لهم عند الله، فقال سبحانه: أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ ، أي: هل اتخذوا من دون الله هذه الأصنام تشفع لهم وتأتي معهم عند الله سبحانه، لترفع حاجتهم عند الله؟ ومن الذي أخبرهم بذلك؟ وهل عندهم أثارة من علم من عند الله سبحانه بذلك أم جاءهم رسول يأمرهم بأن يفعلوا ذلك؟ ليس عندهم هذا ولا ذاك، بل كذبوا على أنفسهم وكذبوا على ربهم سبحانه.
قال سبحانه: قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلا يَعْقِلُونَ أي: هؤلاء الشفعاء لا يملكون شيئاً، وهذه الأصنام لا تملك شيئاً، ولا تعقل ما يراد منها، ولا تفهم ما يقولونه لها، فهل تجيبهم إذا دعوها؟! هم يعرفون تماماً أن الأصنام لا تتكلم ولا تدفع عن نفسها شيئاً، فإذا كانت كذلك فكيف تعبدونها من دون الله سبحانه؟
قال الله تعالى: قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا [الزمر:44] أي: الشفاعة لا يملكها إلا الله سبحانه وتعالى، ولذلك يقول في كتابه: وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى [الأنبياء:28]، وقال تعالى: لا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا [مريم:87]، وقال سبحانه: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [البقرة:255] أي: من هذا الذي يشفع عند الله سبحانه؟ فهذا الذي يشفع عند الله لا يشفع إلا بإذن الله سبحانه؛ ليرينا قدرته وقوته، وأنه وحده الفعال لما يريد، ولا أحد يملك مع الله شيئاً، ولذلك في مقام الشفاعة العظمى لنبينا صلوات الله وسلامه عليه يأتي يوم القيامة حتى يشفع عند ربه سبحانه لفصل القضاء بين العباد، فيخر ساجداً، ويتركه الله ما يشاء سبحانه وتعالى، فهو عندما يسجد لله يفتح الله عليه بمحامد يعلمه الله عز وجل إياها، فيحمد ربه ويمجد ربه سبحانه، حتى يشفع عند ربه سبحانه فيأذن له ربه سبحانه، بعدما يتركه ما يشاء سبحانه؛ ليرينا أنه لا أحد يملك الشفاعة، فيسجد لربه ما شاء الله سبحانه، ثم بعد ذلك يقال له: (يا محمد! ارفع رأسك، واشفع تشفع، وسل تعط) كل هذا حتى نعلم أنه لا يملك الشفاعة إلا الله، حتى رسولنا صلوات الله وسلامه عليه إلا أن يأذن الله سبحانه وتعالى له، وهذا معنى قوله: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [البقرة:255]، فيأذن له ربه سبحانه ويقول له: (ارفع رأسك، واشفع تشفع، وسل تعط، فيقول: يا رب أمتي أمتي).
فالإذن بهذه الشفاعة يملكه الله وحده؛ لأن كل الشفاعة يملكها الله سبحانه وتعالى وحده، فإذا قام الأنبياء ليشفعوا فإنهم لا يشفعون إلا أن يأذن الله عز وجل لهم، كذلك إذا قام المؤمنون ليشفع بعضهم لبعض برفع بعضهم درجات عند الله سبحانه، وأن يخرج بعضهم من النار بإذنه سبحانه وتعالى، فلا يقدر أحد أن يشفع لأحد إلا أن يأذن الله سبحانه وتعالى فتشفع الرسل، وتشفع الملائكة، لكن بعدما يأذن الله سبحانه وتعالى.
فقوله: ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ هذه قراءة الجمهور، وقراءة يعقوب (ثم إليه تَرجِعون) على البناء للفاعل، أي: ترجعون أنتم إلى الله رب العالمين سبحانه ليجازيكم.
الإنسان هو الإنسان، هو هذا الذي كان مشركاً يوماً من الأيام، فالآن دخل في دين الله سبحانه، فإذا به يضحك على نفسه، كيف كان يعبد الصنم الذي صنعه هو بيده؟! كيف صنع صنماً من عجوة ثم لما جاع أكل هذا الصنم الذي يقربه إلى الله حسب زعمه؟! فكانوا يضحكون على أنفسهم فيما كانوا يفعلونه أيام جاهليتهم.
كان أهل الجاهلية إذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوبهم وانقبضت ونفرت؛ لأنهم لا يؤمنون بالآخرة، وكانوا يقولون: مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ [الجاثية:24] أي: سنموت بعد هذه الدنيا ولن نرجع بعد ذلك، فلذلك يرفضون أن يدخلوا مع النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم لا يصدقون بوجود الآخرة، وأنهم راجعون إلى الله، ليجازيهم في الدار الآخرة.
ثم قال: وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ أي: إذا ذكر بعضهم لبعض هذه الأصنام والأوثان فرحوا بها، وذهبوا إلى أوثانهم وأصنامهم، وطيبوها وغسلوها ومسحوها، وتقربوا إليها من دون الله سبحانه مستبشرين بذلك، إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ أي: يظهر في وجوههم البشر والفرح والسرور.
فقوله: قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يعني: قل: يا ألله، يا فاطر السماوات والأرض. اللهم هذا نداء، معناه: يا ألله، فهنا جمع بين صفة الإلهية، وأنه الإله المستحق للعبادة، وبين صفة الربوبية، وأنه الرب الذي يخلق ويرزق ويفعل ما يشاء ويحكم بما يريد سبحانه.
قوله: قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ [الزمر:46] يعني: يا من فطر السماوات، أي: خلقها على غير مثال سابق سبحانه وتعالى، لم تكن هناك سماء فخلق هذه مثلها، لا، بل فطرها وابتدعها سبحانه وتعالى، كذلك الأرض فطرها الله سبحانه وتعالى على غير مثال سابق.
ثم قال: عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ يعني: يا عالم الغيب والشهادة، يا من تعلم كل شيء، وما خفي عن الخلق لا يخفى عليك، ما يشاهده الخلق وما غاب عنهم أنت تعلمه، فأنت عالم الغيب والشهادة.
ثم قال: أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ يعني: أفوض أمري إليك أنت تحكم بيننا وبين هؤلاء المشركين، وأنت تقضي بيننا وبين هؤلاء الظلمة، وأنت تحكم يوم القيامة بيننا فيما اختلفنا فيه.
هذه الآية العظيمة كان نبينا صلى الله عليه وسلم يستفتح بها في قيام الليل، كما جاء في الحديث في صحيح مسلم من حديث السيدة عائشة رضي الله عنها وقد سألها حميد بن عبد الرحمن بن عوف عن النبي صلى الله عليه وسلم: (بأي شيء كان يستفتح النبي صلى الله عليه وسلم قيام الليل؟ فقالت السيدة
والمؤمن لا يمل من سؤال ربه الهداية، تسأل ربك الهداية سبحانه وتعالى في كل صلاة من الصلوات الخمس، فأنت تقرأ الفاتحة في كل ركعة وتقول: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6] أي: الطريق القويم، طريق رب العالمين، فالله يهديك ويدلك ويثبتك، فلا تزال على ذلك حتى تصل إلى الجنة ويدخلك الجنة، فلذلك تحتاج إلى سؤال الله سبحانه الجنة وسؤاله أن يهديك طريقها، وقد شاء الله عز وجل أن يهدي خلقاً وأن يضل خلقاً، فاختلف الخلق في ذلك، فمنهم من ضل ومنهم من اهتدى، والله عز وجل شاء ذلك، فاطلب منه الهداية وقل: اهدني لما اختلف فيه من هذا الحق بفضلك وبإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.
ثم قال: وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ هذه الآية العظيمة فيها معان عظيمة ينبغي للإنسان أن يتأملها، وأن يراجع نفسه وعمله مع هذه الآية: وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ [الزمر:47] أي: بدا لهم من الله، كأن الإنسان ظلم نفسه في الدنيا وأحسن الظن بزعمه أنه إذا رجع إلى الله فإنه سيكرمه وسيدخله الجنة، هو أحسن الظن في نفسه وأساء العمل، فلما جاء يوم القيامة بدا له ما لم يكن يحتسب!
قال الله عز وجل عن الكفار: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [الفرقان:23] أي: هؤلاء الكفار عملوا في الدنيا أعمالاً يرونها صالحة، ومن أسلم منهم كانوا يسألون النبي صلى الله عليه وسلم بعد إسلامهم، يقول الرجل: (إن أبي كان يصنع كذا وكذا وكذا، كان يطعم في الجاهلية، وكان يسقي الحجيج، وكان يعتق الرقاب، فهل ينفعه ذلك؟ فيقول له صلى الله عليه وسلم: إنه لم يقل يوماً من الدهر: رب اغفر لي وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم) يعني: أنه كان يعمل هذه الأشياء في الدنيا ليس لله سبحانه، فكونه يطعم الحجيج ويسقيهم، ويفك الرقاب، ويعين الإنسان المظلوم، لا ينتفع بذلك، وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ فالإنسان الذي يرائي بعمله في الدنيا، فيعمل حتى يقال عنه: عالم، وحتى يقال عنه: جريء، وحتى يقال عنه: شجاع، وحتى يقال عنه: قارئ، وحتى يقال عنه: منفق وجواد، فإذا جاء يوم القيامة: وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ .
يقول مجاهد في تفسير هذه الآية: عملوا أعمالاً توهموا أنها حسنات، فإذا هي سيئات.
وقال غيره: عملوا أعمالاً وتوهموا أنهم يتوبون إلى الله قبل الموت.
والإنسان يخدع نفسه بالتسويف ويقول: في هذا اليوم سنعصي ربنا وغداً سنتوب فخدع نفسه فخدعه الله سبحانه وتعالى، ولم يأت هذا اليوم الذي توهم أنه يتوب، وإنما عاجله الموت وبادره قبل أن يتوب، وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ .
يقول الإمام الثوري رحمه الله: ويل لأهل الرياء، ويل لأهل الرياء، هذه آيتهم وقصتهم، هذه آيتهم وقصتهم.
أي: المراءون الذين يراءون بأعمالهم، ويطلبون من الناس المدح على أعمال المفترض أنها تكون لله سبحانه وتعالى، لكنهم طلبوا من الناس المدح فمدحهم الناس وضاع ثواب العمل، فوجدوا من الله ما لم يكونوا يحتسبون.
يقول عكرمة بن عمار : جزع محمد بن المنكدر عند موته جزعاً شديداً، ومحمد بن المنكدر كان من الزهاد العباد الصالحين، فلما جاءه الموت وجدوه في غاية الجزع والخوف فقالوا: كيف تجزع وأنت تموت، وقد كنت تصلي وتقوم الليل وتكثر من الذكر؟! ما هذا الجزع؟ قال: أخاف آية من كتاب الله! قالوا: أي آية؟ قال: هذه الآية: وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ ، هذا العابد الزاهد خاف في آخر عمره من هذه الآية: وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ فكيف بغيره؟!
فالإنسان المؤمن يحاسب نفسه، ويراجع نفسه في كل عمل من الأعمال، هل هو مخلص لله أو غير مخلص؟! هل هو متابع للنبي صلى الله عليه وسلم فيما جاء به من عند الله أم مبتدع في دين الله سبحانه؟! فليحذر كل من هذه الآية، وليحذر أن يرائي في الدنيا وأن يعمل أعمالاً ليست على سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فيأتي يوم القيامة ويرد عليه عمله، ويقال له: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد).
نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر