إسلام ويب

تفسير سورة الفرقان الآية [48]للشيخ : أحمد حطيبة

  •  التفريغ النصي الكامل
  • شرع سبحانه في هذه الآية وما قبلها في بيان الأدلة الدالة على وجوده سبحانه، وقدرته التامة على خلق الأشياء المختلفة والمتضادة، وبيان نعمه العظيمة على عباده، من نعمة الظل والضياء والشمس والليل والنهار، وكذلك إرسال الرياح التي تبشر بالمطر وتسوق السحاب من مكان إلى آخر، وهذه السحب محملة بالماء الطهور، الذي به حياة الأرض والإنسان والحيوان، وغير ذلك من النعم العظيمة.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وهو الذي أرسل الرياح بشراً بين يدي رحمته...)

    معنى الطهور والفرق بينه وبين الطاهر وفوائد الماء

    قال سبحانه: وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا [الفرقان:48]، قال: ماء طهوراً ولم يقل: ماءً طاهراً، وإنما هو طهور، والطهور متعد، أي: ليس طاهراً في نفسه فقط، وإنما هو طاهر في نفسه مطهر لغيره، وهذا الفرق بين: أنزلنا من السماء ماءً طاهراً، (وأنزلنا من السماء ماءً طهوراً)، فالماء الطهور: هو ماء طاهر، ولكن يطهر غيره، وقد يكون الماء طاهراً ولا يطهر غيره، مثل: الماء الذي خالطه شيء طاهر فأخرجه عن وصفه ماء، وعن كونه ماءً مطلقاً، فنقول: هذا ماء مخلوط بكذا ولا يصح أن أتوضأ به، ولا تصح إزالة النجاسة به، بل لابد أن يكون ماءً مطلقاً، فالله عز وجل ينزل من السماء ماءً رحمةً لعباده، وقد ذكر في سورة الأنفال: لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ [الأنفال:11].

    فمن فوائد إنزال الماء من السماء: أن الله عز وجل أنزل على العباد في يوم بدر ماء من السماء، فيتطهرون بهذا الماء، أيضاً من الفوائد: أن هذا الماء يستخدمونه في طعامهم وشرابهم، والماء يثبت الأرض تحت أقدامهم بعد أن كانت أرضاً رملية تتحرك وتضطرب تحتهم، فيثبتها ويهبطها بهذا الماء الذي ينزل من السماء، ويذهب عن العباد رجز الشيطان وهواجسه التي تنادي عليهم أن يهربوا من أمام أعدائهم، فالله عز وجل يطهر العباد بما يشاء.

    قوله: وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا هل الماء الذي يخرج من الأرض ليس بطهور؟ لا، ليس هذا بمقصود، ولكن جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الماء طهور لا ينجسه شيء) يعني: الماء باق على أصل خلقته، ولما سئل عن ماء البحر صلوات الله وسلامه عليه قال: (هو الطهور ماؤه الحل ميتته) فالماء النازل من السماء هو ماء طهور، وكذلك الماء النابع من الأرض أو الجاري فوقها أيضاً هو ماء طهور؛ لما جاء في سنة النبي صلوات الله وسلامه عليه.

    وهنا يذكر الإمام القرطبي في تفسيره للماء الطهور فيقول: المياه المنزلة من السماء والمودعة في الأرض طاهرة مطهرة على اختلاف ألوانها وطعومها وأرياحها حتى يخالطها غيرها. يعني: أن الماء الذي نزل من السماء ماء طاهر وطهور، حتى لو تغير لونه، والماء النابع من الأرض كذلك، إلا أن يتغير بنجاسة فيأخذ حكم الماء النجس، لكن إذا لم تغيره نجاسة، أما ما خرج من بئر أو خرج من النهر أو البحر، فهذا كله ماء طاهر، وسواء كان ملحاً أو مراً أو عذباً فكله طاهر، فعلى ذلك مياه الآبار حتى وإن تغيرت بالمجاورة بالرمال أو بالتراب الذي حولها فهي طاهرة ومطهرة، يتطهر بها الإنسان يتوضأ ويغتسل ويشرب منها، فعلى ذلك الماء الخارج من الأرض الأصل فيه أنه طاهر، لكن إذا جاءت نجاسة على هذا الماء فغيرته وأخرجته عن وصفه صار نجساً، إلا أن يكون ماءً كثيراً ولم تغيره هذه النجاسة، فهو باق على أصل طهوريته؛ لأنه جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث، أو قال: لم ينجسه شيء) .

    والقلتان: حوالي خمسة أمتار مكعبة من الماء؛ فإذا كان الماء بهذا الحجم فهذا كثير، فإذا وقعت فيه نجاسة يسيرة ولم تغيره فهو باق على أصل خلقته، والحديث بمنطوقه يدل على ذلك، وبمفهومه يدل على أنه لو كان أقل من هذا فوقع فيه شيء من النجاسة، فإنه يتنجس الماء بذلك.

    يقول الإمام القرطبي في التفسير: الماء المتغير بقراره كزرنيخ أو جير يجري عليه، أو تغير بطحلب أو ورق شجر ينبت عليه لا يمكن الاحتراز عنه، فاتفق العلماء أن ذلك لا يمنع من الوضوء به.

    المعنى من كلامه: أنه طالما هو في البئر أو في النهر ووقعت عليه أوراق أشجار فتغير الماء بشيء من الاخضرار، فهو باق على طهوريته، ويجوز الوضوء منه على ذلك، كذلك ماء بئر في صحراء إذا طارت عليه الرمال أو التراب ومن الجير ونحوه فتغير وتعكر، لكن لم يخرج عن وصفه ماء فهو طاهر، ويجوز للإنسان أن يتوضأ به ويغتسل منه وهكذا.

    حكم سؤر الإنسان المسلم والكافر

    قال القرطبي : يكره سؤر النصراني وسائر الكفار، والمدمن الخمر، وما أكل الجيف كالكلاب وغيرها، ومن توضأ بسؤرهم فلا شيء عليه.

    السؤر: هو ما بقي من الماء، فلو أن إنسان نصرانياً عنده إناء فيه ماء فشرب منه وجاء مسلم وأراد أن يشرب فإنه يكره له ذلك، لكن لا يحرم ذلك؛ لأنك لم تستيقن النجاسة في ذلك، فيجوز للمسلم أن يشرب باقيه أو أن يتوضأ به، ولكن يكره ذلك، سواء كان نصرانياً أو يهودياً أو غيرهم من الكفار.

    قال: وكذلك المدمن الخمر، فلو أن إنساناً شرب الخمر ثم أخذ إناء فيه ماء وشرب من هذا الإناء، فإنه يكره الشرب من أثر هذا الإنسان.

    في الماضي يتكلم في هذه المسألة من حيث الطهارة والنجاسة، فيقول: يكره ذلك باعتبار أن هذا الإنسان الذي يشرب الخمر فاسق، ولم يقل: حرام، لكن الآن مع وجود التحاليل الطبية وغير ذلك، نقول: إن الأفضل للإنسان ألا يشرب من أثر أي إنسان؛ لأنه لا يدري ما يكون في فم هذا الإنسان من مرض، كأن يكون مريضاً بالسل، أو بالربو، أو عنده مرض رئوي أو مرض في الفم وكذا، فيتأذى الناس بعضهم من بعض بهذا الشيء، فالإنسان يأخذ حذره في ذلك، ولا يؤذي نفسه ولا يؤذي غيره.

    إذاً: كلام الفقهاء هنا في كونه نجساً أو طاهراً، وليس معنى ذلك: أنه مأمور أن يشرب أو يستحب له، لا؛ لأن مع كثرة الأمراض لابد أن يأخذ حذره من هذا الشيء، ولذلك نمنع من جعل الماء في العلب وإن كان بعض إخواننا يحب أن يجعلها في المسجد، فكنا نفعل هذا الشيء في الماضي، أما الآن مع كثرة الأمراض وكثرة الأوبئة وانتقال العدوى بقدر الله سبحانه وتعالى، بأسباب ملموسة معروفة، فعلى الإنسان أن يجتنب هذا الشيء؛ لأن الأمراض تنتقل بأسباب لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى، ومن ذلك فيروس الكبد، فإنه ينتقل عن طريق اللعاب، وهناك فيروسات تنتقل عن طريق الدم، فعلى ذلك تأخذ حذرك فلا تشرب من هذه العلب الموضوعة في المساجد أو في الشوارع، وهذا لا ينافي قضاء الله وقدره سبحانه وتعالى، وإنما هو أخذ بالأسباب فلا نؤذي أحداً من الناس، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فر من المجذوم فرارك من الأسد) فالنبي صلى الله عليه وسلم يعلمنا أن نحتاط، وهذا لا يمنع قدر الله؛ لأنه سبحانه إن شاء لك شيئاً لا قدر الله وقع وجرى، وليس معنى ذلك: أنه إذا كان قدر الله جارياً أن نتركه يجري دون الأخذ بالأسباب، لا؛ لأن الجوع والعطش من قدر الله فنحن ندفع القدر بالأخذ بالأسباب فنأكل ونشرب، فكذلك ندفع قدر المرض بالوقاية منه، وعدم الاقتراب من الأسباب المؤدية إليه، وإذا وقع ندفعه بالتداوي بالمباح، ولذلك جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا نزل الطاعون بأرض وأنتم فيها فلا تخرجوا منها، وإن لم تكونوا فيها فلا تدخلوها) فنهانا أن ندخل مكاناً فيه الطاعون؛ احتياطاً لأنفسنا، وإن كان قضاء الله عز وجل يجري.

    ثم قال: وما أكل الجيف كالكلاب وغيرها. والمعنى: أن هناك أناس مثل الصين يأكلون الكلاب والهرر وغيرها من الجيف، فهذا الإنسان لو أنه أخذ الإناء وشرب منه، فهل يجوز للمسلم أن يشرب من هذا الإناء الذي شرب منه ذلك الكافر الذي يأكل الجيف والكلاب وغير ذلك؟ هذا الشيء مؤذ، لكن الفقهاء لا يحرمون ذلك وإنما قالوا: يكره ذلك، كذلك يجوز الوضوء من ذلك الإناء، فقد قال الإمام البخاري : وتوضأ عمر رضي الله عنه من بيت نصراني. يعني: لما خرج عمر رضي الله تعالى عنه إلى الشام طلب ماء ليتوضأ، فقامت امرأة نصرانية فأدت لـعمر ماء فتوضأ رضي الله تعالى عنه.

    وهذا الماء شرب منه عمر رضي الله تعالى عنه، فكان ماءً عذباً، فلما شرب منه صعب عليه حال هذه المرأة النصرانية، فقال لهذه المرأة: أيتها العجوز أسلمي تسلمي. يعني: عندما أكرمت عمر بهذا الماء الطيب العذب فشرب منه وتوضأ رأى أن يدعوها للإسلام إكراماً لها، فقال: أسلمي تسلمي، فقد بعث الله سبحانه محمداً صلى الله عليه وسلم بالحق، فكشفت المرأة عن رأسها فإذا مثل الثغامة، يعني: أبيض، فقالت: عجوز كبيرة أموت الآن، يعني: بعد السن أدخل في الإسلام وأغير ديني! فقال عمر رضي الله عنه: اللهم اشهد.

    حكم ولوغ الكلب في الماء الذي في الإناء

    يقول الإمام القرطبي : فأما الكلب إذا ولغ في الماء فقال مالك : يغسل الإناء سبعاً ولا يتوضأ منها، فقد ثبت في حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبع مرات أولاهن بالتراب)، أو قال: (إحداهن بالتراب) ، أو قال: (وعفروه الثامنة بالتراب)، فهذا بيان: أنه لا يجوز لك أن تتوضأ بماء شرب منه الكلب، هذا إذا كان ماءً قليلاً في إناء، أما إذا كان ماء في بئر فسؤر الكلب وريقه لا ينجس البئر، إنما ينجس الإناء بذلك؛ لأنه قال: (إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم).

    أيضاً لو أن الكلب أخذ ثوبك وعضه فإنه ينجس الثوب ويغسل مرةً واحدة فقط، لكن الإناء فقط هو الذي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بغسله سبع مرات أولاهن بالتراب

    فهنا أمر بغسل الإناء سبع مرات، فدل على أن هذا الماء ينجس، لكن الإمام مالك ذهب إلى أن الماء طاهر وليس نجساً، ولكن يغسل الإناء سبع مرات تعبداً، هذا قوله رحمه الله، والصواب قول الجمهور: أن هذا دليل على النجاسة.

    وجاء في حديث آخر عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات أولاهن بالتراب)، وهذا الحديث نص في المسألة (طهور): يعني: التطهير، ولا يكون التطهير إلا من نجاسة، فعلى ذلك يكون ريق الكلب نجساً وليس طاهراً، فإذا ولغ الكلب في الإناء فلا بد من غسل أثر الكلب فيها، فيغسل سبع مرات إحداهن بالتراب، والأفضل أن تكون الأولى بالتراب، وكأن ريق الكلب فيه شيء لا يزول إلا بالتراب، وبعض المحللين الذين حللوا المياه التي شرب منها الكلب وجدوا أنواعاً من الجراثيم لا تزول إلا بالتراب، فقالوا: التراب يزيل هذا الشيء، فسبحان الله! فقد جعل عز وجل التراب عجيباً، ويكفي أن الميت يكون دفنه في التراب، فإنه بعد ذلك يتحلل أثر الميت تماماً من هذا التراب، ولا يكون في التراب شيء منه، فالله عز وجل يخلق ما يشاء، ويخبر سبحانه وتعالى عن الشيء الحق، فالماء طهور والتراب أيضاً طهور عند عدم وجود الماء والله أعلم.

    نكتفي بهذا القدر، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718712

    عدد مرات الحفظ

    765796057