الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة المؤمنون:
فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ * فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ * أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ * قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ * رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ * قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ [المؤمنون:101-108].
ذكر الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات قيام الساعة فقال سبحانه: فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ ، وقد ذكر لنا ربنا سبحانه وتعالى في آيات أخرى النفخ في الصور، وذكر أنه ينفخ مرتين: نفخة الصعق، ونفخة الإحياء والبعث.
فإذا نفخ النفخة الأولى فإنه يموت جميع الخلق، فلا أحد ينفع غيره، لا الوالد ينفع ولده، ولا الولد ينفع والده وهكذا.
فإذا نفخ في الصور النفخة الثانية قاموا من القبور إلى العرض والنشور، وكل إنسان في فزع شديد، فلا أحد ينظر إلى أحد، ولا أحد ينفع أحداً، ولا يدعى إنسان بنسبه، فلا يقال: يا فلان تعال أنقذني أنا أبوك أو أنا ابنك، فكل إنسان يقول: نفسي نفسي، فلا يسأل الناس في هذا اليوم عن أسمائهم أو أنبائهم أو أحوالهم أو أنسابهم، فكل إنسان منشغل بنفسه.
والخسران في الدنيا هو أن يخسر الإنسان ماله وأولاده وأصدقاءه، ولكن الخسران العظيم أن يخسر نفسه، والإنسان في الدنيا يفدي نفسه بأي شيء من أجل أن ينجو بها، فإذا جاء يوم القيامة يقول: نفسي نفسي، وإذا به في خسران مبين، ضاعت منه الدنيا وضاع منه العمل وإذا به من أهل النار والعياذ بالله.
فالكفار خالدون في النار ولن يخرجوا منها، والموحدون لهم خلود في النار ولكن خلود دون خلود، ويكفي وصفه بأنه خلود فترة طويلة جداً لا يعتد بالسنين، فلا هو مائة سنة ولا مائتي سنة ولا ألف سنة ولا غير ذلك، ولكن وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ [الحج:47] فإذا كان اليوم الواحد بألف سنة فكم سيكون الخلود في نار جهنم والعياذ بالله؟!
فالنار تبدأ في وجوه هؤلاء الكفار فتشويها، وتلفح بمعنى: تنفح في الوجه أو تنفخ بلهيبها في وجوههم فتحرقها وتلسعها بنار جهنم.
قالوا: الكلوح تكشر في عبوس، يقال: فلان كشر عن أنيابه أي: أنه تقلصت العضلات التي في الوجه بحيث انفتح الفم وظهرت الأنياب، وبمعنى: تبسم، لأنه عندما يتبسم الإنسان تنقبض عضلات الوجه، فيبدو الفم والأسنان، فهذا أصل الكشر.
وهنا يقول أبو الدرداء رضي الله عنه: إننا نكشر في وجوه أقوام وقلوبنا تلعنهم، فنكشر بمعنى نتبسم، أي: ندفع شر هؤلاء بالتبسم في وجوههم ولكننا لا نحبهم، فهذا الكشر بمعنى ظهور أسنان الإنسان، وهم في النار لا يضحكون ولكن من شدة العذاب تقلصت الشفاه فإذا بالأسنان تبدو فيها، والمنظر غاية في القبح فالوجوه عابسة والأسنان بادية.
وقال ابن مسعود رضي الله عنه: ألم تر إلى الرأس المشيط بالنار قد بدت أسنانه وقلصت شفتاه.
وفي الترمذي عن أبي سعيد الخدري مرفوعاً: (وهم فيها كالحون) قال: (تشويه النار فتقلص شفته العليا حتى تبلغ وسط رأسه، وتسترخي شفته السفلى حتى تبلغ سرته)، وإن كان في إسناده ضعف.
والإنسان المحروق بالنار فإن جلده يشيط وينكمش، فكذلك هؤلاء، فعندما تأتي نار جهنم والعياذ بالله على وجوههم فإنها تنكمش هذه الوجوه، فإذا بهم عابسون في نار جهنم من شدة الضيق والهم والعذاب الذين هم فيه، كذلك الوجوه مشوية ومشوهة، قال تعالى: كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ [النساء:56] والعياذ بالله.
والموحدون الذين كانوا يصلون في الدنيا وكانوا يعصون ربهم وغلبت عليهم السيئات فدخلوا النار، فإن النار لا تأتي على الأماكن التي كانوا يسجدون عليها، وهي: الجبهة والكفان والركبتان وبطون أصابع القدمين.
وسيكون جوابهم على سؤال ربهم: قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ [المؤمنون:106]، وهذه قراءة الجمهور، وقراءة حمزة والكسائي وخلف : (ربنا غلبت علينا شقاوتنا)، أي: كنا في شقاوة في الدنيا، ولها معاني: المعنى الأول: غلب علينا ما كنا فيه من لذات وشهوات وشبهات، فكنا من أهلها وضيعنا أنفسنا، وهذا معنىً صحيح.
ومعنىً آخر: أنهم قالوا ذلك لربهم سبحانه: غلبت علينا شقوتنا أي: حسن ظننا بأنفسنا أننا لن نعذب، وأنك كما أعطيتنا في الدنيا ستعطينا يوم القيامة فلم نعمل صالحاً.
وهذه مصيبة الإنسان أن يحسن الظن بنفسه ويظن أن إعطاء الله له في الدنيا دليل على أنه يحبه، ولذلك ترى الإنسان إذا كسب مكسباً فإنه يقول: ربنا يحبني لأنني كسبت هذا النهار كذا! وما يدريه أنه يحبه أو يبغضه، وكونه يعطيه من الدنيا ليس دليلاً على المحبة، وإلا لو كان هذا محبة لكان أولى بها النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان يبيت أحياناً ويطوي صلى الله عليه وسلم على بطنه من شدة الجوع، وكانت النار لا توقد في بيته الشهر والشهرين والثلاثة صلوات الله وسلامه عليه، وإنما كان يأكل الأسودين التمر والماء عليه الصلاة والسلام، فإعطاء الله عز وجل العبد في الدنيا ليس دليلاً على محبته وليس دليلاً على أنه سوف يعطيه يوم القيامة.
المعنى الثالث من المعاني: أنهم احتجوا بالقدر واعتذروا به، فقالوا: مثلما أنت تقول في الدنيا: قدر الله وما شاء فعل، فهذا قدر الله عز وجل، فقالوا ذلك على وجه الحسرة: أنه غلبت علينا شقوتنا، أي: ربنا كتب عنده أننا معذبون، وهانحن عذبنا بما كتبه الله عز وجل، وربنا إذا حاسبهم لن يقول: قدرت عليكم كذا فأدخلتكم النار، وإنما يقول: عملتم كذا، فيسأل الإنسان عن عمله وليس عن قدر الله سبحانه وتعالى.
وأمر القدر مبني على علم الله وحكمته وقدرته سبحانه وتعالى، فهو على كل شيء وتقديره لكل شيء، وهذا أمر أمرنا أن نؤمن به، أما أن تحتج به فلا ينفعك الاحتجاج بالقدر؛ لأنك تعمل الحسنة وتجد نفسك قادراً على فعلها، ومختاراً أن تفعل أو تترك.
والله عز وجل علم أنك تفعل، وقدر أنك تفعل، ولكن أعطاك اختياراً فاكتسبته باختيارك، ولم تستشعر وأنت تعمل الحسنة أنك مجبر عليها، وفي وقت فعل السيئة أيضاً لا تستشعر أنك مجبر عليها وإنما تفعلها باختيارك.
وقد أمرنا الله تعالى أن نؤمن بالقضاء والقدر، وأن الله قدر وعلم سبحانه وكتب عنده سبحانه وتعالى، وأن ما علمه مستحيل أن يغير، ولكن حين نعمل نحن نستشعر بالاختيار وبالكسب في العمل، فالإنسان عندما يأكل فهو قادر أن يمسك اللقمة وأن يضعها في الإدام أو في الملح أو في الحلو، ومختار أن يأكل هذا أو يتركه، ولم يقل في هذه الحال: القدر جعلني آكل هذا وأترك هذا.
فكذلك العمل، فكما قدر الله عز وجل لك قوتك أن تأكله ومكتوب عنده ذلك، كذلك قدر عنده سبحانه أنك تعمل هذا الخير أو هذا الشر، فهذا الأمر نؤمن به، أما العمل فيلزمك أن تعمل الخير وأن تترك الشر، فأنت محاسب على اكتسابك خيراً أو شراً، ولن يقول الله للناس يوم القيامة: ادخلوا النار لأنني كتبتها عليكم، ولكن يقول: جزاءً بما كنتم تعملون.
فلما احتج هؤلاء بالقدر أنه ساقهم إلى النار وأنهم ضلوا في الدنيا وتاهوا عن طريق الجنة لم يسمع منهم ذلك.
وقوله تعالى: رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ أي: لن نعمل هكذا مرة أخرى إن رجعنا إلى الدنيا، وقد أخبرهم الله تعالى في الدنيا أنها مرة واحدة فقط، وأن الله سبحانه وتعالى يحيي الإنسان ثم يميته ثم يبعثه ليوم القيامة ولا رجوع إلى الدنيا مرة ثانية، فلما قالوا: رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ كان الجواب: قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ [المؤمنون:108] يقال: خسئت الكلب بمعنى: طردته وأبعدته، وهذه الكلمة تقال للكلاب والخنازير، فصاروا كالكلاب في نار جهنم والعياذ بالله، ورد الله عليهم بهذا الرد الشديد الفظيع القبيح: اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ أي: اذهبوا إلى نار جهنم مطرودين من الرحمة ولا تكلمون.
وجاء عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: إن أهل جهنم يدعون مالكاً خازن النار فلا يجيبهم إلا بعد أربعين عاماً، قال تعالى: وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ [الزخرف:77]، وذلك عندما يأمر الله البهائم أن تكون تراباً، فيتمنى الكافر أن يكون كالبهائم، قال تعالى: وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا [النبأ:40]، ولما أيقن أنه لن يكون تراباً وأنه سيكون في نار جهنم خالداً فيها، فإنه ينادى مالكاً أن يميته الله في جنهم، قال تعالى: وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ [الزخرف:77]، فكان الجواب أنه سكت عنهم أربعين سنة ثم قال لهم: إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ .
وقال عبد الله بن عمرو : هانت والله دعوتهم على مالك ورب مالك، قال: ثم يدعون ربهم فيقولون: قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ * رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ [المؤمنون:106-107] فيسكت عنهم ربهم سبحانه وتعالى أمداً طويلاً، قال: عبد الله بن عمرو : قدر عمر الدنيا مرتين، وتركهم في نار جهنم، ثم يرد عليهم بقوله: اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ [المؤمنون:108] قال: فوالله ما نبس القوم بعدها بكلمة. يعني: بعدما تضرعوا وطلبوا من مالك ليقض عليهم ربهم، ثم سألوا رب العالمين سبحانه وتعالى وكان الجواب ذلك، قال: فما نبس القوم بعدها بكلمة، وما هو إلا الزفير والشهيق في نار جهنم، فشبه أصواتهم بصوت الحمير، أوله زفير وآخره شهيق.
وجاء أيضاً في الأثر أن الله سبحانه وتعالى مكث عنهم ما شاء الله وناداهم: أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ [المؤمنون:105] فلما سمعوا ذلك ظنوا أن الله عز وجل سيرحمهم وسيخرجهم من نار جهنم، فقالوا: رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ * رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ [المؤمنون:106-107]، فقال عند ذلك: اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ [المؤمنون:108]، فانقطع عند ذلك الرجاء والدعاء وأقبل بعضهم على بعض ويصرخ بعضهم في وجوه بعض، وأطبقت عليهم النار والعياذ بالله.
هؤلاء هم أهل النار، وهذا حالهم في نار جهنم يستغيثون فيغاثون بماءٍ كالمهل يشوي الوجوه، ويطلبون الطعام وطعامهم من شجرة الزقوم، ونار مطبقة عليهم، وينادون ربهم أن يرجعهم إلى الدنيا ولا رجوع، ويقال لهم: اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ ، ويطلبون أن يكونوا تراباً فلا يكونون كذلك أبداً، فهذا حال أهل النار، فمن من الناس يتذكر هذا الحال فيود أن يكون مع هؤلاء والعياذ بالله؟!
وعمل الإنسان في الدنيا هو الذي ينجيه من عذاب رب العالمين يوم القيامة، والدنيا عمرها قصير وخطرها كبير عظيم، فالإنسان المسلم يحتاط لنفسه في هذه الدنيا قبل أن يرد هذا المورد الذي لا خروج منه.
نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر