قال الله عز وجل في سورة الزمر: لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُوْلِي الأَلْبَابِ [الزمر:20-21].
يخبرنا الله سبحانه تبارك وتعالى في هذه الآيات وما قبلها عن حال المؤمنين يوم القيامة وعن نعيمهم في الجنة، وعن حال الكفار وما يعذبون به في النار، فأما الكفار فهم في طبقات جهنم ودركاتها، لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ[الأعراف:41] لهم عذاب أليم عند الله سبحانه وتعالى جزاءً بما كانوا يعملون.
أما المؤمنون فهم الذين اتقوا ربهم فخافوا من الله في الدنيا، وخافوا أن يغضبوا ربهم سبحانه، واتقوا عذاب الله وعقوبته، فأطاعوا ربهم بكل وجه من وجوه الخير والإحسان، وعبدوا الله وهم مستيقنون أنه ربهم سبحانه، وأنه يجازيهم على الإحسان في عبادتهم بالحسنى وزيادة، فكان لهم من الله الغرف التي جعلها في جنته، والغرف أعالي الجنات، قال تعالى: لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ[الزمر:20]، ولابد وأن تكون الغرفة مبنية ولكن لتمييزها عن غيرها فهي مبنية لبنة من ذهب ولبنة من فضة، ومن زبرجد ومن ياقوت وأشياء لم يعهدها الإنسان ولم يرها، حيث يكون له قصر مبني من ذهب، أو مبني من لؤلؤ أو خيمة من لؤلؤة مجوفة، فهذا من نعيم الجنة.
فيذكر الله أنها مبنية، والذي بناها لهم ربهم سبحانه وتعالى، وجهزها لهم وجعلها جنات عاليات، نسأل الله أن يجعلنا من أهلها.
يجري في أرض الجنة ومع ذلك لا يحدث له شيء من الكدورة ولا يتعفن لا يأسن.
قال تعالى: أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ [محمد:15]، فلبن الدنيا يتغير، والأبحاث تقول: إنه في كل ساعة يتغير اللبن من حال إلى حال، يعتليه من آفات، ويعتليه من حرارة ومن برودة، فلبن الدنيا من الأشياء التي لا يستقيم بقاؤها على حال واحد إلى أن ينتن مع مضي الساعات عليه، لكن لبن الجنة لبن عظيم لا يتغير أبداً، مهما بقي، وهو في أنهار يجري أمام أهل الجنة يشربون منه ما يشاءون ولا يتغير عليهم أبداً.
قال تعالى: وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ [محمد:15] ، لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنزِفُونَ [الواقعة:19]، لا يعتريهم ما يعتري الناس الذين يشربون الخمور من صداع ومن نزيف للعقول في الدنيا، فأهل الجنة لا تذهب عقولهم أبداً ولا يصدعون، ولا تغتالهم خمر الجنة، فهي لا تشبه خمر الدنيا إلا في الاسم فقط، ولكنها أعظم وأحلى وأجمل، ولا غول فيها ولا تعب من ورائها ولا صداع فيها ولا ألم فيها، فهي نعيم لأهل الجنة.
قال تعالى: وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى [محمد:15] عسل الدنيا مهما بلغ أعلى الحلاوة وأجمل الطعم فالإنسان لو أكل منه كثيراً يجزع منه، أما عسل الجنة لا جزع فيه أبداً، عسل صاف لا كدورة فيه، ولا شوائب فيه، فأنهار من لبن وأنهار من ماء وأنهار من عسل وأنهار من خمر تجري من تحت أشجار الجنة فيتمتع الإنسان المؤمن في جنة الخلود، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أهلها.
وهذا وعد الله، قال تعالى: وَعْدَ اللَّهِ [الزمر:20] أي: وعدكم الله وعداً فهو مصدر لفعل محذوف تأكيداً من الله عز وجل أن هذا وعد أكيد من رب العالمين.
قال تعالى: وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ [الزمر:20] وعد للفريقين لأهل الجنة ولأهل النار، فأهل النار في الجحيم وفي العذاب المقيم، وأهل الجنة في النعيم وفي هذه الأنهار والعيون وفي الطعام والشراب الذي يمتعون به في الجنة، فوعد هؤلاء ووعد هؤلاء ولا يخلف الله الميعاد.
فالجنة فيها غرف في أعالي الجنات، ولهم قصور في أعالي الجنات، فيقول عليه الصلاة والسلام: (إن في الجنة غرفاً) هذه الغرف التي لأصحابها تكون مبنية من ذهب ومن فضة، ومع ذلك فإن صاحبها إن كان بداخلها يرى خارجها من خلالها وإذا كان خارجها ينظر إلى داخلها فيرى ما يريده من داخلها.
قال: (يرى ظهورها من بطونها وبطونها من ظهورها)، كالزجاج فأنت ترى داخل الزجاج من الخارج، أما في الجنة لم يقل لنا من زجاج، فالزجاج شيء رخيص في الدنيا، ولكن الجنة مبنية القصور من ذهب، ومع ذلك بلغ من شفافيته وبلغ أن يكون صاحبه بداخل هذا القصر المبني من طوبة من ذهب وطوبة من فضة أن يرى ما خارجه وهو في داخل هذا القصر، فإذا كان في الخارج وأراد أن ينظر في داخل قصره نظر واستمتع بما فيه من حور عين وغيرها! ولما قال النبي صلى الله عليه وسلم ذلك قام أعرابي تعجب وانبهر مما سمع فقال: (لمن هي يا رسول الله؟! فقال صلى الله عليه وسلم: لمن أطاب الكلام، وأطعم الطعام، وأدام الصيام، وصلى بالليل والناس نيام).
الذي يفعل ذلك له هذه المنزلة العظيمة وهذه القصور الراقية الغالية عند الله سبحانه تبارك وتعالى، (لمن أطاب الكلام)، أطاب الكلام بمعنى: حسن خلق الإنسان، فلا يخرج من فيه غير الكلام الطيب، فليس كلامه بذيئاً ولا مؤذياً، وليس كلامه في أمر الدنيا وإنما كلامه في الأمر الذي يقربه من الله عز وجل، وكلامه طيب؛ لأنه يراقب الله سبحانه، ولأنه لا يريد أن يؤذي أحداً من خلق الله تبارك وتعالى، فأطاب كلامه فكان إنساناً هيناً ليناً حسن الخلق، يتكلم بالكلام الطيب والكلام الذي يخرج من فم الإنسان يعبر عن الوعاء الذي في الداخل، وهو قلب الإنسان، فإذا كان كلاماً طيباً دل على طيبة القلب، وإذا كان كلاماً خبيثاً دل على خبث القلب.
قال عليه الصلاة والسلام: (وأطعم الطعام) أي: أعطى الطعام وبذل مما عنده من طعام، فأعطى الفقراء وأعطى المساكين وأعطى على وجه الهدية، وأنفق النفقات الواجبة والمستحبة عليه، وبذل لله سبحانه تبارك وتعالى.
كذلك قال: (وأدام الصيام) أي: واظب على الصيام، فلم يصم أياماً وترك الصيام بعدها، ولكنه واظب على الصيام، فيصوم الفريضة ويصوم النافلة، ويداوم الصيام، ويخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم عن رب العزة سبحانه قال: (كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به) فالصوم عبادة باطنة وعبادة سرية بين العبد وبين الرب، والإنسان يقول: أنا صائم، وأنت لا تدري هل هو فعلاً صائم أم لا، فالله وحده يعلم ما في قلب هذا الإنسان هل هو صائم صوماً صحيحاً وإلا صام عن الطعام وعن الشراب ووقع في أعراض الناس ووقع في الحرام، فالله أعلم بمدى صحة صوم هذا الإنسان، فكان الصوم لله سبحانه تبارك وتعالى.
فالصوم عباده قاصرة على الإنسان، وإطعام الطعام عبادة متعدية، فالإنسان المؤمن عباداته متعدية فينتفع الغير بها، وعباداته في السر بينه وبين الله فينتفع بها، ومن العبادة المتعدية تطييب الكلام فتعبد لله سبحانه بأن حسن خلقه، فرأى الناس منه ذلك، فاستحسنوا كلامه ولم يقبح منه شيء ليتكلموا به، فتعدى نفعه لغيره.
وذكر في الحديث عبادة قاصرة ينتفع بها وهي قوله: (وصلى لله بالليل والناس نيام)، فاستحق الجنة، فالجنة يستحقها صاحبها لعمل السر وعمل العلن، والعمل القاصر الذي ينتفع به نفسه والعمل الذي يتعدى النفع فيه للغير، فإذا جمع هذا كله استحق الجنة.
وروى النسائي من حديث فضالة بن عبيد رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (أنا زعيم) أي: أنا ضامن (أنا زعيم لمن آمن بي وأسلم وهاجر ببيت في ربض الجنة، وببيت في وسط الجنة، وأنا زعيم لمن آمن بي وأسلم وجاهد في سبيل الله ببيت في ربض الجنة وببيت في وسط الجنة وببيت في أعلى الجنة).
فالمهاجر الذي آمن بالله وآمن برسول الله صلى الله عليه وسلم أسلم نفسه لله سبحانه فعمل بما أمر الله سبحانه، يقول عليه الصلاة والسلام: أنا زعيم وضامن له ببيتين بيت في ربض الجنة، وكلمة ربض تطلق على أقل الأشياء، كأنه يقول: في أدنى الجنة، والجنة ليس فيها شيء دنيء، ولكن الجنة بعضها أعلى من بعض، وببيت في وسط الجنة، فالجنة فيها منزلة أدنى المنازل وهي أعلى ما يكون وأفضل ما يكون، وأعلى منها درجة أخرى وهي وسط الجنة، وأعلى منها الغرف، فضمن النبي صلى الله عليه وسلم للإنسان الذي آمن وأسلم وهاجر في سبيل الله وترك الكفر إلى الإيمان، وترك بلد الكفر إلى بلد الإسلام، وترك بلد المعاصي إلى مكان الطاعات، ببيتين في الجنة، بيت في ربض الجنة وبيت في وسط الجنة.
قال عليه الصلاة والسلام: (وأنا زعيم لمن آمن بي وأسلم وجاهد في سبيل الله) والمجاهد هو الذي يجاهد بنفسه ويجاهد بماله ويجاهد بكلمته وبلسانه ويجاهد بقلبه، ويجاهد في سبيل الله سبحانه تبارك وتعالى: فيأمر المعروف وينهى عن المنكر، ويجاهد الكفار والمنافقين وأهل المعاصي، فحياة المؤمن جهاد في سبيل الله سبحانه تبارك وتعالى حتى يلقى الله، فالمؤمن المجاهد يقول له النبي صلى الله عليه وسلم: أنا ضامن لك أيها المؤمن المسلم المجاهد في سبيل الله بثلاثة بيوت: ببيت في ربض الجنة وبيت في وسط الجنة وبيت في أعلى غرف الجنة.
قال عليه الصلاة والسلام: (من فعل ذلك) أي: أسلم وآمن وكانت حياته جهاداً في سبيل الله سبحانه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من فعل ذلك فلم يدع للخير مطلباً، ولا من الشر مهرباً) فكانت حياته كلها جهاداً في سبيل الله، في كل مكان أنت فيه تجاهد في سبيل الله، في بيتك تجاهد مع أهلك مع أولادك، في عملك تجاهد في عملك فتتقن وتحسن عملك، وتجاهد الكفار، والمنافقين، والعصاة، وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؛ فحياة المؤمن كلها لله (لم يدع للخير مطلباً)، كأن كل وجوه الخير أتى بها وكل وجوه الشر فر منها، قال: (لم يدع للخير مطلباً ولا من الشر مهرباً، يموت حيث شاء أن يموت) ففي أي مكان يموت فيه هذا الإنسان فإن كل عمله خير، فهو مجاهد في سبيل الله.
وورد حديث آخر رواه أبو داود عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقاً) أي: للإنسان الذي يترك المراء، وهو الجدل فمن حسن الخلق المؤمن أنه لا يجادل، وإذا جادل جادل بالتي أحسن، ولا يجادل إلا إذا كان محتاجاً لذلك؛ لينصر دين الله سبحانه، فليس الجدل للجدل ولا لضياع الوقت، فقال: (أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقاً).
فالإنسان قد يجادل وهو يقول: أنا على الحق فلابد أن أجادل! فلا تعود نفسك على ذلك إلا إن احتاج الناس إلى ذلك فجادل بالتي هي أحسن.
قال عليه الصلاة والسلام: (وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحاً) فالمؤمن يترك الكذب رأساً، فلا يكذب أبداً إلا في المواطن التي أباحتها الشريعة كالحرب فالحرب خدعة، فإن احتاج إلى ذلك فعل بالإصلاح بين الناس، كذلك مع امرأته أن يذكر لها أنها أجمل النساء ونحو ذلك جاز له ذلك، وفي غير ذلك لا يجوز للإنسان أن يكذب، وفي هذه المواطن له أن يعرض في الكلام ولا يصرح بالكذب، فهذا البيت الذي في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحاً، فدع الكذب ودع المراء.
قال عليه الصلاة والسلام: (وببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه) فكان حسن الخلق أعلى ما يكون، وجزاؤه أفضل ما يكون عند الله سبحانه تبارك وتعالى.
نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أهل جنته وأن يجيرنا من ناره.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر