اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الحج: وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ * وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ * ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ * ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [الحج:5-10] .
لما ذكر الله سبحانه وتعالى من آياته خلقه سبحانه وتعالى الإنسان، وكيف أن الله خلق الإنسان من نطفة ثم من علقة وكان قبل ذلك تراباً، ثم جعله مضغة، ثم جعله بعد ذلك جنيناً في بطن أمه، وأقره ما يشاء سبحانه وتعالى، ثم أخرجه طفلاً ثم بلغ الأشد، فمراحل تكوين الإنسان التي يراها كل إنسان، يرى كيف يكون حملاً في بطن أمه، ثم يزداد هذا الحمل شيئاً فشيئاً، ثم ينزل هذا الجنين من بطن أمه طفلاً، ومنهم من ينزل حياً، ومنهم من ينزل ميتاً، ومنهم من يبلغ أشده ويتوفى، ومنهم من يبلغ إلى أرذل العمر.
يقول سبحانه وتعالى: وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ [الحج:5]، ترى أرضاً جامدة، وأرضاً هامدة، وأرضاً يابسة جافة ينزل عليها الماء من السماء، فإذا بالله عز وجل يحييها بما أودع فيها سبحانه وتعالى من أسرار خلقه في بذور النبات، وفي جذوره وسيقانه، وإذا بهذه الأرض تنبت وتربو وتعلو، وينتفخ باطن الأرض بما فيها من بذور ومن نبات ومن جذور، وبدأت تعلو هذه الأرض. وقوله تعالى: وَرَبَتْ [الحج:5] هذه قراءة الجمهور، وقراءة أبي جعفر (وربأت) بمعنى ارتفعت الأرض، وهنا حصل فيها اهتزاز بما كبر بداخلها من بذور، وبما نمى بداخلها من جذور، وعلت الأرض فانتفخت وربت.
وقال تعالى: وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ [الحج:5] فترى أمامك الأرض الواحدة والماء الواحد الذي نزل من السماء، وإذا بالله يخرج من هذه الأرض فواكه شتى مشتبهاً وغير متشابه، والخلاق سبحانه تبارك وتعالى ينوع للخلق ما يشاء سبحانه، والإنسان يتفكر في ذلك، كيف أن الله خلق له ذلك ليتفكه به، وجعل له قوتاً من هذه الأرض، أفلا يشكر الله سبحانه وتعالى، ويعرف هذه الآيات، ويعرف أن خالقها هو الله وحده، المعبود وحده لا شريك له؟!
فقوله تعالى: وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ [الحج:5]، زوج هنا بمعنى: لون أو صنف، أي: أصناف بهيجة تعجب الناظرين، فيطعمها الإنسان فيجد الطعم اللذيذ من كل الطعوم، جعلها الله سبحانه وتعالى لهذا الإنسان، فلو كان شيئاً واحداً لمل الإنسان من هذا الشيء، ولكن جعل الله له من كل لون ومن كل صنف، فيأكل ويستمتع بما أخرج الله سبحانه وتعالى ويشكر ربه سبحانه.
قال تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ [الحج:6] وحده لا شريك له، وكل شيء يحتاج إلى الله الحق سبحانه، فما سواه باطل.
وقوله تعالى: وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى [الحج:6] وزعم الكفار أننا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر، ولن نعيش مرة ثانية، فقال تعالى: وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الحج:6] فالله يقول: هو الحق؛ ولأنه الحق فهو وحده القادر على إحياء الموتى، وهو على كل شيء قدير.
وقوله تعالى: وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ [الحج:7] بقدرته الباهرة وبعظمته القاهرة، يبعث من في القبور مرة ثانية للحساب والثواب والعقاب.
قال لهم ذلك وردوا عليه بأنهم لن يؤمنوا له صلى الله عليه وسلم، وإذا بـأبي جهل لعنة الله عليه يقوم ويقول للكفار: يا معشر قريش! إن محمداً قد أبى إلا ما ترون من عيب ديننا، وشتم آبائنا، وتسفيه أحلامنا، وشتم آلهتنا، وإني أعاهد الله لأجلسن له غداً بحجر ما أطيق حمله، فإذا سجد في صلاته رضخت به رأسه -يعني: شدخت وكسرت به رأسه- فأسلموني بعد ذلك أو امنعوني؛ فقالوا له: نحن معك، ولما أصبح أخذ الحجر، وسجد النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا به يتوجه إليه بحجر ما يطيق حمله، فكاد يهوي به، فإذا به يفزع، وتتيبس يداه، ولم يستطع إلقاء الحجر فجرى فزعاً من النبي صلوات الله وسلامه عليه! فإذا بالكفار يتعجبون فسألوه عما حدث فقال: لما دنوت منه -صلوات الله وسلامه عليه- عرض لي دونه فحل من الإبل، لا والله ما رأيت مثل هامته ولا مثل خصرته ولا أنيابه، وما رأيتُ مثله فحلاً قط، فهم بي أن يأكلني!
فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن ذلك الفحل هو جبريل نزل على هذه الصورة، ففزع أبو جهل وابتعد عن النبي صلى الله عليه وسلم، فلما علم النضر بن الحارث بذلك قال: يا معشر قريش! إنه والله قد نزل بكم أمر ما أتيتم له بحيلة، قد كان غلاماً حدثاً، وأصدقكم حديثاً، وأعظمكم أمانة، حتى إذا رأيتم في صدغيه الشيب وجاءكم بما جاءكم به، قلتم: ساحر، لا والله ما هو بساحر، لقد رأينا السحرة ونفثهم وعقدهم، وقلتم: كاهن ولا والله ما هو بكاهن، قد رأينا الكهنة وتخالجهم وسمعنا سجعهم، وقلتم: شاعر، لا والله ما هو بشاعر قد رأينا الشعر وسمعنا أصنافه كلها هجزه ورجزه، وقلتم: مجنون، لا والله ما هو بمجنون لقد رأينا الجنون فما هو بخنقه ولا وسوسته ولا تخليطه، يا معشر قريش فانظروا في شأنكم فإنه والله قد نزل بكم أمر عظيم، وكان هذا الرجل من شياطين قريش لعنة الله عليه، وكان ممن يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم، وكان كما ذكرنا قدم الحيرة ببلاد الفرس، وسمع منهم الأساطير من قصص رستم واسكنديار، فكان كلما جلس النبي صلى الله عليه وسلم إلى الناس يدعوهم إلى الله عز وجل، جلس هذا الخبيث يحدثهم بقصص رستم واسكنديار، وبعد ذلك يقول لقريش: يا معشر قريش! أنا والله أحسن حديثاً منه، فهلموا إلي فأنا أحدثكم أحسن من حديثه، ثم يحدثهم عن ملوك فارس ورستم واسكنديار، يحكي لهم قصص وخرافات، وهو الذي تبجح وقال: سأنزل مثلما أنزل الله، وقيل: إنه نزل فيه ثمان آيات، وقيل: أكثر من ذلك.
وقد قال الله سبحانه وتعالى في شأنه: إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ [القلم:15].
ولما تحيرت قريش في أمر النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: نبعث لليهود، وكانوا يسكنون قريبين منهم في مكان اسمه زفر، فقالوا: نبعث لهم ونسألهم عن النبي صلى الله عليه وسلم هل هو حق أم باطل؟ فأرسلوا إليهم النضر بن الحارث ومعه عقبة بن أبي معيط، إلى أحبار يهود زفر، فسألاهم عن النبي صلى الله عليه وسلم هل هو حق أم باطل؟ فإذا بحبر منهم يقول: سلوه عن ثلاثة أشياء، إذا أخبركم بها فهو نبي، وإن لم يخبركم بها فليس بنبي: سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ما كان أمرهم؟ فإنه قد كان لهم حديث عجب، وسلوه عن رجل طواف قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها وما كان نبؤه، وسلوه عن الروح.
وقدموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقالوا له: لو كنت نبياً حقاً فأخبرنا عن هذه الأشياء الثلاثة، فقال صلى الله عليه وسلم: غداً سأخبركم، فلبث خمسة عشر يوماً لم ينزل عليه الوحي تأديباً له صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لم يقل: إن شاء الله، ثم نزلت الآيات من سورة الكهف في ذلك، وأخبرهم ربنا سبحانه وتعالى عن أمر الروح، قال تعالى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء:85] .
وكان النضر بن الحارث ممن يجادل النبي صلى الله عليه وسلم بالباطل، وجلس مع النبي مرة فأفحمه النبي صلى الله عليه وسلم بكلام وتلا قوله تعالى: إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ [الأنبياء:98] فلما قال ذلك بهتوا كلهم وقاموا، وذهب النضر إلى عبد الله بن الزبعرى وقال له: إنا سمعنا النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك، وكان الوليد بن المغيرة بين القوم فقال: لم يستطع أحد أن يرد عليه؟! فالتفت إلى ابن الزبعرى فقال: لو كنت موجوداً لرددت عليه، وقلت له: إذا كنا وما نعبد حصب جهنم، فإننا نعبد الملائكة، فهل الملائكة تدخل النار؟ والنصارى يعبدون عيسى، فهل عيسى سيدخل النار؟ فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا ذلك له صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ [الأنبياء:101] .
إذاً: يفهم من هذه الآيات أن الذي يدخل النار من رضي بهذه العبادة دون من لم يرض بها، وعيسى والملائكة لم يرضوا بهذه العبادة من دون الله عز وجل، وقد قتل النضر بن الحارث صبراً في يوم بدر، فقد كان من أسرى يوم بدر، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم به فقتل، والذي قتله هو علي بن أبي طالب رضي الله تبارك وتعالى عنه.
وقوله تعالى: وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ [الحج:8] أي: ليس معه بينة من عند رب العالمين من آية أو وحي، وقوله تعالى: ثَانِيَ عِطْفِهِ [الحج:9] العطف: جانب رقبة الإنسان، يعني: يعوج رقبته لا يريد أن يسمع الحق، فهو مستكبر عنه.
إذاً: من صفات الإنسان المستكبر أنه حين يتكلم يعوج رأسه ويكلم الناس من علو كأنه أفضل منهم، وهي صفة موجودة في الكفرة وفي بعض المسلمين أيضاً، وكل هذا من جهل الإنسان بنفسه، وجهله بحقارة نفسه وأن أصله من تراب، وجهله بربه العظيم الذي أمره أن يتواضع، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من تواضع لله رفعه) وأبى الله سبحانه للمتكبر إلا أن يضعه، فالمتكبر يستشعر أن الذي معه ليس مع غيره، فهو يتعالى على غيره، ويتكبر حتى ينكس الله رأسه، فاحذر من الكبر واحذر من الغرور واحذر من ثني الرقبة.
إذاً: هو ضال مضل، ضال في نفسه مضل لغيره، ومعنى ليَضِل: ليزداد ضلالة وبعداً عن الله عز وجل، وليُضِلَّ: ليجعل غيره يبتعدون عن دين ربهم سبحانه.
وقوله تعالى: لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ [الحج:9] أي: كل إنسان متكبر لا بد أن يخزيه الله في الدنيا، وليس شرطاً أن يكون حالاً وسريعاً، فإن الله يقول: وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [الأعراف:183] ، يملي ربنا سبحانه وتعالى للمتكبر حتى يقصمه، فقوله: لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ [الحج:9] أي: يخزيه الله ويحقره ويضله.
وقوله تعالى: وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ [الحج:9] أي: عذاب الدنيا، ويوم القيامة نار جهنم والعياذ بالله.
نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصلِّ اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر