قال الله عز وجل في سورة النور: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ * وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ * وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ * وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ [النور:6-10].
فالرجل يقول: إنها فعلت هذه الفاحشة، والمرأة تكذب ذلك ولكن بصورة معينة جاءت في هذه الآية، فأحدهما سيشهد بالله أربع شهادات إنه لمن الصادقين فيما رمى به امرأته من ذلك، والشهادة الخامسة أنه يدعو على نفسه بلعنة الله عز وجل إن كان من الكاذبين.
فإذا قال الرجل ذلك وجب على المرأة العذاب، ويدرأ عنها أنها تجيب وترد على هذه الدعوى بأن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين فيما يقول، وقد قدمنا في الحديث السابق أن العلماء اختلفوا في أن أيمان الملاعنة التي ذكرت بصيغة الشهادات هل هي أيمان بصيغة الشهادة أم هي شهادة بصيغة الأيمان؟ والجمهور على أنها أيمان بصيغة الشهادات؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حلّف الرجل والمرأة، فقال: (لولا الأيمان لكان لي ولها شأن) ففي الحديث بيان أن هذه أيمان.
وذهب الأحناف إلى أنها شهادة، وعلى ذلك لا تكون الشهادة إلا ممن هو أهل للشهادة، فالعبد لا تقبل شهادته؛ لأن العبد ليس أهلاً للشهادة، هذا عند الأحناف.
واحتج الجمهور بما قاله النبي صلى الله عليه وسلم، والأحناف ذكروا أنها شهادة واحتجوا بهذه الآية: وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنفُسُهُمْ [النور:6]، قالوا: إن الأصل في الذي يقذف المحصنة أنه لابد أن يأتي بأربعة شهداء، وهنا قام الرجل مقام الأربعة الشهود، فهو الآن شاهد، ولكن لولا أنه جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم تسميتها بالأيمان لكان قول الأحناف قولاً وجيهاً.
فهنا الرجل قذف امرأته والمرأة كذبته، فالنبي صلى الله عليه وسلم وعظ الاثنين: (الله يعلم أن أحدكما كاذب) أي: لا يمكن أن يكون الاثنان صادقين، فأحدهما كاذب، فذكر النبي صلى الله عليه وسلم وذكر المرأة والرجل وقال: (إن عذاب الآخرة أشد من عذاب الدنيا) ففي الدنيا كان الرجم شديداً، ولكن ما في الآخرة أشد وأفظع، فلما قال ذلك صلى الله عليه وسلم قال هلال : (والله لقد صدقت عليها، فقالت: قد كذب) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لاعنوا بينهما)، فهذا الحكم الذي في كتاب الله عز وجل فطبقوه، (فقيل لـ
وقضى النبي صلى الله عليه وسلم في هذه القضية بألا يدعى ولدها لأب، ولا ترمى، فيقال: ابن أبيه، أو يدعى لأمه: فلان بن فلانة، لكنه ليس لفلان هذا، قال: ولا ترمى المرأة؛ لأنه لم يثبت عليها شيء، فلا ترمى المرأة ولا يرمى ولدها، لكن لو حصل أن شخصاً عيرها وقال لها: أنت زانية ما النتيجة؟!
قال: (ومن رماها أو رمى ولدها فعليه الحد)، فقد حصلت الملاعنة بين الرجل والمرأة فحكمهما مؤخر إلى يوم القيامة، فالله عز وجل يفصل بينهما، ولكن في الدنيا لو أن إنساناً رمى هذه المرأة حتى ولو كان يوجد هناك شيء يفيد أن هذه المرأة هي فعلاً وقعت في هذا الشيء فليس لأحد أن يرميها، فإن فعل أحد ذلك أقيم عليه الحد، كذلك الولد الذي جاء لا يدعى لأب، ولكن إذا رماه إنسان بالزنا فإنه يقام عليه الحد بذلك.
قال: (وقضى ألا بيت عليه ولا قوت؛ من أجل أنهما يفترقان من غير طلاق ولا متوفىً عنه)، وهنا حكم آخر، (فقضى ألا بيت لها)، يعني: أن المرأة المطلقة لها النفقة والسكنى إذا كانت في فترة العدة، فالمرأة التي طلقت مرة أو مرتين لها النفقة والسكنى، ولا نفقة ولا سكنى للمرأة بعد الطلقة الثالثة.
فقوله: (ولا قوت؛ من أجل أنهما يتفرقان من غير طلاق ولا متوفى عنه)، فيه بيان أن المرأة المطلقة لها النفقة والسكنى على التفصيل الموجود عند الفقهاء، والمتوفى عنها كذلك.
ثم أشار في الحديث إلى شيء ليبين أن المرأة ستكون صادقة أو كاذبة فقال: (إن جاءت به أورق، جعداً، جمالياً، خدلج الساقين، سابغ الإليتين فهو للذي رميت به)، فالنبي صلى الله عليه وسلم نظر إلى زوجها هلال، ونظر إلى شكل شريك بن سحماء فإذا هو رجل غليظ سمين، فقال: -ولم يقل ذلك لكل الناس وإنما للبعض- إذا جاء هذا الولد (أورق، جعداً، جمالياً خدلج الساقين، سابغ الإليتين، فهو للذي رميت به، فجاءت به على هذا النعت)، أورق يعني: أسمر، وجعداً يعني: شعره ليس ناعماً، جمالياً يعني: ممتلئ، خدلج الساقين أي: رجلاه يخينتان وسمينتان، وسابغ الإليتين أي: مقعدته سمينة، (فهو للذي رميت به).
فهنا أشار النبي صلى الله عليه وسلم لشيء ومع ذلك فالحكم باق، وهو أن الذي يرمي هذه المرأة حتى ولو ظهر الولد الذي جاءت به يشبه الذي وقعت المرأة به ليس لأحد أن يرمي المرأة، ولا أن يرمي الولد، ومن فعل أقيم عليه الحد قال: (فجاءت به أورق، جعداً، جمالياً، خدلج الساقين، سابغ الأليتين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لولا الأيمان) وهنا سمى هذه الشهادة يميناً، فأخذ الجمهور بهذا، قال: (لولا الأيمان لكان لي ولها شأن).
قال عكرمة : عن ابن عباس : فكان بعد ذلك أميراً على مصر وما يدعى لأب، يعني: أميراً على قطر من الأقطار، فهذا الولد كبر وفاق غيره وصار أميراً في يوم من الأيام، ومع ذلك لا يعرف أبوه، فلو أنه مات فأمه هي التي ترثه، وهذه هي المسألة الوحيدة التي فيها: أن الأم تكون عصبة للابن، فالأم تأخذ كل الميراث في هذه المسألة، فلو أنه مات أخذت الأم نصيبها ونصيب الأب في هذه المسألة، والغرض أن هذا صار أميراً في يوم من الأيام ولا أحد يرميه بشيء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك.
يقول الإمام القرطبي رحمه الله في ذلك: إذا نفى الرجل الحمل فإنه يلاعن، يعني: غاب عنها فترة طويلة ثم جاء فإذا بها حامل فهنا يجوز له أن يرميها في هذه الحال، قال: فإذا نفى الحمل فإنه يلاعن، فيقول: هذا ليس ابني، فتكون الملاعنة بين الاثنين لإثبات ذلك.
يقول القرطبي رحمه الله: واللعان عندنا يكون في كل زوجين حرين كانا أو عبدين، مؤمنين أو كافرين، فاسقين كانا أو عدلين، ومبنى ذلك على أن الملاعنة هي أيمان وليست شهادات، فأي إنسان فإنه يصح أن يحلف، والمرأة كذلك تلاعن إذا نفت عنها التهمة، فمن يقول: إنها شهادة فلا تصح الملاعنة إلا إذا كانوا من أهل الشهادة، وإذا كانوا ليسوا من أهل الشهادة فلا يقام ذلك.
فـالقرطبي يقول: وعندنا وعند الشافعي هي يمين -وهذا قول الجمهور أيضاً- أنها يمين، وهذا هو الأرجح من ناحية الدليل.
يذكر العلماء هنا مسألة: وهي لو أن إنساناً تزوج امرأة ثم طلقها، وبعدما طلقها قذفها، فهل تحصل بينهما ملاعنة أم أنه يقام عليه الحد لأنه الآن صار غريباً؟ قالوا: ننظر في ذلك هل المرأة حامل أو لا، أي: الرجل عندما طلق المرأة هل كانت حاملاً؟ فإذا كانت حاملاً فله أن يلاعن؛ لأن الملاعنة هنا إنما هي لنفي نسب هذا الولد، حتى لا تنسبه إليه، وإذا لم تكن المرأة حاملاً وانتهت عدتها فبعد انقضاء العدة ليست زوجة له، وفي خلال العدة قد يجوز للرجل أن يراجع امرأته إذا كانت له مراجعة، فإذا انتهت العدة صار غريباً عنها، فإذا قذفها لا يقال: لا بد من ملاعنة بين الاثنين، وإنما يقال له: البينة أو حد في ظهرك.
وهنا مسألة: الملاعنة لا تكون بين الزوجين في بيت من البيوت مثلاً، وإنما يتلاعنا عند القاضي، فالقاضي هو الذي يفعل ذلك، وهو الذي يفرق بين الاثنين، والملاعنة حكم خطير جداً يبنى عليه التفريق الأبدي بين الاثنين؛ فعلى ذلك لابد من حضور الاثنين عند القاضي ليقوم بذلك، وليس لآحاد الناس أن يفعل ذلك.
كذلك من المسائل: إذا شهد أربعة على امرأة بالزنا أحدهم زوجها، الزوج ومعه ثلاثة آخرون شهدوا بذلك، فهل يحسب الزوج شاهداً فيقام عليها الحد أم أن الرجل يلتعن مع المرأة؟
يقول العلماء: إذا شهد أربعة على امرأة بالزنا أحدهم زوجها فإن الزوج يلاعن، فلا بد من ملاعنة بين الرجل وبين امرأته، والشهود ليس لهم قيمة الآن، فلابد من أربعة شهود حتى يثبت قول الرجل، ويقام على المرأة حد الملاعنة.
الدليل قول الله عز وجل: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ [النور:4] فهنا الرجل رمى المرأة ولابد له من أربعة شهود يشهدون على المرأة أنها زنت، فذهبوا وشهدوا أمام الحاكم وقالوا: رأينا فلانة تزني وهنا الآن أربعة شهود شهدوا فيقام عليها الحد الرجم.
من المسائل التي ينقلها الإمام القرطبي عن ابن العربي المالكي يقول: من غريب أمر هذا الرجل -يقصد الإمام أبا حنيفة- أنه قال: إذا قذف زوجته وأمها بالزنا أنه إذا حد للأم سقط حد البنت، وإن لاعن البنت لم يسقط حد الأم، قال ابن العربي : وهذا لا وجه له، وما رأيت لهم فيه شيئاً يحكى، وهذا باطل جداً، فإنه خص عموم الآية في البنت وهي زوجة بحد الأم من غير أثر ولا أصل قاسه عليه.
قلت: الإمام القرطبي ينقل هذا الكلام عن ابن العربي المالكي، وابن العربي أحياناً يكون غير منصف في كلامه، والعجب أن القرطبي ساق هذا الكلام دون أن يبين وجه الصواب، والصواب: أن هذه المسألة هي نفسها التي ذكرناها قبل ذلك في الخلاف بين أبي حنيفة والجمهور من أن الملاعنة هل هي شهادة أو أيمان، فبناها على هذا الأصل، وهنا قول ابن العربي المالكي أن الإمام أبي حنيفة ليس له أصل يرجع إليه غير صحيح، بل له أصل يرجع إليه، وكان المفروض أن الإمام القرطبي ينبه على ذلك.[النور:4]
والمسألة: لو أن الرجل رمى امرأته بالزنا وقال: يا زانية يا بنت الزانية! فشتمها بذلك، فهو رماها ورمى أمها، فمذهب الإمام أبي حنيفة أنه إذا قذف الرجل الزوجة وأمها فإن حد للأم سقط حد البنت، وإن لاعن البنت لم يسقط حد الأم؛ لأنه يرى أن الملاعنة شهادة وليست أيماناً، فإذا حد لأجل الأم أصبح فاسقاً لا تقبل شهادته في ابنتها، لأن الله يقول: وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ [النور:4] الآية.
فعلى ذلك لا يصلح أن يتلاعن مع المرأة، فالرجل مشى على أصله رحمة الله عليه في ذلك، فالخلاف في الأصل وليس في هذا التفريع، فكلام ابن العربي ليس بصواب، وقوله: إنه كلام باطل، وأثر غريب، ولا أصل قاسه عليه ولا نظر، هذا كلام خطأ من ابن العربي كعادته إذا لم يعجبه الرأي شن على صاحبه.
وذكرنا ذلك لبيان أن القرطبي كان المفروض عليه أن ينبه في المسألة أن أبا حنيفة له أصل يرجع إليه.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر