قال الله عز وجل في سورة المؤمنون: بسم الله الرحمن الرحيم، قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [المؤمنون:1-11].
والمناسبة بين آخر سورة الحج وبين بداية هذه السورة العظيمة: أنه في آخر سورة الحج يقول الله عز وجل: هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ [الحج:78]، فكأنه قال بعد ذلك: فإذا فعلتم ذلك فأنتم المفلحون، قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ [المؤمنون:1]، فهنا نجد جمال القرآن في الترتيب والنزول، فما نزلت سورة الحج ووراءها سورة المؤمنون إلا لحكمة ولترتيب بلاغي جميل، وهذا الذي بينه النبي صلى الله عليه وسلم عندما كان يعرض القرآن على جبريل، فقد كان يعرض عليه القرآن في كل سنة مرتباً بحسب ما نزل عليه، إلا في آخر سنة من حياته صلى الله عليه وسلم فقد عرض على جبريل القرآن مرتين.
وبهذا الترتيب الإلهي فإنك ستجد مناسبات بين خواتيم السورة وبين أول السورة التي تليها، وهنا مناسبة عظيمة وجميلة، فلما ذكر الله عز وجل في آخر سورة الحج أنه سمى المسلمين بهذا الاسم، والمسلم من أسلم نفسه لله، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول لنا كما في صحيح مسلم : (قد أفلح من أسلم، ورزقه الله كفافاً، وقنعه الله بما آتاه)، أي: قد أفلح الإنسان الذي دخل في هذا الدين، فأسلم نفسه، وأسلم وجهه، وأسلم قلبه لله رب العالمين، يحكم فيه بما يشاء، ويفعل فيه ما يريد، ولا يعترض على الله، فإذا رزقه الكفاف -أي: على قدر الحاجة، لا زيادة ولا نقصان- ورزقه الله سبحانه وتعالى القناعة مع الرزق الذي ساقه إليه، فإنه يقنع.
ولاحظ أن الفضل كله من الله عز وجل، فضل من الله سبحانه أن خلق الإنسان، وأن هداه للإسلام، وأن رزقه رزقاً حسناً سبحانه، وأن رزقه القناعة، فإذا قنع فقد جعله من المفلحين، فالفضل كله منه سبحانه، ولذلك صلى النبي صلى الله عليه وسلم على جنازة فحفظوا من دعائه صلى الله عليه وسلم للميت قوله: (اللهم أنت خلقتها، وأنت رزقتها، وأنت هديتها للإسلام، وأنت توفيتها، جئنا شفعاء فاغفر له)، فهذا الدعاء ذو الكلمات اليسيرة القليلة فيه إثبات هذه النعم لله سبحانه، فأعظم النعم على العباد الخلق، فهو خلقهم، والرزق، فهو رزقهم، ثم هداهم للإسلام، ثم توفاهم سبحانه وتعالى.
والوفاة بعدها البعث والحساب، فهو سبحانه قد هداهم قبل ذلك، وسيهديهم بعد ذلك لطريق الجنة بفضله وكرمه سبحانه.
فسورة المؤمنون من السور المكية -كما ذكرنا- وهي تتميز بخصائص السور المكية، حيث إن السور المكية تدعو الخلق إلى الله سبحانه وتعالى، فتهتم بأمر العقيدة، واليوم الآخر، وتذكر الأنبياء السابقين عليهم الصلاة والسلام، وتسرد بعضاً من سيرهم وقصصهم، وتذكر الجنة والنار، والآداب، والأخلاق الحسنة، والتربية، وكل هذا سنجده في هذه السورة العظيمة من أولها إلى آخرها.
قَدْ أَفْلَحَ ، و(قد) هنا للتحقيق والتأكيد، فهؤلاء مفلحون لا شك في ذلك، قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ، هؤلاء المؤمنون هم الذين جمعوا هذه الصفات العظيمة التي ذكرها سبحانه في العشر الآيات الأول من هذه السورة.
وستجد هذه الصفات متوافقة مع ما ذكر الله عز وجل من الصفات في سورة مكية أخرى، وهي سورة المعارج، فالصفات التي هنا أكدها هناك وزاد عليها شيئاً، فهنا قال عن جزاء من عمل بهذه الأوصاف: أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [المؤمنون:10-11]، وهنالك قال سبحانه وتعالى عنهم: أُوْلَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ [المعارج:35]، فهؤلاء هم الذين فازوا فدخلوا الجنة وأكرمهم الله عز وجل بها، فينبغي على كل مؤمن أن يحاول أن يكون مع هؤلاء الذين أفلحوا والذين يكرمهم الله عز وجل يوم القيامة ويقربهم إليه، والصفات هذه صفات عظيمة، لكنها سهلة التحصيل على من يسر الله عز وجل لهم ذلك.
قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ورد هنا الفلاح في حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (قد أفلح من هدي)، يعني: إلى هذا الدين، إلى هذا الإسلام، (قد أفلح من أسلم، ورزق كفافاً، وقنعه الله بما آتاه)، (أسلم) أي: أتى بخصال الإسلام، ودخل في هذا الدين، وسلم نفسه لله رب العالمين.
قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ [المؤمنون:1]، أي: الذين آمنوا بالله وصدقوا المرسلين، وآمنوا بملائكة الله وكتبه ورسله واليوم الآخر والقضاء والقدر، آمنوا بالله سبحانه فكانوا جنوداً لهذا الدين العظيم، يدعون إلى ربهم، فهم جاهدوا في الله حق جهاده كما ذكر الله في آخر سورة الحج، وهنا ذكر أن من جهادهم هذا أنهم خشعوا في صلاتهم، وقد قلنا: إن من أعظم الجهاد جهاد النفس، ولا تستطيع أن تجاهد أعداء الدين وأنت لم تجاهد نفسك، فالإنسان إذا جاهد نفسه وقهرها على الحق الذي يريده الله كان معاناً من الله سبحانه، وكان موفقاً من الله، فهو بعد ذلك يستطيع أن يجاهد أعداء الله بالسيف والسنان، بالحجة واللسان، أي: بالحجة والبيان، يجاهدهم جهاد القلب، وجهاد اللسان، وجهاد الجوارح والأركان، فهذا هو الذي تربى على هذا الدين، وجاهد نفسه وهواه.
فاحذر من رفع البصر إلى السماء وأنت تصلي أو تقرأ القرآن، أو وأنت تقنت وتدعو ربك، بل لابد أن يكون بصرك إلى الأرض.
وقد قيل: إن الصحابة رضي الله عنه الله عنهم كانوا يصلون ويرفعون أبصارهم إلى السماء، فنزلت هذه الآية: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ [المؤمنون:1-2]، فرموا بأبصارهم إلى الأرض، فهذا أصل الخشوع، يقولون: خشع بصره، أي: انكسر بصره، أي: تواضع ولم يرفع بصره، ولكنه وضعه في الأرض.
وقالوا: اختشع الإنسان، بمعنى: طأطأ رأسه وتواضع، فالمؤمن متواضع لله سبحانه، يطأطأ رأسه ويخفض بصره بين يدي الله سبحانه، وقيل: الخشوع قريب من الخضوع، إلا أن الخشوع يكون في البدن، وهو إقرار باستخذاء، والخشوع يكون في البدن والصوت والبصر، فالخشوع يكون في البدن، بأن يكون الشخص واقفاً فارداً نفسه في الصلاة، متواضعاً لربه سبحانه وتعالى، ففرق بين أنه يصلب قامته ويقف مستقيماً في صلاته، وبين أنه فارد صدره في الصلاة، فالمؤمن يكون واقفاً في الصلاة وقفة المتواضع لرب العالمين سبحانه، ويكون الخشوع في الصوت بألا يرفع صوته ولا يصيح في الصلاة، ولكن إذا كانت الصلاة جهرية فصوته تظهر عليه السكينة، ويظهر فيه الخشوع، ومن سمعه يحسب أنه يخشى الله، وهذا من أفضل الناس صلاة، أي: الذي إذا سمعت تلاوته تحسب أنه يخشى الله سبحانه وتعالى، وليس لكونه يحزن في الصلاة، أو يتغنى ويترنم ترنيمة حزينة، وإنما الصوت فيه دليل الخشوع، صوت فيه تواضع وفيه خشوع لله رب العالمين، فليس المقصود النغمة فقط.
فالخشوع قريب من معنى الخضوع، فيه يطأطئ رأسه ويتواضع، ويخفض صوته وبصره، فالخشوع يكون في البدن والصوت والبصر، قال الله عز وجل: خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ [القلم:43]، وقال سبحانه: وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا [طه:108].
والخشوع أيضاً يأتي بمعنى الخضوع، والتخشع: تكلف الخشوع لله سبحانه وتعالى والإخبات والتذلل، وأيضاً يأتي بمعنى: السهولة، وبمعنى: اليبس، قالوا: أرض خاشعة، أي: أنها تثيرها الرياح لسهولتها فتمحو آثارها، ومنه قوله سبحانه: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً [فصلت:39]، أي: متغبرة، متهشمة، يابسة، لا حياة فيها، ثم ينزل عليها الماء فيحييها الله سبحانه وتعالى.
فعلى المؤمن أن يكون خاشعاً في صلاته، روى الترمذي عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: (كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فشخص ببصره إلى السماء، ثم قال: هذا أوان يختلس العلم من الناس)، فهنا النبي صلى الله عليه وسلم يذكر أصحابه فرفع بصره إلى السماء، ثم قال لهم: (هذا أوان)، أي: حال سيأتي، مع أنهم ما زالوا مع النبي صلى الله عليه وسلم، وما زال العلم يأتيه من السماء، ولكن كأنه قرب رحيله صلوات الله وسلامه عليه، فيبتدئ الأمر يقل بعد ذلك قرن وراء قرن إلى أن يضيع من الناس أمر دينهم، وجاء في الحديث الآخر: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور العلماء، وإنما يقبضه بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رءوساً جهالاً، فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا).
وفي هذا الحديث يقول صلى الله عليه وسلم: (هذا أوان يختلس العلم من الناس حتى لا يقدروا منه على شيء)، فقال رجل من الأنصار كان على فقه وعلم، واسمه زياد بن لبيد الأنصاري : (كيف يختلس منا وقد قرأنا القرآن، فوالله لنقرأنه ولنقرأنه نساءنا وأبناءنا!)، يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: كيف يضيع منا هذا العلم ونحن قد حفظنا القرآن، وسنحفظه أولادنا ونساءنا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: (ثكلتك أمك يا
فهنا الرجل حباً في القرآن وحباً في الدين، وإظهاراً للمسارعة في طاعة النبي صلى الله عليه وسلم قال: سنحفظ القرآن، وسنحفظه أولادنا ونساءنا، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم رد عليه بالشيء الآخر: أن الله عز وجل إذا قدر شيئاً فليس من الممكن أن يرفع ما قدره سبحانه، قال له صلى الله عليه وسلم: (إن كنت لأعدك من فقهاء أهل المدينة، هذه التوراة والإنجيل عند اليهود والنصارى فماذا تغني عنهم؟!)، يعني: حتى لو أنكم حفظتم القرآن، ولكن إذا ضيعتم الخشوع فماذا يغني عنكم؟!
قال جبير -راوي الحديث-: (فلقيت
قال تعالى: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ [المؤمنون:1-2]، إذاً: هم في صلاتهم خاشعون، أي: في أثناء الصلاة، وفي سورة المعارج قال تعالى: الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ [المعارج:23]، فهم يواظبون على صلاتهم وخاصة صلاة الجماعة، لا يؤخرون الصلاة عن وقتها، وهم كذلك خاشعون في صلاتهم، فهنالك قال: الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ [المعارج:23]، وهنا قال: الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ [المؤمنون:2].
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر