ما زلنا في سورة المؤمنون التي قدمنا شيئاً من تفسير أول آياتها قبل ذلك، وقد بدأها ربنا سبحانه وتعالى بقوله: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ [المؤمنون:1] ذكر النهاية والنتيجة التي يسعى إليه كل إنسان مؤمن وهي أن يكون من المفلحين، فبدأ بالأهم الذي يرجوه كل إنسان، والذي خلق الله عز وجل الخلق من أجله وهو أن يفلحوا بطاعتهم وبعبادتهم لله سبحانه.
قال الله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ومن صفات هؤلاء المؤمنين ما ذكر الله عز وجل هنا: الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ [المؤمنون:2-9]، هؤلاء هم المؤمنون الذين حكم الله عز وجل لهم بالفلاح، ثم ذكر أن فلاحهم أنهم ينجحون عند الله عز وجل ويفوزون الفوز العظيم الذي لا خسران بعده أبداً فقال: أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [المؤمنون:10-11] والفردوس: هي أعلى الجنة وأوسط الجنة وفوقها عرش الرحمن سبحانه وتعالى، فهؤلاء الذين اجتمعت فيهم هذه الصفات هم أهل الفردوس الأعلى، وهم في عليين، وهم المقربون من رب العالمين، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا منهم.
تفضل الله عز وجل على المؤمنين بأن جعلهم يرثون الفردوس، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم المؤمنين إذا دعوا ربهم وسألوه أن يسألوه الفردوس الأعلى من الجنة فقال: (إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس الأعلى من الجنة؛ فإنه أعلى الجنة وأوسطها، وفوقه عرش الرحمن، ومنه تفجر أنهار الجنة)، فالإنسان المؤمن إذا سأل الله فليسأله أهم الأشياء وأعظم الأشياء، ويكون هذا هو شاغل الإنسان المؤمن عن الدنيا وعن فتنها وعن مصائبها، أنه يرجو في النهاية الفلاح والفوز العظيم، ويخاف من الخسران ويخاف من النار، فيسأل ربه سبحانه وتعالى ليل نهار أن يكون مع (النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا) في الفردوس الأعلى.
وقد جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله تعالى جعل لكل إنسان مسكناً في الجنة ومسكناً في النار) فأما المؤمنون فيأخذون منازلهم ويرثون منازل الكفار، ويرجع الكفار في منازلهم في النار، والإنسان المؤمن يريه الله عز وجل منزلاً في النار، ويقول له: هذا منزلك لو عصيت الله، والإنسان المؤمن يفرح بأنه أطاع الله وأنه لم يدخل هذا المنزل، والإنسان الكافر يدخل في هذا المنزل والعياذ بالله، والإنسان المؤمن يريه الله عز وجل منزله في الجنة ويقول له: هذا منزلك في الجنة وقد ورثناك منازل هؤلاء، لو أطاعوني لدخلوا هنا، ولكنهم لم يطيعوني وعصوني فدخلوا النار، وأنتم ورثتم هذه الجنة وأخذتموها بفضل الله وبرحمته سبحانه.
وما منكم من أحد إلا وله منزل في الجنة وله منزل في النار، والله عز وجل يتفضل على المؤمنين بأن يدخلهم الجنة ويورثهم جنات النعيم.
فهذا الإنسان المخلوق الضعيف الذي هذا أصله لا يحتاج الله عز وجل لعبادته؛ بل خلقهم سبحانه وتعالى ليبتليهم، وهذا الإنسان خلقه ليكرمه إن أطاع ربه، وليحقق مقتضى صفاته أنه الرحيم والقدير والعليم والحكيم والخبير سبحانه وتعالى، فيخلق المخلوقات ليحقق مقتضى هذه الصفات العلية له سبحانه وتعالى، فلا يحتاج إلى خلقه سبحانه ليعبدوه، فلن يزداد بعبادتهم شيئاً ولن ينقص بكفرهم شيئاً، ولكن خلقهم لنفعهم ولما فيه صلاحهم إن هم أطاعوه سبحانه.
قال تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِين) هذا أصل الإنسان، والإنسان هنا هو آدم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فهذا أصله أنه كان عدماً كان ماء وطيناً، فأوجد الله عز وجل منه هذا الخلق، وتركه من صلصال من طين ومن حمأ مسنون فترة، ثم نفخ فيه الروح سبحانه وتعالى، فكان أصل هذا الإنسان من سلالة من طين، قالوا: السلالة بمعنى: الصفوة، فكأن المقصود منه مني الإنسان، وقيل: السلالة من السلة واستخراج الشيء من الشيء، ولذلك الطين إذا أمسك بين الأصابع تسرب من بين أصابع الإنسان، فهو سلالة وخلاصة من شيء، أو شيء من طين، أي: ماء وتراب، بُلّ التراب فصار طيناً، فهذا الإنسان مخلوق من هذا الطين الذي لو أمسكته بين أصابعك وهو تراب وماء ما قدرت على جمعه، بل يتسلل من بين الأصابع، وقيل: النطفة سلالة، والولد سليل، أي: مأخوذ من هذه السلالة وما تفرع عنها، والطين أيضاً إذا عصرته بين أصابعك انسل وخرج منها، فالأصل أن الإنسان من سلالة من طين ثم صار إنساناً.
والإنسان عندما يمر بهذا الطين الذي يسيل في الشارع تراه يجتنب أن يصل إلى ثيابه منه، نقول له: هذا هو أصلك أنت، وأنت مخلوق من هذا الطين (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِين).
يقول العلماء: إنه ماء الرجل ومتوسط ما ينتجه الرجل في اليوم الواحد حوالي ثلاثمائة مليون حيوان منوي، وهي متجددة دائماً، ومتوسط ما يقذفه الإنسان في القذفة الواحدة من المني في الدفعة حوالي من (3-4 سم3) هذه الكمية القليلة ترى كم فيها من حيوانات منوية؟ فيها من أربعمائة إلى خمسمائة مليون حيوان منوي في الدفعة الواحدة، يدفعها الإنسان في جماع أو احتلام، والله عز وجل يختار واحداً فقط من هذه الحيوانات المنوية ليكون منه هذا الإنسان، وهذا الحيوان المنوي فيه صفات معينه في الرجل، وقد خلق الله عز وجل في المرأة منذ خلقها عدداً من البويضات، يقول العلماء: إن البويضات مخلوقة في المرأة تقدر بحوالي اثنين مليون من البويضات، فهي أول ما تنزل من بطن أمها فيها هذا العدد من البويضات، فتبدأ هذه البويضات تتناقص حتى تصل في سن الإنجاب من أربعمائة إلى خمسمائة بويضة فقط، وهذه الكمية كافية للإنجاب في مرحلة ما بين سن (12) إلى (50) سنة الذي هو سن اليأس للمرأة، وهذا العدد الذي قدره الله عز وجل في المرأة لا يزيد ولا يتخلق يومياً كما يحدث في حيوان الرجل، ولكنه ينقص حتى تصل المرأة إلى سن اليأس وتنفد هذه البويضات، ولا تقدر المرأة على الإنجاب بعد ذلك، فإذا حدث غير ذلك فهو من معجزات الله عز وجل في خلقه أن يوجد ذلك لمن يشاء سبحانه وتعالى، كما حدث لزوجة إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فقد أنجبت بعد سن اليأس.
فالله عز وجل خلق هذا الإنسان من هذه النطفة ومن هذه البويضة، وقد ذكر سبحانه أنه خلقه من أمشاج، والأمشاج هو اختلاط مني الرجل ببويضة المرأة، فيكون منها الصفات، صفات الذكور وصفات الإناث، وقد جاءت أحاديث عجيبة جداً عن النبي صلى الله عليه وسلم تبين لنا هذه المراحل، مع هذا الذي جاء في كتاب الله سبحانه وتعالى، وهذا الكلام العظيم الذي في كتاب الله وفي سنة النبي صلوات الله وسلامه عليه من الأحاديث جعل علماء الغرب يذهلون، وقد جاء في هذا المعنى أن رجلاً سمع ابن مسعود يقول: (الشقي من شقي في بطن أمه، والسعيد من وعظ بغيره)، فتعجب الرجل تعجب كيف يكون شقياً وهو في بطن أمه ولم يعمل شيئاً يصير به شقياً؟! فذهب الرجل إلى حذيفة بن أسيد الصحابي الفاضل رضي الله عنه يقول ذلك كالمنكر على ابن مسعود قوله: (الشقي من شقي في بطن أمه والسعيد من وعظ بغيره)، فقال له حذيفة بن أسيد رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة بعث الله إليها ملكاً فصورها، وخلق سمعها وبصرها وجلدها وعظامها، ثم قال: يا رب أذكر أم أنثى؟ فيقضي ربك ما شاء، ويكتب الملك، ثم يقول: يا رب رزقه؟ فيقضي ربك ما شاء، ويكتب الملك، ثم يخرج الملك بالصحيفة في يده فلا يزيد على ما أمر ولا ينقص)، وقوله: (ثنتان وأربعون ليلة) هذا العدد يذكره علماء الطب ويقولون: إن الجنين في الأسبوع السادس تخلق فيه هذه الأشياء، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم من علماء التشريح، ولم تكن عنده كاميرات تصوير يصور بها رحم المرأة ولا شيء من ذلك، ولكن الله سبحانه وتعالى هو الذي أوحى لنبيه صلى الله عليه وسلم حتى أخبره بهذا الأمر بهذه الدقة التي لم يعرفها العلماء إلا بالمتابعة والتشريح والمناظرة وهم بعد النظر في الأدلة العقلية قالوا: تخلق هذه الأشياء في الأسبوع السادس تقريباً، أما حديث النبي صلى الله عليه وسلم فذكر الليلة وقال: (إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة بعث الله إليها ملكاً فصورها) ويقول علماء متخصصون في ذلك: في نهاية الأسبوع السادس -أي: بعد الاثنتين والأربعين ليلة - تكون النطفة قد بلغت أوج نشاطها في تكوين الأعضاء، وهي قمة المرحلة الحرجة الممتدة من الأسبوع الرابع حتى الثامن، ثم يقوم الملك إلى هذه النطفة ويصور فيها هذه الأشياء في خلال هذه الفترة.
وهناك أحاديث أخرى جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا المعنى، كحديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه الذي قال فيه: حدثنا النبي صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق: (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سيعد، فوالذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها)، والحديث في الصحيحين.
وهذه الرواية رواية مسلم وفيها تفصيل دقيق جداً، أكثر مما جاء في صحيح البخاري ، والتفصيل الذي فيها قوله: (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد)، وهذا معنى كلام ابن مسعود رضي الله عنه: (الشقي من شقي في بطن أمه) أي: أنه معلوم عند الله من قبل خلق هذا الإنسان أنه شقي أو سعيد، وهذه من الأشياء الغيبية التي يجب أن نؤمن بها، فالله عز وجل خلق الخلق وعلم أن هؤلاء للجنة يصيرون وهؤلاء للنار يصيرون، وقدر أقداراً سبحانه وتعالى، ولكن لم يطلعنا على ذلك ولم نعلم ذلك، فالذي أمرنا به أن نؤمن بذلك ولا نتعرض له بالجدل الباطل.
إذاً: فالواجب علينا أن نؤمن بالقضاء والقدر، وليس معنى ذلك أن الإنسان يترك العمل ويقول: لو كنت مكتوباً من أهل الجنة فسأعمل للجنة، لا، فإن هذا من باب الجدل العقيم الذي يضيع الإنسان فيه عمره، وفي النهاية يموت على ذلك وقد ضاعت دنياه وأخراه، فالقضاء والقدر أمرنا بالإيمان به، أما العمل فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اعملوا فكل ميسر لما خلق له) فأمرنا ألا نتوقف عن العمل، والقضاء والقدر هو شيء كتبه الله عز وجل عنده، لم يطلع على ذلك أحداً من خلقه.
فعلى الإنسان المؤمن ألا يتعرض لأمر القضاء والقدر إلا بالإيمان به والتصديق واليقين، ثم يعمل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه لما سألوه عن ذلك: (اعملوا فكل ميسر لما خلق له).
فهنا في الحديث قلنا: (إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها) يعني: أنه في نهاية حياته لا يوفق لعمل أهل الجنة فيكون من أهل النار.
نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من عباده السعداء، ولا يجعلنا من عباده الأشقياء.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر