قال الله عز وجل في سورة الروم:
اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ * فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ * فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ [الروم:48-52].
يخبرنا ربنا سبحانه وتعالى في هذه الآيات عن رحمته في إرساله الرياح وإنزاله الأمطار بفضله وكرمه سبحانه، ويخبر عن تكوينها فيقول: اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ [الروم:48]، و(الله) هو الإله المعبود الذي خلق ورزق، والذي يرسل الرياح سبحانه وتعالى.
وقوله: (الذي يرسل الرياح) أي: هو الرب الفاعل القادر سبحانه وتعالى، وهو الصانع المربي، فالله كونه إلهاً فهو يستحق أن يعبد سبحانه وتعالى، فيعبر بلفظ الجلالة (الله) يعني: المعبود المستحق للعبادة، ويعبر عن ذلك بصفات الرب سبحانه وتعالى، فكونه رباً مقتضاه: أنه يخلق ويرزق، وأنه يفعل ما لا يقدر أحد على فعله إلا الله سبحانه وتعالى، فمن مقتضى ربوبيته أنه يرسل الرياح، وأن هذه الرياح تثير السحاب، وأن الله يبسط هذا السحاب في السماء كيف يشاء بقضائه وقدره.
قال تعالى: وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ [الروم:48] فهكذا يكون التكوين للأمطار بقدرة الرب سبحانه وتعالى، فالرب الذي يصنع هذا يستحق أن يعبد دون غيره من آلهة تعبدونها، لا يستطيعون أن يصنعوا شيئاً فهم اتخذوا من دون الله آلهة، فإذا سئلوا: هل هذه الآلهة تخلق وترزق؟ يقولون: لا، لا تصنع شيئاً، وإذا سئلوا من الذي يصنع ذلك؟ يقولون: الرب الذي في السماء سبحانه وتعالى يصنع ذلك، فيقال لهم: كيف يكون الرب هو الذي يصنع وترجون رحمته سبحانه أن ينزل عليكم المطر من السماء، وأن ينبت لكم الزروع والثمار، وأن يعطيكم أرزاقكم سبحانه، ثم تؤلهون غيره، فتدعون إلهاً غير الله، أو تشركون مع الله سبحانه وتعالى أحداً غيره؟!
فعبر ربنا بقوله: (الله) أي: الإله الذي يستحق العبادة هو الذي يصنع ذلك، وهو الذي يرسل الرياح. والرياح هي التي تثير السحاب، وتحرك السحاب من مكان إلى مكان، وهي التي تكون هذا السحاب بأمر الله سبحانه وتعالى.
فمياه الأمطار تكون على الأرض منها البحيرات، وهذه البحار الموجودة وغيرها من المياه تصعد إلى السماء بالتبخر، وتحملها الرياح شيئاً وشيئاً حتى تصعد إلى السماء كما عبر الله سبحانه وتعالى هنا، وعبر في سورة النور فقال: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ [النور:43].
وهذه من دلائل قدرة الله سبحانه وتعالى مع تذكيره الناس بقضائه وقدره، فالله يقدر ما يشاء ولا شيء يكون إلا بقدره وتقديره سبحانه، ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، فالسحاب يمتلئ بالمياه، ويشاء الله أن ينزل منها المطر فيكون ذلك، وقد يصرفه عمن يشاء، فتكون السحابات قد غيمت وامتلأت، والناظر ينظر إليها في السماء ملآنة بالمطر، فيظن نزول المطر فإذا بالسحابات تنصرف إلى مكان آخر، ولا ينزل المطر على هذا المكان الذي ظن أهله أن ينزل عليهم المطر، لذلك ليس كون السحابة مغيمة أو ممتلئة بالماء بلازم أن تنزل في هذا المكان، ولذلك يقول الله تعالى: فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ [النور:43]، فالأمر راجع إلى قضاء الله وقدره، وقد ينظر الإنسان إلى الشيء في متناول اليد، فيذهب ليأخذه فيضيع منه هذا الشيء، فالله يعطي من يشاء، ويمنع من يشاء، وكم من إنسان يرفع اللقمة إلى فمه، فتقع اللقمة على الأرض فما يأكلها مرة أخرى، فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ [النور:43] سبحانه تبارك وتعالى.
فالإنسان ينظر في حكمة الباري سبحانه وفي قدرته وفي آياته العظيمة، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وعبر الله عن السحاب في هذه الآية بقوله: (يجعله كِسَفاً)، وقال في سورة النور: ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ [النور:43]، والودق بمعنى المطر، يعني: قطرات المطر تخرج من خلاله.
ومن هنا قد يعبر بـ(الريح) عن (الرياح)، وبـ(الرياح) عن (الريح)، وهذه القراءة في كل القرآن على ذلك.
وذكر بعض أهل العلم ومنهم: أبو عمرو البصري أن الله سبحانه وتعالى يعبر بـ(الريح) ويعبر بـ(الرياح)، قال أبو عمرو : كل ما كان بمعنى الرحمة فهو جمع، وما كان بمعنى العذاب فهو موحد، هذا كلام أبي عمرو البصري ولم يصح ذلك عن النبي صلوات الله وسلامه عليه.
وكلام أبي عمرو البصري بناءً على قراءته هو، فهو يقرأ (الرياح) في مواضع، و(الريح) في مواضع، فيقول بناءً على ما فهمه مما قرأه من القرآن ومن كلام العرب: كل ما كان بمعنى الرحمة فهو جمع، يعني: كلمة (الرياح) جمع، فتكون بمعنى (الرحمة)، و(الريح) مفردة تأتي بمعنى العذاب، هذا كلامه، وواضح أن هذا الكلام ليس له نصيب من الصحة، وإن كان أخذ به بعض المفسرين؛ لأن الذي يتتبع القراءات في القرآن سيجد القرآن يعبر بـ(الريح) ويعبر بـ(الرياح) في الموضع نفسه، فيقرأ البعض من القراء (الريح)، ويقرأ البعض الآخر (الرياح)، فلا تغتر بهذا الكلام، فإن قراء القرآن لم يفرقوا بين هذا وذاك؛ لأن الآية واحدة والقراءة فيها قراءتان (الريح)، و(الرياح)، وعلى ذلك الريح تنزل الأمطار، والرياح كذلك تنزل الأمطار.
قال تعالى: فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ [الروم:48] أي: ينزل المطر من خلال هذا السحاب، والآية الأخرى عبرت عن ذلك في سورة النور بتعبير أوضح فقال تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ [النور:43]، فقوله: (يزجي) بمعنى: الدفع والتقريب شيئاً فشيئاً، وكأنه يسوق هذا السحاب سوقاً خفيفاً، فأنت لا ترى السحاب تجري وتلتحم بالأخرى فجأة، بل تراها تسير سيراً خفيفاً وكأنها لا تمشي، فقوله تعالى: (يزجي) أي: يدفع برفق شيئاً فشيئاً، قال تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ [النور:43] أي: يجمع بينه سبحانه وتعالى.
قوله تعالى: ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا [النور:43]، وقال في سورة الروم: وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا [الروم:48] أي: قطعاً، وهناك ذكر أن هذه القطع تتراكم بعضها فوق بعض، فترى: سحابة فوقها سحابة وفوقها سحابة، ولذلك يقول العلماء: إن السحابات إذا تراكمت بعضها فوق بعض تولد خلالها من الرياح ما يسحب هذه السحاب حتى يرتفع بعضها على بعض ويتجمع ويتكاثف إلى أن تصير كالجبال، لا يراها إلا من ركب الطائرة، فينظر إلى هذه السحابات كالجبال.
قال تعالى: ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ [النور:43]، الودق هو المطر ينزل من خلاله.
قال تعالى: وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ [النور:43] أي: أن الذي ينزل الثلج والبرد من السحاب إنما هو نوع واحد فقط من السحاب الذي يكون مثل الجبال، أما غيره فينزل الودق ولا ينزل البرد، وهذا يقول به العلماء الذين اكتشفوا ذلك، فقالوا: السحاب الركامي الذي كهيئة الجبال هو وحده الذي ينزل منه قطع البرد، أي: قطع الثلج، أما غيره من السحاب فينزل منه رذاذ، وينزل منه قطرات المطر.
وقد جاء حديث في صحيح مسلم يخبرنا فيه النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء من هذه الرحمة العظيمة من فضل الله سبحانه وتعالى، يخبر عن رجل يسير ويرى سحابة فوقه ويسمع فيها صوتاً، اسق أرض فلان -ويسمع الرجل الصوت من السحابة- اسق أرض فلان، فيتعجب هذا الإنسان! وينظر إلى السحابة ويراقبها فإذا بها تسير والرجل يسير وينظر أين ستسقي هذه الأرض، إلى أن رأى السحابة تتجمع في مكان بين مكانين مرتفعين، وتنزل المطر على هذا المكان، فيجتمع المطر في مكان واحد، ثم يسيل كله والرجل يمشي وراءه ويتتبعه حتى وصل إلى أرض إنسان يسقي هذا الماء من ماء المطر، فيذهب إلى صاحب الأرض ويسأله: ما اسمك يا عبد الله؟ يقول: أنا فلان، لم تسألني عن اسمي؟ قال: لأني سمعت في هذه السحابة الذي هذا ماؤها صوتاً يقول: اسق حديقة فلان، فتتبعته فوجدته إلى هنا، ما الذي تصنع فيها؟ يقول الرجل: أما إن قلت لي ذلك، فإني أزرع أرضي وآخذ ما يخرج منها فأقسمه أثلاثاً: ثلثاً أتصدق به، وثلثاً آكل منه أنا وعيالي، والثلث الثالث أجعله في الأرض، فهذا الرجل كان يقسم الأرض بينه وبين ربه سبحانه وبين الأرض نفسها، فثلث يرجعه في الأرض يزرعه مرة أخرى، وثلث ينفقه على الفقراء والمساكين لله عز وجل، وثلث ينفقه على نفسه وعياله، ومن كان بهذا الشأن لا يضيعه الله سبحانه وتعالى، ولقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (ما نقص مال من صدقة)، فالله عز وجل جعل له هذه الآية العظيمة؛ ليرينا آية من آياته سبحانه وتعالى.
قال تعالى: فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ [الروم:48] أي: تأتيهم البشرى فتراهم يفرحون، ويظهر عليهم أثر هذه البشارة من سعادة وفرح.
قال تعالى: فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ [الروم:50] على الجمع قراءة ابن عامر ، وحفص عن عاصم ، وحمزة والكسائي وخلف، وباقي القراء يقرءونها: فانظر إلى أَثرِ رحمة الله وهو: نتيجة الغيث، ونتيجة رحمة الله سبحانه تبارك وتعالى، والبشرى في وجوه الخلق والزرع والنبات والثمار، وما يخرج لهم من الأرض.
وكلمة (رحمت) مكتوبة بالتاء، ولذلك إذا وقف عليها الجمهور يقفون: فانظر إلى آثار رحمت فيقفون بالتاء، وهي تاء التأنيث هنا، ويقرؤها ابن كثير ، وأبو عمرو ويعقوب ، والكسائي في الوقف بالهاء فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ [الروم:50]، والكسائي إذا وقف عليها فإنه يميل فيها ويقول: (رَحْمِـةْ).
قال تعالى: كَيْفَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا [الروم:50] أي: انظروا إلى الأرض وقد ماتت وأجدبت، وإذا بالله يهزها ويحييها، وينمي فيها ما كان بداخلها بفضله ورحمته، فإذا رأيت كيف أحيا الله هذه الأرض، أفلا يحييك أنت وأنت منها؟! فالذي أحيا الأرض بعد موتها أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى [القيامة:40]، بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الأحقاف:33].
وقال هنا: إن ذلك الإله العظيم الرب القدير سبحانه وتعالى لقادر على ذلك، إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الروم:50]، فهو ليس على إحياء الموتى فقط قادر، بل هو قادر على إحياء الموتى وإماتة الأحياء وعلى كل شيء الله سبحانه وتعالى قدير.
وقوله: رأوه الضمير هنا يجوز أن يكون راجعاً إلى الريح، وكأن الريح التي تسير التراب تختلط به فترى الريح كأن لونها أصفر من التراب، فيكون المعنى: فرأوا الريح، ويحتمل أن يرجع الضمير إلى الأثر، فيكون المعنى: رأوا الأثر من هذه الريح الاصفرار، فإذا بالنبات الأخضر يموت ويذبل ويصبح أصفر بعد ذلك، فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا [الروم:51]، ويحتمل أن يرجع إلى السحاب بمعنى: أنهم يعرفون أن السحابة السوداء يوجد فيها الرياح وتنزل المطر، أما السحابة الصفراء فإنها لا تنزل شيئاً، فقوله تعالى: (فرأوه) يحتمل أن يكون عائداً إلى هذه الرياح، أو إلى هذه السحابات والأثر الذي فيها أو إلى الزروع وأثر الاصفرار الذي فيها، فإذا رأوا رياحاً صفراء، أو رأوا سحابات صفراء، أو رأوا الزرع أصفر؛ يئسوا وقنطوا وحزنوا على ذلك، وظلوا من بعده يكفرون.
وعجيب جداً حال الإنسان! إذا وجد الرزق والماء والطعام، ووجد من فضل الله ورحمته عليه في الدنيا، فإنه يفخر به، ويرتفع على غيره، ويكفر النعمة ولا يشكر الله سبحانه وتعالى، فإذا ضيق الله عز وجل عليه كفر نعمة الله عليه، وبدأ يشتكي من الله، فينسى أنه أعطاه قبل ذلك، وأنه سيعطيه بعد ذلك، ولكن يضيق سبحانه وتعالى على العبد حتى يلجئه إلى ربه، وحتى يجأر إليه، ويعرف النعم.
ولولا أن الإنسان يصاب بشيء من الضيق، لما كان يعرف فضل رحمة رب العالمين سبحانه وتعالى، وانظر لو أن إنساناً في نجاح دائم، لبغى وكفر وشعر أنه لا يحتاج إلى أحد، لكن حين يأتي عليه وقت فيه ضيق، ووقت يرسب فيه، فإنه سيشعر أنه محتاج إلى الله سبحانه وتعالى، ولو أن إنساناً في صحة دائمة، لبغى وكفر وشعر أنه لا يحتاج إلى أحد أيضاً، لكن حين يأتي على الإنسان شيء من المرض فإنه يرجع إلى ربه سبحانه ويشكر هذه النعمة، لذلك يقولون: لا يعرف النعمة إلا فاقدها.
فالذي يفقد النعمة يعرف نعمة رب العالمين سبحانه، فمن يتكلم لا يعرف نعمة الله عليه في الكلام إلا حين يفقد صوته، ومنهم من يعرف نعمة الصحة، فإذا أصابه المرض عرف أن هذا المرض شيء حجبه الله عز وجل عنه فترات ولم يشكر ربه سبحانه وتعالى على ذلك، فحين ابتلاه عرف هذا الشيء، والشيء يظهر حسنه ضده، ولذلك قالوا:
الضد يظهر حسنه الضد وبضدها تتميز الأشياء
فلولا السواد ما عرفت فضل البياض، ولولا المرض ما عرفت فضل الصحة .. وهكذا، فرحمة رب العالمين عظيمة، يبتلي العبد ويختبره حتى يرجع إليه، فيعطيه الله سبحانه وتعالى، فشكرك لنعمة الله أعظم عند الله من النعمة نفسها التي أنزلها عليك.
فالنعمة من الله، والشكر نعمة أخرى من الله أيضاً، ولذلك جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (ما أنعم الله على عبد من نعمة فشكره عليها، إلا كان شكره عند الله أحب إلى الله من النعمة نفسها)، فالنعمة التي أعطاك الله منه نعمة، والشكر نعمة من الله، هو الذي تفضل عليك بذلك، وأحب النعمتين إلى الله الشكر، فعود نفسك على شكر الله سبحانه، واحمد لله في السراء والضراء، فقد (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتته النعمة قال: الحمد لله رب العالمين)، وإذا حدث شيء وبلاء بالمسلمين قال: (الحمد لله على كل حال)، فحاله دائماً الحمد.
نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من عباده الحامدين الشاكرين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر