اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الزمر: وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ * أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنقِذُ مَنْ فِي النَّارِ * لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ [الزمر:17-20].
أخبر الله سبحانه تبارك وتعالى في هذه الآيات عن حال المشركين الذين اتبعوا الباطل وعبدوا غير الله سبحانه، وأخبر عن المؤمنين الذين اجتنبوا الطاغوت وعبدوا ربهم وحده لا شريك له، فأما من عبد غير الله سبحانه وأشرك بالله سبحانه فقد قال لهم ربنا سبحانه: فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [الزمر:15].
فالذين عبدوا غير الله سبحانه، فأشركوا بالله واتبعوا الهوى، واتبعوا الشيطان، واتبعوا الطواغيت من دون الله سبحانه؛ فربنا سبحانه يخبر عن حالهم يوم القيامة فيقول: لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ [الزمر:16]، فهي نار مؤصدة مشتعلة يحطم بعضها بعضاً، وأهلها فيها ومن فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل، من تحتهم مهاد من النار ومن فوقهم غواش تغشيهم من ألحفة النار والعياذ بالله.
وهم في النار لا يخرجون منها فقد سبقت فيهم كلمة الله سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ [يونس:96]، فكفروا بربهم وأشركوا به فاستحقوا العذاب، وأما المؤمنون الذين اجتنبوا الطاغوت، واجتنبوا أن يتبعوا الشيطان، واجتنبوا أن يتبعوا كل مارد عاتٍ عن أمر الله سبحانه، وكل غاو مضل؛ فهؤلاء لهم من فضل الله سبحانه تبارك وتعالى البشرى، قال الله عز وجل: وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ [الزمر:17].
والطاغوت هو من طغى وجاوز حده، فكل ظالم جاوز حده فهو الطاغوت، إذا كان يدعو إلى نفسه فيزعم أنه رب البشر كما زعم فرعون والنمرود ، أو زعم أن من حقه أن يشرع للخلق ما لم ينزل الله عز وجل به سلطاناً، أو زعم أنه يعلم الغيب من دون الله سبحانه أو مع الله سبحانه أو أن الله أطلعه على الغيب ولم يكن نبياً ولا رسولاً؛ فهؤلاء الطواغيت الذين كذبوا على الله وافتروا فاستحقوا العذاب.
فالذين اجتنبوا الطواغيت أن يعبدوها وأنابوا إلى ربهم، فرجعوا منيبين إليه طائعين مخبتين؛ لهم البشرى، يبشرهم الله بجنته سبحانه تبارك وتعالى.
قال فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ [الزمر:17-18] وقد ذكرنا أن يعقوب يقرؤها وقفاً ووصلاً (فبشر عبادي)، والسوسي يقرؤها في الحالين بالياء أو بدون الياء.
الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ [الزمر:18]هداهم: من عليهم بالهدى سبحانه، والهدى هدى الله يهدي به من يشاء من عباده، فالله يهدي جميع عباده بمعنى يدلهم على الطريق كما قال: وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ [البلد:10]، فدل على طريق الخير وبين طريق الشر، اتبعوا هذا واجتنبوا هذا.
والمؤمن يزيده الله سبحانه هدى من عنده وتوفيقاً للعمل الصالح، فالله يؤيد المؤمن فيأخذ بما أمره الله عز وجل، وأما الكافر وأما المنافق وأما الفاجر فيخذله الله سبحانه تبارك وتعالى، وقد دله ولكنه اتبع هواه فحق عليه كلمة الله فكان من الخاسرين، قال الله في المؤمنين: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ [الزمر:18] دلهم ووفقهم سبحانه وحولهم من ضلال إلى خير.
قال سبحانه: أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنقِذُ مَنْ فِي النَّارِ [الزمر:19] كأنه يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: أفمن حق عليه كلمة العذاب فاستحق أن يدخل النار هل تنقذه أنت؟ لا يقدر النبي صلى الله عليه وسلم أن ينقذ أحداً، قال له الله عز وجل في القرآن مبيناً وظيفته: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ [آل عمران:144]، صلوات الله وسلامه عليه أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا [آل عمران:144].
إذاً النبي صلى الله عليه وسلم ليس إلا رسول من عند رب العالمين، هو بشر يدعو إلى ربه صلوات الله وسلامه عليه، قال الله: إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ * إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا [فاطر:23-24]، فهو بشير يبشر من يعمل الصالحات بالجنة، ونذير ينذر ويرهب ويخوف من عمل غير الصالحات، ومن أشرك بالله؛ فيخوفه بالنار، فهو رسول من رب العالمين عليه الصلاة والسلام، وهو بشير ونذير صلوات الله وسلامه عليه.
أمره ربه سبحانه أن يدل الناس على الخير وأخبر أنه يهدي عليه الصلاة والسلام فقال: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشورى:52]، وأخبره أنه لا يقدر أن يحول أحداً من شيء إلى شيء إلا بإذن الله فقال: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ [القصص:56]، إذاً فهو يهدي عليه الصلاة والسلام بمعنى يدل، وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشورى:52] أي: تدل فتقول للناس: هذا طريق الجنة اعملوا كذا ولا تعملوا كذا، وأنت لا تهدي بمعنى لا تقدر أن تهدي إنساناً قد أشقاه الله سبحانه، فالذي يحول القلوب هو الله سبحانه تبارك وتعالى، فلا يملك النبي صلى الله عليه وسلم أن يغير قلب إنسان؛ ولذلك قال للأقرع بن حابس لما قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (إن لي عشرة من الولد ما قبلت منهم أحداً! فقال: أو أملك أن نزع الله الرحمة من قلبك؟)، فهو لا يملك أن يدخل رحمة في قلب إنسان أو أن يخرجها من قلب إنسان، إنما الذي يملك ذلك الله سبحانه، لكن هو يقدر على أن يدله ويرشده صلوات الله وسلامه عليه كما نقول: هذا رجل يهدي في الطريق، فالنبي صلى الله عليه وسلم يهدي بمعنى يدل عليه الصلاة والسلام، أما الذي يهدي بمعنى يحول ويغير فهو الله سبحانه، ولا يملك ذلك أحد إلا الله، وهذا معنى قولك: لا حول ولا قوة إلا بالله، فهذه الكلمة كنز من كنوز الجنة، ومعناها لا حيلة لأحد ولا قوة لأحد ولا قدرة لأحد أن يغير شيئاً إلى شيء إلا أن يعينه الله سبحانه تبارك وتعالى، ففيها التبري من الحول والقوة، فكأن الإنسان يقول: أنا يا رب لا أملك شيئاً، أنت تملك كل شيء، أنت الذي توفق إلى الخير وأنت الذي تعين عليه.
أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنقِذُ مَنْ فِي النَّارِ [الزمر:19] والجواب: لا يقدر النبي صلوات الله وسلامه عليه أن ينقذ من في النار، إنما الذي يدخل العباد الجنة أو النار الله سبحانه تبارك وتعالى، بالتوفيق للإيمان أو بالخذلان عن ذلك إلى المعاصي والكفر والطغيان.
وقوله: لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ [الزمر:20] الغرفة بمعنى المكان العالي المرتفع، والغرفة في بيت الإنسان أعلى البيت وأشرف المكان، هذا أصل كلمة الغرفة، فهي المكان المرتفع الذي يأوي إليه الإنسان ويحبه ويكون أشرف الأماكن عنده.
فالمؤمنون في غرف في علالي، بعضها أعلى من بعض كما أن الكفار في دركات بعضها أسفل من بعض، قال الله: لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ [الزمر:20] وهي أعالي الجنات مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ [الزمر:20] فذكر الغرف وهي العالية وفي أعلى منها أيضاً في الجنة للمؤمنين غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ [الزمر:20] بناها ربنا سبحانه تبارك وتعالى، جعلها لبنة من ذهب ولبنة من فضة، وجعل فيها الأنهار، وجعل حصباءها المسك الأذفر، وجعل فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، فهي غرف مبنية، يقول ابن عباس : من زبرجد وياقوت، وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (لبنة من ذهب، ولبنة من فضة، وغرف يرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها)، وذكر النبي صلى الله عليه وسلم خيمة في الجنة طولها خمسون ميلاً من درة مجوفة، وهذه للمؤمن من ضمن خيماته ومن ضمن قصوره، سميت خيمة ولكن حقيقتها أنها جوهرة مجوفة طويله، فهذه خيمة لمؤمن في الجنة! نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أهل جنته.
قال الله سبحانه: تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنهار [الزمر:20] أي من تحت أشجارها، ففي الجنة أشجار عالية، وتجري من تحتها الأنهار، كأنه يريد صورة التنزه في الدنيا، ففي الجنة سترى ما تشتهيه، وتتنزه في الجنة، وتنظر إلى ما يذكره الله سبحانه تبارك وتعالى، وأنهار الجنة ذكرها الله سبحانه فقال: فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ [محمد:15].
جاء في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أهل الجنة يتراءون أهل الغرف من فوقهم كما يتراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق من المشرق أو المغرب لتفاضل ما بينهم)، فأهل الجنة درجة فوقها درجة، درجة فوقها درجة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يقال لقارئ القرآن) أي: الذي يحفظ القرآن (اقرأ وارتق فإن لك بكل آية درجة في الجنة) فكل آية يصعد بها درجة في الجنة، منازل بعضها فوق بعض حتى يصل إلى أعلى المنازل، وهي منازل من يحفظ القرآن كله، ويعمل بما أمر الله عز وجل فيه ويجتنب ما نهى الله عز وجل عنه.
فأهل الجنة الذين تحت ينظرون إلى أهل الغرف، كما تنظر أنت إلى الكوكب الغابر في السماء، كما تنظر إلى نجم بعيد في السماء، تنظر إليه وتتشوق إليه، وترفع بصرك، كذلك أهل الجنة ينظرون إلى أهل الغرفات كما ينظر أحدكم إلى كوكب عال في السماء. (قالوا: يا رسول الله! تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم، فقال: بلى والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين)، فكل مؤمن صدق الرسول صلوات الله وسلامه عليه وعمل بذلك يستحق أن يكون من أهلها.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر