اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة المؤمنون: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ [المؤمنون:12-16].
ذكر الله عز وجل في هذه الآيات مراحل خلق الإنسان، وكيف خلقه الله سبحانه وتعالى من شيء حقير: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ [المؤمنون:12]، فهذا أصل الإنسان، وقد ذكر الله عز وجل في خلق الإنسان آيات في كتابه سبحانه وتعالى، كقوله في سورة الكهف: قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً [الكهف:37]، كما في قصة الرجلين اللذين آتى الله عز وجل أحدهما جنتين، ولم يؤت الآخر، فاستكبر صاحب الجنتين على صاحبه الذي يعبد الله سبحانه، وقال: أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا [الكهف:34] .. قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ [الكهف:37]، فأصل خلق الإنسان من التراب، وهنا ذكر الله أنه خلقه من طين، أي: خلقه الله عز وجل من تراب وماء، والأصل في خلقه التراب، والعناصر الموجودة بجسم الإنسان هي نفس العناصر الموجودة في التراب، وأكثر جسم الإنسان من الماء، فهو مخلوق من التراب والماء.
قال الله عز وجل: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ [غافر:67]، وقال سبحانه: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ [فاطر:11]، وقال: خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ [النحل:4]، يذكره الله بأول خلقه وإذا به يخاصم، ويناظر، ويجادل خالقه سبحانه وتعالى! وقال سبحانه: أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ [يس:77]، وقال: ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ [السجدة:8]، يخرج من المحل الذي يخرج منه البول، يستقذره الإنسان، وقال: أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ [المرسلات:20]، فهذا بدء خلق الإنسان، فالله يذكره بأن هذا بدء خلقك، فليس لك أن تجادل ربك، وليس لك أن تستكبر على الخلق، فأنت خلقت من تراب مثلهم، وخلقت من ماء مهين.
فالذي ينظر لمراحل التخليق في بطن المرأة يعلم قدرة الله عز وجل، وكيف حفظ الله هذا الجنين في هذه الأطوار.
ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً النطفة تتحول إلى علقة، فهذه النطفة الملقحة تلتصق في جدار الرحم، مثل النبات الذي له جذر يمص بجذره الماء الذي يغذيه، وكذلك هذه النطفة تصير كالعلقة تعلق بجدار الرحم، وتأخذ منه ما يغذيها من الدماء.
(فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً) العلقة تتحول إلى مضغة، وهي صغيرة جداً، وهي كهيئة قطعة اللحم الممضوغة، وتوصف في الكتب العلمية كأنها لبانة ممضوغة، فيها آثار الأسنان.
قال الله: (فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا) تتحول هذه المضغة إلى عظام، والله عز وجل ذكر العظام قبل اللحم، وكان المعروف عند علماء الطب إلى عهد قريب أن اللحم يتكون في البداية ثم العظم بعده، ولكن الله عز وجل ذكر العظم ثم اللحم بعده، وهذا الذي اكتشفوه حديثاً أن العظام تتكون في البداية ثم بعد ذلك اللحم.
وكانوا قبل أكثر من قرن يقولون: إنه يتكون اللحم ثم العظم، ثم بعد ذلك قبل سنوات قريبة قالوا: يتكون العظم واللحم معاً، ثم اكتشفوا أن العظم يتكون الأول ثم اللحم بعد ذلك، وهذا قد ذكره الله عز وجل هنا، وهم قالوا: إن الفرق بين خلق العظم واللحم وقت يسير جداً لا يكاد يلاحظ؛ ولذلك كانوا يعتقدون أن العظم واللحم يتكونان سوياً.
قال الله: فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ [المؤمنون:14]، في هذا الطور تكون المضغة المخلقة وغير المخلقة، وتكون الغضاريف التي فيها العمود الفقري والرأس، ثم يتحول إلى خلق آخر وهو خلق الجنين على الهيئة المعروفة في بطن المرأة، فيه اليد، وفيه الرجل، والرأس، والعين، والأنف، (ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ).
وقوله سبحانه: (فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا) هذه قراءة الجمهور، وقرأها ابن عامر وشعبة عن عاصم : (فخلقنا المضغة عظماً فكسونا العظم لحماً).
وخلق الجنين خلق عجيب، ففي مرحلة من المراحل لا تميز بين هذه المضغة التي تكون في الإنسان أو الحيوان حتى يحوله الله عز وجل خلقاً آخر متمايزاً، فيتميز الإنسان عن غيره من الحيوانات في المراحل التي بعد ذلك، قال الله: (ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ)، عندما يسمع الإنسان ذلك لا يسعه إلا أن يقول: (فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ) أي: كثرت بركة رب العالمين سبحانه وتعالى، وتمجد الله سبحانه في بديع صنعه، وعظيم ما خلق سبحانه.
(قال الرجل: فمن أول الناس إجازة؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: فقراء المهاجرين، فقال اليهودي: فما تحفتهم حين يدخلون الجنة؟)، والتحفة ما تتحف به الضيف أو من يأتي إليك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (زيادة كبد النون)، والنون هو: الحوت، فالله عز وجل يطعم هؤلاء من الزيادة التي على كبد الحوت، والله أعلم بعظمه، خلقه الله وجعل تحفة أهل الجنة الأكل من زيادة كبد هذا الحوت، (قال اليهودي: فما غذاؤهم على إثرها؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ينحر لهم ثور الجنة الذي كان يأكل من أطرافها، قال اليهودي: فما شرابهم عليه؟ قال صلى الله عليه وسلم: من عين فيها تسمى سلسبيلاً، قال: صدقت، قال: وجئت أسألك عن شيء لا يعلمه أحد من أهل الأرض إلا نبي أو رجل أو رجلان، فقال صلى الله عليه وسلم: وهل ينفعك إذا حدثتك؟! فقال: أسمع بأذني، قال: جئتك أسألك عن الولد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ماء الرجل أبيض، وماء المرأة أصفر، فإذا اجتمعا فعلا مني الرجل مني المرأة أذكر بإذن الله، وإذا علا مني المرأة مني الرجل آنث بإذن الله، فقال اليهودي: لقد صدقت وإنك لنبي)، وما قال: أشهد أن لا إله إلا الله، بل قال: أنت نبي، ويقولون: هو نبي الأميين. (قال: ثم انصرف فذهب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد سألني الذي سألني عنه ومالي علم بشيء منه حتى أتاني به) يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ما كنت أعرف هذه الأجوبة، ولكن نزل الوحي حالاً على النبي صلى الله عليه وسلم يخبره بالأجوبة عن هذه الأسئلة.
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ماء الرجل أبيض، وماء المرأة أصفر) يقول العلماء الذين يتكلمون عن هذا الحديث من علماء الطب: إن البشرية لم تعلم بواسطة علومها التجريبية أن الجنين يتكون من نطفة الرجل ونطفة المرأة إلا في القرن التاسع عشر، فقد كانوا يظنون أن الجنين من نطفة الرجل فقط، وتيقنوا ذلك في أول القرن العشرين.
والحديث تضمن وصفاً لماء الرجل وماء المرأة، وإن كان أكثر أهل الطب إلى عهد قريب يقولون: المرأة ليس لها ماء، فلا يوجد إلا المني من الرجل فقط، ثم بعد ذلك اكتشفوا أن في المرأة حويصلة جراف اكتشفها رجل اسمه دارك، هذه الحويصلة تخرج سائلاً لونه أصفر، قالوا: ماء المهبل يميل إلى الصفرة، وكذلك الماء في حويصلة جراف، قالوا: لكنه يكون قليلاً فلا تشعر به المرأة في الغالب، وقد تشعر به بعض النساء.
قالوا: عند خروج البويضة من هذه الحويصلة تدعى حينئذ الجسم الأصفر، فلونها أصفر، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ماء الرجل أبيض، وماء المرأة أصفر)، ولم ير ذلك صلى الله عليه وسلم، وإنما أخبره الوحي بذلك.
وهنا إعجاز آخر حيث قال: (فإذا اجتمعا فعلا مني الرجل مني المرأة أذكر بإذن الله)، يعني: يكون المولود ذكراً، وإن علا مني المرأة كان المولود أنثى، يقول العلماء: في هذا الحديث إشارة إلى أن إفرازات المهبل لها تأثير في الذكورة والأنوثة، قالوا: إفرازات المبيض حمضية، وتقتل الحيوانات المنوية، وإفرازات عنق الرحم في المرأة قلوية، ولكنها لزجة، وإفرازات الرجل قلوية أيضاً، فإذا غلبت قلوية الرجل على إفرازات الرحم الحمضية كان الجنين ذكراً، وإذا علا ماء المرأة كان المولود أنثى كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم.
قال العلماء: لهذه الإفرازات تأثير على نشاط الحيوانات المنوية المذكرة أو المؤنثة، وقد ذكر الشيخ عبد المجيد الزنداني هذا الأمر، وذكر أنه بحث عن هذا طويلاً حتى لقي دكتوراً مصرياً في أمريكا له سنين يحضر في هذا الأمر، وأخبره أن هذه المسألة ما زالت تحتاج إلى أبحاث جديدة، وله فيها أبحاث لم ينشرها، فأخبره الزنداني بأن هذا موجود في حديث النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أن ماء الرجل وماء المرأة يكونان سبباً في ذكورة أو أنوثة المولود، فقد قال عليه الصلاة والسلام: (إذا علا ماء الرجل كان ذكراً بإذن الله، وإذا علا ماء المرأة كانت أنثى بإذن الله).
ومن الأحاديث التي جاءت في هذا المعنى حديث أنس بن مالك الذي رواه البخاري ، وفيه أن عبد الله بن سلام بلغه مقدم النبي صلى الله عليه وسلم فأتاه يسأله عن أشياء فقال: إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي، وهذا عبد الله بن سلام كان من أحبار اليهود، وقد أسلم، أما الآخر فلم يذكر أنه أسلم، فـابن سلام سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أول أشراط الساعة، وما أول طعام يأكله أهل الجنة؟ وما للولد ينزع إلى أبيه أو إلى أمه؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أخبرني بها جبريل آنفاً)، وذكر له مثل ما ذكر في الحديث الأول، وقال: (أما أول أشراط الساعة فنار تحشرهم من المشرق إلى المغرب، وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد الحوت، وإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد ذكراً) يعني: إذا غلب ماء الرجل صار الولد ذكراً، (وإذا سبق ماء المرأة ماء الرجل صار الولد أنثى، فقال
والغرض بيان أن القرآن وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم فيها بيان حقائق علمية اكتشفت الآن في زماننا، وهي تبين قدرة الله سبحانه وتعالى، وإعجاز هذا القرآن العظيم، حيث يخبر بحقائق علمية لم تكشف إلا الآن، وقد ذكرها القرآن قبل ألف وأربعمائة عام.
نسأل الله عز وجل أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر