قال الله عز وجل في سورة الأحزاب: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا * لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا * مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا * سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا [الأحزاب:59-62].
أمر الله سبحانه وتعالى نبيه صلوات الله وسلامه عليه أن يأمر أزواجه وبناته ونساء المؤمنين أن يدنين عليهن من جلابيبهن وإدناء الجلباب: هو أن تستتر المرأة فتجعل فوق رأسها ما تستتر به في بدنها كله، قال: ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ [الأحزاب:59].
وكان عادة أهل الجاهلية أن تبدي المرأة شيئاً من شعرها ونحرها، فإذا وضعت خماراً فوق رأسها، لم يخمر رأسها، ولكن يبدو منه شيء، فإذا تركته أرسلته من وراء ظهرها ولم تستر شيئاً من نحرها، فأمر الله سبحانه وتعالى المؤمنة أن تدني عليها جلبابها، والجلباب: الرداء الذي تلبسه المرأة فتجعله فوق رأسها وتستر به بدنها.
وجاء في سنن أبي داود من حديث أم سلمة رضي الله عنها قالت: (لما نزلت يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ [الأحزاب:59]، خرج نساء الأنصار كأن على رءوسهن الغربان من الأكسية).
أي: نساء الأنصار خرجن لصلاة الفجر لما سمعن هذه الآية متلفعات بمروطهن، وفي صحيح البخاري من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي الصبح بغلس، فينصرف نساء المؤمنين لا يعرفن من الغلس أو لا يعرف بعضهن بعضاً)، والحديث رواه البخاري ومسلم من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (كن نساء مؤمنات يشهدن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الفجر متلفعات بمروطهن)، يعني: متجلببات بالمروط.
والمرط: هو الكساء من الصوف أو من القز ونحو ذلك، وهو كساء غليظ تلبسه المرأة وتجعله فوق رأسها وتتلفع به وتدنيه على جسدها حتى لا يبدو منها شيء، ثم تصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الفجر، ثم ينقلبن إلى بيوتهن حين يقضين الصلاة لا يعرفهن أحد من الغلس، وكانت المرأة إذا خرجت من المسجد تمشي بجوار الحائط، وليس في وسط الطريق أو في وسط الرجال، ولا تختلط المرأة بالرجال حتى ولو كانت مجلببة، ولا يبدو منها شيء.
إذاً: المدينة كان فيها مسلمون وكان فيها يهود، فعلى ذلك فإن الفساق في كل مكان موجودون، فالنبي صلى الله عليه وسلم وهو في المدينة كان فيها من المنافقين من يتحرشون بالأمة أن تخرج بالليل أو تخرج في الطريق، فإذا كانت مؤمنة منعها إيمانها الاستجابة لهؤلاء، وإذا كانت كافرة خرجت ولم يمنعها شيء.
والأمة الأصل أنها لا أهل لها، فهي مسبية، إما أنها اشتريت من مكان أو أنها خطفت من مكان وأرسلت لمكان، أو هي التي لا أهل لها، فعلى ذلك يملكها هذا السيد الذي ابتاعها بماله.
فالأمة إذا خرجت لا شيء يمنعها من معصية الله سبحانه وتعالى، فلعلها تخرج فيتعرض لها الفساق فتستجيب للفساق، فأمر الله المؤمنات بالحجاب الشرعي، فإذا نظر الفساق عرفوا المؤمنة بجلبابها، وأدنى أن تعرف المؤمنة بحجابها الشرعي، فلا تختلط بالكافرات، فإذا خرجت المرأة الفاسقة أو الأمة الكافرة، تميزت عنها المؤمنة بحجابها الشرعي.
فالله عز وجل أمر المؤمنة أن تدني عليها من جلبابها وأن تتعفف وأن تتصون فإذا نظر الفساق إليها استحيوا منها وعرفوا أن هذه امرأة حرة، وأنها امرأة مؤمنة فلا يتعرضون لها، فقال الله سبحانه وتعالى: ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ [الأحزاب:59]، أي: هذه مؤمنة حرة، وأنها ليست بغية.
وإذا خرجت المرأة متصونة بحجابها، لا تلتفت يميناً وشمالاً إلى الناس، ولا تنظر إليهم وإنما خرجت بقدر حاجتها ورجعت إلى بيتها لا يتعرض لها أحد إلا أن يشاء الله سبحانه وتعالى، قال سبحانه: ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ [الأحزاب:59]، أي: لا يؤذيهن الفساق بالتعرض لهن، فإذا وجدوا المرأة مجلببة محجبة لا تبدي من زينتها إلا ما ذكر الله سبحانه وتعالى فإنهم لا يتعرضون لها، قال تعالى: وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا [النور:31]، فيكون جلبابها فوق ثيابها لا يبدو منها سواها.
واختلف العلماء في الوجه والكفين كما قدمنا قبل ذلك.
وقد كان النساء يخرجن إلى المساجد لصلاة العشاء، ويخرجن إلى صلاة الفجر، فكن يتلفعن بمروطهن كما ذكرت السيدة عائشة رضي الله عنها في الحديث، وجاء في الحديث الآخر أنها دعت لنساء الأنصار (رحم الله نساء الأنصار، لما نزلت آية الحجاب خرجن إلى الفجر متلفعات بمروطهن) وكانت المرأة لا تجد إلا كسوة في البيت، فتأخذها وترتدي بها وتخرج إلى الصلاة وهي متلفعة لا يبدو منها شيء.
وقوله تعالى: وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [الأحزاب:59] أي: أن الله يغفر لعباده ويسترهم سبحانه وتعالى، ويمحو ذنوبهم بتوبتهم إليه ورجوعهم إليه، ويرحمهم سبحانه وتعالى.
فجمع هنا أصنافاً: المنافقين، والذين في قلوبهم مرض، والمرجفين، وكل طائفة لها سمات ولها صفات:
فالمنافق: الذي يبطن الكفر في قلبه، ويظهر أمام الناس أنه مسلم، فإذا استطاع أن يفسد في الإسلام والمسلمين ويتكلم عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن الناس بما يؤذيهم في ذلك فعل.
أما الذي في قلبه مرض، أي: شهوة في نفسه، فيتعرض للنساء ويفتنهن، فهو في قلبه شك، وفي قلبه تحير، وفي قلبه تردد، وفي قلبه ظلمة المعاصي، وأمراض القلوب كثيرة، فهذا الإنسان المريض القلب هدده الله عز وجل إن لم ينته عن ذلك ليفضحنه الله سبحانه وتعالى، وليسلطن عليه رسوله صلوات الله وسلامه عليه والمؤمنين.
والصنف الثالث: وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ [الأحزاب:60]، والإرجاف بمعنى: رفع الصوت بالكلام الذي يخيف، فأصل الإرجاف: الاضطراب والزلزلة، ويسمى الاضطراب إرجافاً، وتسمى الزلزلة رجفة.
فالمرجف يرجف بالقول ويجعل قلوب الناس تضطرب خوفاً مما يقول، هؤلاء المرجفون الكذابون إذا خرج الصحابة لجهاد في سبيل الله إذا بهم يكذبون ويقولون: قتلوا، تأخروا، لقد غلبهم العدو وهربوا من أمام أعدائهم، فيخاف المؤمنون على إخوانهم.
فهؤلاء المرجفون أصحاب الكذب والاختلاق والافتراء لئن لم ينتهوا عما يقولونه من ذلك وعما يفعلون كما قال تعالى: لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ [الأحزاب:60]، والفعل إذا دخل في أوله لام التوكيد وفي آخره نون التوكيد المثقلة دل على القسم، والمعنى: والله لنغرينك بهم.
والإغراء: التحريش والتسليط، يعني: نسلطك ونوجهك إليهم قبل أن تتوجه إلى الكفار لقتالهم، فنسلطك على هؤلاء فلتقتلنهم تقتيلاً، فالله سبحانه يحذر المنافقين من أن النبي صلى الله عليه وسلم لو أمر بالتوجه إليهم لقتلهم تقتيلاً، كما ذكر الله سبحانه: لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا [الأحزاب:60]، أي: لا يكونون في جوارك في المدينة إِلَّا قَلِيلًا [الأحزاب:60]، يعني: فترة قليلة ثم يطردون.
وقد دله الله عز وجل على بعض هؤلاء المنافقين وقال له سبحانه: وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ [التوبة:84]، فنهاه الله سبحانه أن يصلي عليهم بل أمره بأن يلعنهم صلوات الله وسلامه عليه، وأخبر عن حالهم أنهم أصبحوا مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا [الأحزاب:61].
وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما نزلت سورة براءة قام في المسجد وقال لبعض هؤلاء المنافقين: يا فلان قم فاخرج، يا فلان قم فاخرج، يا فلان قم فاخرج، فقام إليهم إخوانهم من المؤمنين فطردوهم خارج مسجد النبي صلى الله عليه وسلم.
ولم يكن هذا في جميع المنافقين، إنما كان في بعضهم، هذا بيان لقوله سبحانه: لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا [الأحزاب:60]، فطرد البعض منهم فخاف الباقون من ذلك فكانوا يسرون ويكتمون نفاقهم وفسقهم حتى لا يطردهم النبي صلوات الله وسلامه عليه.
وقد علم النبي صلى الله عليه وسلم بمخنث في المدينة اسمه هيت وكان النبي صلى الله عليه وسلم يظن أنه من البله الذين لا يعلمون أمر النساء، فمرة من المرات دخل بيتاً من بيوته صلى الله عليه وسلم، فسمعه وهو يصف لأخ امرأة من نساء النبي صلى الله عليه وسلم أنه إذا فتح الله عليكم مكان كذا فعليك بابنة غيلان، إنها تقبل بأربع وتدبر بثمان. كأنه يصف أعكام بطنها، فتعجب النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (ألا أرى هذا يعلم ما هنا)، فطرده النبي صلى الله عليه وسلم ومنعه أن يدخل بيوت النساء.
فقد كان يدخل بيوت النساء ويظنون أنه من غير أولي الإربة من الرجال، فكانوا يعطونه؛ لكونه ليس من أولي الإربة من الرجال، فلما تبين أمره للنبي صلى الله عليه وسلم طرده ومنعه من الدخول، وأمر بمخنث آخر أن يخرج خارج المدينة فلا ينزل المدينة إلا كل أسبوع ليأخذ طعاماً أو شراباً ويخرج.
وهكذا يصون النبي صلى الله عليه وسلم ويحفظ شريعة الله سبحانه، ويصون عفة أهل المدينة؛ لأنه إذا خالط الفساق أهل بلد من البلدان ضاع الناس وتعلموا منهم، ولا يزال الإنسان ينظر إلى فسق الفاسق وينكر عليه شيئاً فشيئاً حتى لا ينكر عليه، فتخمد الغيرة في قلبه من كثرة ما يرى من مناظر الفسق.
وأمر التبرج والاختلاط يزيد مع الأزمنة حتى يرى أن الأول كان أفضل من الآخر الذي فيه، حتى يأتي عليه زمان ليس هناك زمان شر منه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يأتي على الناس زمان إلا والذي بعده شر منه)، فتن يرقع بعضها بعضاً.
فالإنسان إذا زنى ولم يكن متزوجاً فالحد الشرعي أن يجلد مائة جلدة، أما إذا كان محصناً بنكاح فيقتل رجماً بالحجارة، والإنسان الذي ينظر ويتعقب النساء فهذا إنسان فاسق، قال الله عز وجل: لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ [الأحزاب:60]، إذاً الإغراء: التحريش والتحريض عليهم، ففيه التعزير الشرعي أن يضرب هذا الإنسان وأن يمنع من ذلك، وأن يطرد من المكان إذا كان لا ينفع معه الزجر والنصيحة، قال تعالى: لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا [الأحزاب:60].
إن بلد الإسلام جعل الله عز وجل فيه العفة والصيانة والإيمان، فلا يصلح أن يمكث فيها أهل الفسق، فجعل الله عز وجل حدوداً شرعية تمنع من وجود المعاصي والمنكرات في بلاد الإسلام. فقوله سبحانه عن هؤلاء المنافقين وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ [الأحزاب:60]، أي: لنحرضنك عليهم، ولنحرشنك بهم، ولنسلطنك عليهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلاً مما يرون من الحدود ومن التعذيب ومن الطرد فيطردون خارج المدينة ملعونين، يعني: حال هؤلاء أنهم ملعونون، كل من يسمع أو يذكر هؤلاء يقول: لعنة الله عليهم.
قال الله عز وجل: مَلْعُونِينَ [الأحزاب:61]، فيستحق هذا الفاسق أن يلعن ويستحق هذا المنافق أن يلعن، ويستحق هذا الكذاب المرجف أن يلعن، وقوله تعالى: أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا [الأحزاب:61] أي: أينما وجدوا أخذوا وقتلوا تقتيلاً، فيقتلون تقتيلاً بأمر النبي صلى الله عليه وسلم بجهادهم، فإما أن ينتهوا، وإما أن يسلط عليهم فيكون حالهم ذلك، فخافوا وانتهوا؛ فلذلك لم يقتلهم النبي صلى الله عليه وسلم.
قال الله عز وجل: سُنَّةَ اللَّهِ [الأحزاب:62]، يعني: هذا الذي أمرنا به وهذا الذي بيناه هو سنة الله سبحانه وتعالى، والسنة: العادة أي: عادة الله عز وجل في أمر أنبيائه ورسله بذلك بهذا التصرف مع هؤلاء المنافقين والفساق، قال تعالى: سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ [الأحزاب:62]، أي: مضوا من قبل وقوله تعالى: وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا [الأحزاب:62].
وسنة الله التي لا تبديل لها، وهي أن الله يأمر أنبياءه ورسله عليهم الصلاة والسلام والمؤمنين بجهاد هؤلاء الكفار والمنافقين والفساق والمرجفين حتى يعودوا إلى دين الله سبحانه، أو يطردوا ويبعدوا ويتخلص الناس من شرهم.
نسأل الله عز وجل أن يخلصنا من شر الفساق والفجار والمنافقين والكفار، وأن يظهر دينه ويعزهم بفضله وكرمه سبحانه، وهو على كل شيء قدير.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر