قال الله عز وجل في سورة النور: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ * لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ [النور:27-29].
فقالوا: إن الاستئناس من الإيناس، أي: أن تؤنس غيرك أو أن تجعله يأنس بك ويألفك ولا ينفر من دخولك عليه.
وجاء عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود أن ابن مسعود كان إذا دخل الدار استأنس فيتكلم ويرفع صوته، ومن في البيت يستشعرون أن أحداً آتٍ فيتهيئون لذلك.
وقد جاء عن مجاهد أنه قال: حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا [النور:27] أي: تتنحنحوا أو تتنخموا، وليس الغرض التنحنح ولا التنخم ولكن الغرض أنك لا تدخل البيت فجأة فيفزغ منك أهل البيت، فإذا أردت دخول البيت فعليك أن تؤنس أهل البيت، ثم تسلم عليهم، ثم تدخل.
وفي بيتك أيضاً عليك أن تستأنس وتستأذن وتدخل، إلا أن يكون داخلاً على امرأته أو العكس، فيجوز ذلك دون إذن، لكن دخول الابن على أبيه، أو البنت على أبيها أو على أمها، والابن على أمه أو على أخته فكل ذلك لا بد من الاستئناس والاستئذان؛ فإنه قد يدخل على وضع قد يتأذى ويكره صاحبه أن يراه أحد وهو على هذا الوضع.
يقول أهل العلم في ذلك: مد الله سبحانه وتعالى التحريم في دخول بيت ليس هو بيتك لغاية وهي الاستئناس وهو الاستئذان، وإن كان الراجح أن الاستئناس غير الاستئذان.
(تستأنسوا) أي: فتعلموا أهل البيت أنكم آتون بأي صورة من الصور، فيصبح أهل البيت يستشعرون أن هناك أحداً موجوداً فيتهيئون، فإذا سلم أجابوا وردوا عليه السلام.
وذكرنا قبل ذلك حديث أبي موسى الأشعري مع عمر رضي الله تبارك وتعالى عنهما، فقد أرسل عمر إليه فذهب أبو موسى واستأذن ثلاثاً، ولم يأذن عمر رضي الله عنه؛ لأنه كان مشغولاً، فبعد الثالثة انصرف أبو موسى الأشعري، فقال عمر بن الخطاب : ألم أسمع صوت الأشعري ؟ فقالوا: بلى، فقال: علي به، ائتوا به، فأتوا بـأبي موسى الأشعري رضي الله عنه فسأله عمر رضي الله عنه: ما منعك أن تأتينا؟ فقال: أتيت فسلمت ثلاث مرات فلم ترد علي فرجعت، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا استأذن أحدكم ثلاثاً فلم يؤذن له فليرجع) فأراد عمر رضي الله تعالى عنه أن يستيقن من ذلك فأمره بأن يأتي بمن يشهد له بذلك، فجاء أبو سعيد الخدري وأبي بن كعب وشهدا له بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك.
فعلى ذلك إذا استأذن الإنسان على أهل بيت فليستأذن ثلاث مرات وهذا أقصى ما فيه، وليس له أن يزعج أهل البيت بأكثر من ذلك، فإذا أرادوا أن يردوا عليه ردوا، وإذا لم يردوا عليه رجع وانصرف إلا أن يستيقن أنهم لم يسمعوا استئذانه فله أن يستأذن أكثر من ثلاث مرات، ولكن إذا سمعوا ولا يريدون مقابلتك فارجع، والله عز وجل يقول: وإَذْا قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا [النور:28].
فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن رجلاً من بني عامر استأذن النبي صلى الله عليه وسلم وهو في البيت فقال الرجل: أألج؟) يعني: أأدخل، وهذا ليس من أدب الاستئذان؛ فالأدب أن يبدأ بالسلام.
وجاء في حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من بدأكم بالكلام قبل السلام فلا تجيبوه)، ولأن ذلك هُوَ أَزْكَى لَكُمْ [النور:28] كما قال الله عز وجل.
يقول العلماء: إنما خص الاستئذان بثلاث؛ لأن الغالب من الكلام أنه إذا كرر ثلاثاً سمع وفهم؛ ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثاً، أي: إذا تكلم بكلمة وأراد أن يحفظوا هذه الكلمة أعادها ثلاثاً حتى يحفظوها، فالعادة أنه إذا تكرر الشيء ثلاث مرات فإنه يكفي فهماً وعرفاً، فالذي يستأذن ثلاث مرات يعرف أنه يستأذن فإما أن يسمح له بالدخول وإما ألا يسمح له.
وأيضاً جاء عنه صلى الله عليه وسلم: (كان إذا سلم على قوم سلم ثلاثاً)، وهنا لعل القوم عدد كبير فيريد أن يسمع الجميع فيسلم ثلاثاً، فلعله يظن أنهم مشغولون فلا يسمعون في المرة الأولى، فيسلم الثانية ويسلم الثالثة صلوات الله وسلامه عليه؛ ليسمع الجميع.
يقول أهل العلم: فإذا لم يؤذن له بعد الثالثة فقد ظهر أن رب المنزل لا يريد الإذن، فإذا ما أذن بعد ثلاث مرات - سواء كان الاستئذان بالتسليم، أو بالطرق على الباب، أو برن جرس الباب - فأهل البيت لا يريدون دخول هذا الضيف.
قالوا: أو لعله يمنعه من الجواب عذر، فربما أن صاحب المنزل في دورة المياه فيتأذى من كثر طرق الباب.
وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه ذهب إلى أحد الصحابة وهو عتبان بن مالك رضي الله عنه فأتاه صلى الله عليه وسلم واستأذنه، فخرج الرجل مستعجلاً، في رواية (أنه خرج يجر إزاره)، كأن الرجل كان يغتسل أو كأنه كان قد أتى أهله، فلما سمع صوت النبي صلى الله عليه وسلم لبس ثيابه وأسرع، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لعلنا أعجلناك)، وهذا من أدب النبي الكريم عليه الصلاة والسلام.
ولم يرد هنا أنه استأذن أكثر من ثلاث، أو أنه أمر الرجل بالخروج حالاً، ولكنه استأذن صلى الله عليه وسلم فسمع الرجل النبي صلى الله عليه وسلم فخرج متعجلاً.
وجاء عنه عليه الصلاة والسلام: (أنه أتى
وجاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ترك الناس العمل بالاستئذان. وكأنه يقصد في زمنه رضي الله عنه أن الناس تركوا العمل به؛ لوجود الأبواب على البيوت، فأصبح الذي في الداخل لا يسمع صوت التسليم فيحتاج أن يطرق الباب، فكأن هذا معنى كلام ابن عباس.
فقال العلماء: وذلك لاتخاذ الناس الأبواب فيصعب على الإنسان في هذه الأزمنة أن يأتي على باب العمارة مثلاً ويقول: السلام عليكم أأدخل؟ وهذا لن يسمعه أحد، فعليه أن يرن جرس الباب.
وجاء عن عبد الله بن بسر رضي الله عنه: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتى باب قوم لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه، ولكن من ركنه الأيمن أو الأيسر، ويقول: السلام عليكم السلام عليكم).
وهذا من الأدب، فأنت حين تطرق على الباب أو ترن الجرس ولا تقف بوجهك أمام باب الشقة؛ فلعل امرأة تفتح الباب فتنظر للداخل، أو لعل صاحب البيت يفتح فتنظر إلى داخل البيت، ولكن يجب أن تقف عن يمين أو عن شمال الباب بحيث يكون وجهك تلقاء الحائط وليس تلقاء الباب.
وقد كان عليه الصلاة والسلام يفعل ذلك؛ بسبب أن الدور لم يكن عليها يومئذ ستور، فإن كان الباب مغلقاً فله أن يقف حيث شاء منه ويستأذن وإن شاء دق الباب؛ لما رواه أبو موسى الأشعري رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في حائط بالمدينة على قف في البئر، فمد رجليه في البئر، فدق الباب
فكان النبي صلى الله عليه وسلم في حائط، أي: في بستان جالساً على بئرٍ، وكأن الجو كان حاراً فأراد أن يبرد رجليه بداخل البئر صلوات الله وسلامه عليه، والبستان له باب، فجاء أبو بكر رضي الله عنه فطرق الباب لأنه أتى من بعيد وطرق الباب حتى يسمع من بالداخل.
يقول الإمام القرطبي : صفة الدق أن يكون خفيفاً بحيث يُسمع، ولذلك ثبت في حديث عن أنس بن مالك قال: (كانت أبواب النبي صلى الله عليه وسلم تقرع بالأظافر) أي: أن الصحابة لما كانوا يأتون إلى النبي صلى الله عليه وسلم لا يطرقون الباب بأكفهم، ولكن يطرقون الباب بأظافرهم، وهذا من الأدب.
ويتحكم في مثل هذا الشيء اختلاف المكان، وبحسب سماع أهل البيت.
وجاء عن عمر بن الخطاب (أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو في مشربة له فقال: السلام عليك يا رسول الله! أيدخل
وكذلك في التلفون فبعض الناس أحياناً عندما يتكلم لا يذكر اسمه ظناً أن الذي يتكلم معه يعرفه، فهذا مما لا ينبغي، فعلى الإنسان أن يتواضع، وأما الذي يستكبر فيحس أن كل الناس يعرفونه بمجرد أن يتصل بالتلفون، فالإنسان يجب عليه أن يتواضع ويستشعر في نفسه أن غيره أفضل منه، فمن تواضع للناس يرفعه الله سبحانه وتعالى، قال عليه الصلاة والسلام: (ما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً، ومن تواضع لله رفعه الله).
وقد جاء عن الصحابة والتابعين آثار في هذا الأمر: فـأبو موسى الأشعري جاء إلى عمر بن الخطاب يستأذن وقال: السلام عليكم هذا أبو موسى، السلام عليكم هذا الأشعري ثلاثاً، فيذكر نفسه، فربما ما سمع الأولى فيسمع الثانية أو الثالثة، فذكر اسمه ووصفه رضي الله تبارك وتعالى عنه.
وذكر الخطيب البغدادي في جامعه عن علي بن عاصم الواسطي قال: قدمت البصرة فأتيت منزل شعبة بن الحجاج رضي الله عنه، وهو من أمراء وأئمة المؤمنين في الحديث، قال علي بن عاصم : فدققت عليه الباب، فقال شعبة : من هذا؟ قال: فقلت: أنا، فقال شعبة : يا هذا ما لي صديق يقال له أنا! ما أعرف أحداً اسمه أنا، ثم خرج إلي رضي الله عنه.
وذكر عمر بن شبة حدثنا محمد بن سلام عن أبيه قال: دققت على عمرو بن عبيد الباب فقال لي: من هذا؟ فقلت: أنا، فقال: لا يعلم الغيب إلا الله.
وجاء عن كثير من السلف كراهة أن يصف الطارق نفسه ويقول: أنا، ولكن يقول: أنا فلان، أو يقول: فلان.
وجاء في سنن أبي داود: (أن
وجاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من بدأكم بالكلام قبل السلام فلا تجيبوه).
وجاء عن أبي هريرة قال: إذا قال الرجل: أأدخل؟ ولم يسلم، فقل: لا، حتى تأتي بالمفتاح وهو: السلام عليكم. فالذي يريد أن يدخل يأتي بمفتاح الدخول وهو: الاستئذان مع التسليم.
وجاء عن حذيفة أنه جاءه رجل فنظر إلى ما في البيت -بسبب أن الباب كان مفتوحاً- فقال: السلام عليكم أأدخل؟ فقال حذيفة رضي الله عنه: أما بعينك فقد دخلت، وأما استك فلم تدخل، أي: ما دخلت وقعدت بمقعدتك ولكن بعينك قد دخلت.
وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين من حديث سهل بن سعد : أنه اطلع رجل من جحر في حجرة للنبي صلى الله عليه وسلم ومع النبي صلى الله عليه وسلم مدراة يحك بها رأسه - أي: كان معه عود يحك بها رأسه صلى الله عليه وسلم، والرجل ينظر من خرم في الجدر على النبي صلى الله عليه وسلم- فقال صلى الله عليه وسلم: (لو أعلم أنك تنظر لطعنت به في عينك، إنما جعل الاستئذان من أجل البصر).
يقول الإمام القرطبي هذه الأحكام كلها إنما هي في بيت ليس لك، فأما بيتك الذي تسكنه الذي فيه أهلك فلا إذن عليك، إلا أنك تسلم إذا دخلت، وعند الدخول على المرأة يفضل أن يستأنس؛ لعله يرى منها ما يكره، كأن تكون المرأة في غير حالة الاستعداد لأن يراها الزوج، فلعلها تتأذى بهذا الشيء، فقد كان ابن مسعود يقول: السلام عليكم حتى يشعروا أنه موجود، فتقوم زوجته تتهيأ لاستقبال زوجها، وخاصة إذا كان قادماً من سفر.
يقول قتادة : إذا دخلت بيتك فسلم على أهلك؛ فهم أحق من سلمت عليهم، فإن كانت التي تدخل عليها أمك أو أختك قالوا: تنحنح واضرب برجلك؛ حتى تنتبه لدخولك.
قال قتادة : لأن الأهل لا حشمة بينك وبينها -ويقصد بالأهل: الزوجة- قال: أما الأم والأخت فقد يكونا على حالة لا تحب أن تراهما فيها.
ولذلك قال مالك رحمه الله: ويستأذن الرجل على أمه وأخته إذا أراد أن يدخل عليهما.
روى عطاء بن يسار (أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أستأذن على أمي؟ قال: نعم. قال: إني أخدمها -يعني: أستأذن وأنا أخدمها؟- فقال: استأذن عليها. فعاوده ثلاثاً، فقال: أتحب أن تراها عريانة؟ فقال: لا. قال: فاستأذن عليها)، الحديث رواه مالك في موطئه بإسناد رجاله ثقات، ولكنه مرسل عن عطاء، وعطاء بن يسار من كبار التابعين.
وإذا دخل بيتاً وليس فيه أحد فيستحب أن يسلم على نفسه؛ لعموم قوله سبحانه وتعالى: فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً [النور:61]، فاستحب أهل العلم أن يقول: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، فقال قتادة : إذا دخلت بيتاً ليس فيه أحد فقل: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، فإنه يؤمر بذلك، وهذا صح عن ابن عمر رضي الله عنه، ورواه البخاري في الأدب المفرد، ورواه ابن أبي شيبة بسند حسن عن ابن عمر رضي الله عنه بهذا المعنى: إذا دخلت بيتاً ليس فيه أحد فقل ذلك، وليس على سبيل الوجوب، ولكن استحباباً، وذُكر أن الملائكة ترد عليهم.
قال الله عز وجل: ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النور:27] يعني: هذا التسليم والاستئناس أخير وأفضل لكم لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النور:27]، والذكرى ضد النسيان، وتتذكر أي: تتعظ، وفيها قراءتان لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النور:27]، وهي قراءة حفص عن عاصم ، وحمزة ، والكسائي ، وخلف، و(لعلكم تذَّّكَّرون) بالإدغام وهذه قراءة باقي القراء، والمعنى أنك تتذكر بهذه الموعظة فلا تنساها، فتعمل بها فتؤجر عليها.
نسأل الله عز وجل أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر