اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الحج: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ * الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [الحج:34-36].
ذكر الله سبحانه تبارك وتعالى أنه جعل لكل أمة منسكاً أي: ذبائح يذبحونها وطاعات يفعلونها متقربين بها إلى ربهم سبحانه تبارك وتعالى، وكل أمة شرع الله عز وجل لهم عبادات يعبدون الله سبحانه تبارك وتعالى بها، فالذبائح كانت لكل أمة من الأمم يتقربون لله عز وجل بذبحها.
والنسك يأتي بمعنى العبادة والطاعة لله سبحانه تبارك وتعالى، فالأمم كلها وإن اختلفت شرائعهم يتفقون في أمر توحيد الله سبحانه وعبادة الله وحده لا شريك له.
قال الله: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ [الحج:34]، فالغرض من الذبح هو ذكر اسم الله سبحانه تبارك وتعالى.
ثم قال: فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ [الحج:34] الإله واحد فاعبدوه وحده لا شريك له، متقربين إليه بالصلاة، وبالذبح، وسائر الطاعات؛ فإذا أسلمتم لله عز وجل وأخبتم أي: أطعتم الله وتواضعتم وخشعتم لله سبحانه فلكم البشارة، قال: وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ [الحج:34].
وقد حصر الله عز وجل هذا الوصف في المؤمنين فقال: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [الأنفال:2-3]، وهنا ذكر هذه الأوصاف فقال: الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [الحج:35]، وقال الله سبحانه تبارك وتعالى في سورة الزمر: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [الزمر:23] فالمؤمنون صادقون مع الله سبحانه يخافون ربهم، يقرءون القرآن فتقشعر جلودهم وأبدانهم، وتلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله، فهم يعودون ويرجعون إلى الله سبحانه تبارك وتعالى، وكلما سمعوا ذكر الله اهتزت قلوبهم، فلما ذكروا الله ذكروا عذابه فخافوا، وذكروا رحمته فلانوا لله سبحانه تبارك وتعالى، ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [الزمر:23].
وجاء في الصحيح من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (إن الناس سألوا النبي صلى الله عليه وسلم حتى أحفوه في المسألة) يعني: يوم من الأيام رجل سأل النبي صلى الله عليه وسلم، ثم الثاني سأل، ثم الثالث سأل، وكان يكره السؤال صلى الله عليه وسلم، وكان يقول: (إن الله كره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال)، فلعل الإنسان يسأل عن شيء فيحرم على الناس من أجل مسألته، ومن كثرة التدقيق والأسئلة لعلهم يسألون عن أشياء لا يحل لهم أن يسألوا عنها، مثل الرجل الذي قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (أين أبي؟) أبوك قد مات فلماذا تسأل هذا السؤال؟ فلما سأل عن هذا قال له: (في النار)، فلو قال الثاني: أين أنا ويجيء وحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم بأن هذا في النار فتكون الفضيحة في الدنيا، فلما أكثروا من السؤال غضب النبي صلى الله عليه وسلم وقام ووقف على المنبر صلوات الله وسلامه عليه فقال للناس: (لا تسألوني عن شيء إلا بينته لكم ما دمت في مقامي هذا) وكان هذا القول منه قول غضب، والله عز وجل أوحى إليه بذلك، يعني اتركهم يسألوا وأجبهم عن الأسئلة التي يسألون عنها بما فيها، فلما رأوا غضب النبي صلى الله عليه وسلم وأن هذه مصيبة من المصائب جلسوا يبكون، يقول أنس بن مالك رضي الله عنه: (فلما سمع ذلك القوم أرموا ورهبوا أن يكون أمر قد حضر) يعني خشوا أن تكون مصيبة تحضرهم في هذا المقام، فرجعوا إلى أنفسهم وسكتوا، يقول أنس بن مالك رضي الله عنه: (فجعلت ألتفت يميناً وشمالاً فإذا كل إنسان لاف رأسه في ثوبه يبكي)، انظروا عقل الصحابة رضوان الله عليهم وإيمانهم، لما قال لهم: اسألوا، علموا أنهم أخطئوا في حق النبي صلى الله عليه وسلم، فجلسوا يبكون فيما بينهم وبين الله عز وجل، وليس رياءً، بل كل واحد مغطي رأسه بثوبه يبكي بينه وبين الله عز وجل، نادم على ما قال للنبي صلى الله عليه وسلم، فهذه أحوال الصحابة رضوان الله عليهم، ولعل بعضهم يخطئ في الشيء فيقوم الباقي يذكرونه فيرجعون إلى الله عز وجل تائبين منيبين إليه خاشعين، فمدحهم الله عز وجل على خشوعهم، وهنا ذكر المؤمنين فقال: الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ [الحج:35]، ومدح الله عز وجل الذين يدخلون في هذا الدين من قسيسين ورهبان بأنهم يعرفون أن هذا الدين هو الحق، ويعرفون ما يقوله النبي صلى الله عليه وسلم ولا يستكبرون؛ فإذا عرفوا الحق بكوا من ذلك، يقول الله عز وجل: وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ [المائدة:83]، وهؤلاء هم الذين عرفوا بشارات النبي صلى الله عليه وسلم وانتظروا بعثته، فلما سمعوا ما أنزل إلى النبي صلى الله عليه وسلم عرفوا صدق ذلك من كتبهم، فدخلوا في هذا الدين ولم يستكبروا، أما غيرهم ممن رفضه فقد استكبروا عن دين الله سبحانه تبارك وتعالى، فقال الله عن هؤلاء: وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ * وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ [المائدة:83-84] لماذا لا نؤمن وندخل مع القوم الصالحين؟ فمدحهم الله عز وجل على خشوعهم، وعلى إخباتهم، وعلى دخولهم في دين النبي صلى الله عليه وسلم، وهم يعرفون أنه الحق، وكان لهم أجران وليس أجراً واحداً، أجر على أنهم آمنوا بنبيهم عليه الصلاة والسلام، وأجر على أنهم آمنوا بنبينا صلوات الله وسلامه عليه.
قلنا: البدن تطلق على الإبل، وقد تطلق على البقر، فهذه البدن جعلها الله عز وجل من شعائر الله.
قال: لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ [الحج:36] يعني: بهيمة الأنعام لكم فيها خير، فالإبل تركبونها، وتأخذون من ألبانها، وتأخذون من أوبارها، وتنحرونها لله سبحانه.
قال: لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ [الحج:36] يعني: منافع دينية ودنيوية، فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ [الحج:36]الأصل في البدن أنها الإبل، فذكر كيفية نحرها، فقال: فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ [الحج:36] فينحر الجمل وهو قائم، والبقر والغنم تذبح مضجعة على الجانب الأيسر، وأنت تمسك السكين بيمينك وتذبحها، لكن الإبل تنحر قائمة، هذه هي السنة فيها، والنحر هو الطعن بنصل في اللبة يعني: في أسفل رقبة الجمل، وهذه الطعنة تقطع عروق القلب وقد تصل إلى القلب نفسه، فيسرع إزهاق الروح بذلك، وأما الذبح فيقطع العروق التي في الرقبة، وهي عروق القلب، ويقطع الحلقوم والمريء والودجين اللذين في جانبي الرقبة.
إذاً: السنة في الإبل النحر وهي قائمة واقفة صواف كما ذكر الله عز وجل، فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ [الحج:36] بمعنى: وهي قائمة على ثلاثة قوائم معقولة اليد اليسرى، فإذا أراد نحر الجمل يثني يده اليسرى ويربطها، فيقف على رجلين واليد اليمنى، فإذا طعنه لا يتحرك الجمل، ويسقط على جنبه.
قال الله: فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ [الحج:36] اذكروا اسم الله يعني: تسمون الله سبحانه تبارك وتعالى، أو تذكر اسمه فتقول: باسم الله أو تقول: الله أكبر، فتذكر الله عز وجل وأنت تنحر الجمل، وكذلك وأنت تذبح البقر.
وفي صحيح مسلم أن ابن عمر أتى على رجل وهو ينحر بدنته باركة يعني: معه ناقة ينحرها وهي باركة فقال: (ابعثها قياماً مقيدة سنة نبيكم صلى الله عليه وسلم) وكان ابن عمر يفعل ذلك رضي الله عنه، فعندما كان في شبابه وقوته كان يأخذ الحربة بيده فينحرها في لبتها، فلما أسن عبد الله بن عمر كان يصعب عليه ذلك، بسبب أنه ضعف لكبر سنه، فكان ينيخ الجمل وينحره وهو قاعد.
والنحر أو الذبح للأضحية أو الهدي لا يكون إلا بعد طلوع الشمس من يوم العيد، ولا يجوز قبل طلوع الشمس بإجماع العلماء في الأضحية.
والأضحية لا تكون إلا بعد صلاة العيد.
قال الله سبحانه: فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا [الحج:36] أي: إذا سقطت على الأرض تأكل منها، قال: فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ [الحج:36] (فكلوا منها) هذا أمر من الله عز وجل، وحمله جماهير العلماء على الاستحباب، فيستحب أن تأكل منها، وأن تطعم منها.
والقانع: هو الذي قنع بالسؤال، يعني: يمد يده ويسأل، والمعتر: هو الذي يعتريك ويمر بك لتراه فتعطيه على وجه الهدية، ومن هنا أخذ العلماء أنك تطعم البائس الفقير ثلثاً، وتهدي للذي لا يسأل ثلثاً، وثلث تأكل أنت منه، فتقسمها أثلاثاً، وما هو شرط أن تكون أثلاثاً متساوية.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر